فقر .. وذل .. وهوان .. ما ينوء به الشعب
إذا كان الشعب الأردني ما زال يتمتع بذاكرة قوية ، فلن يكون بمقدوره نسيان تلك الموروثات الخالدة من المعاناة وحياة التقشف والقرف التي تُفرض عليه بين حين وآخر .. وكأن هذا الشعب المغلوب على أمره هو المسئول الوحيد عن النكسات الاقتصادية التي عصفت بالأردن منذ عهد آخر حكومة فاسدة استشرى عبثها باقتصادنا وبمؤسساتنا الوطنية التي كانت من منظورنا على الأقل هي عصب اقتصادنا في هذا البلد الذي يفتقر إلى أي نوع من الموارد الاقتصادية ..
ومن المؤسف حقا بأن سكان هذا الوطن قد آمنوا إيمانا مطلقا بأن حياتنا كمواطنين مرهونة بهبات وصدقات ومساعدات الدول الشقيقة الثرية وتفضلها علينا .. والتي لا تتأتى بالضرورة عن قناعة من حكامها بلزوم دعم الأردن كبلد عربي يقال بأنه (شقيق)، وإنما تجيء في الغالب مقابل صفقات سياسية قد لا يعلمها كثير من المواطنين العاديين.. كما لا يسمح لأي مواطن أبدا الكفران بهذه النعمة التي تجيئهم على شكل صدقات أو مساعدات من الدول الشقيقة ذات الثراء الفاحش ، والتي لا تتحرج في إنفاق وتبديد معظم ثرواتها كما هو معروف للملأ في مواخير الغرب ، لأن الكفران بها يعني أن يقعد الأردنيون على مفترق طرق أو يخرسوا ألسنتهم إلى الأبد ، ولا ينبسون ببنت شفة .. عندها فلن يكون أمامهم سوى خيارين اثنين لا ثالث لهما، فإما أن يبيعوا الوطن كله ثمنا لخبزهم ولقمة عيشهم.. وإما أن يقتلهم الموت جوعاً، وهم على فراشهم.
لكن من المدهش لكل إنسان عاقل .. أن يرى تلك المساعدات والهبات التي تنهال على بلدنا ، تُبدَّد بسرعة البرق ، فمنذ ساعة دخولها إلى بنوكنا ، ينتهي كل شيء ، والأغرب من ذلك كله هو أنه لم يكن بوسع المواطن الأردني الإحساس بما يحصل أبدا .. مئات الملايين تجيء ما بين فترة وأخرى من كل دول العالم الداعمة للاقتصاد الأردني ، وبالرغم من تتالي هذه المساعدات ، نرى بأن حجم المديونية يزداد يوما عن يوم .
وإن ما تقشعر له جلودنا مما نراه عندنا.. ما بين فترة وأخرى.. هو أسوأ من أن نبدي عجبنا مما يصيبنا من هموم واضطراب نفسي ، فلا تكاد تنقضي فترة زمنية طالت أم قصرت ، إلا ونفاجأ بقرار حكومي برفع أسعار المواد والسلع الضرورية للمواطن ، أو رفع أسعار المشتقات النفطية والتي تنعكس هذه لوحدها سلبا لتطال ملح الطعام ولقمة الخبز.
الفئات الفقيرة من الشعب الأردني.. لم تعد تطمح بأكثر من أن تجد القوت الضروري في منازلها.. وبالكاد أن تحصل عليه كل الأسر بالتساوي .. ونحن نعرف أسرا لا يمكنها أبدا أن تجتاز الشهر بأكمله دون حاجة وعوز.
ناهيك عن الوضع الصحي المتردي في مستشفياتنا ومؤسساتنا الصحية، وناهيك عن الإهمال المتعمد والمقصود من قبل بعض أطبائنا الذين تنكبوا لرسالتهم الإنسانية، وعن تراخي الموظفين في القطاع الصحي واستهتارهم في تقبل المرضى عند مراجعتهم لتلك المراكز والمؤسسات الصحية والمستشفيات.. وعلى مرضانا أن يكونوا دائما معتمدين على الواسطة للحصول على المعالجات.
والأعجب من هذا كله .. بأن مستشفياتنا الكبيرة والشهيرة يرتادها مرضى التخمة ، وهم الأثرياء القادمون من كل أنحاء العالم، وبحسب إمكانياتهم ، يلاقون عندنا أعلى درجات الرعاية والترحاب.. بينما تختلف المعادلة إذا كان المراجع هو مواطن عادي من أبناء هذا الشعب الذي أصبح عالة على المرض نفسه وعلى مؤسساتنا الطبية وكوادرها.. بل وأصبح المرض نفسه يهرب من مواطننا، لأنه قد ملّ الانتظار.
وإذا أمعن الإنسان الأردني العادي فكره بالوضع الذي هو فيه، فلسوف ينزع من مخيلته كل بارقة أمل يمكن أن تجعله يشعر بالسعادة والطمأنينة ولو للحظة، لأن الوضع الصحي المزري في بلدنا يتفاقم يوما عن يوم .. وأن أنواع شتى من الأمراض المستعصية ، أخذت تغزو مجتمعاتنا ، ووزارة الصحة لا تقيم أدنى وزن للحد من تفشي تلك الأمراض ما بين جميع الأطياف ابتداء من مرضى التخمة ، وانتهاء بمرضى الهرمون والسماد العضوي المسرطن .
وأما المواطن الأردني المسكين .. إذا ما جال ببصره يمنة ويسرة .. وشاهد هذا الكم الهائل من السيارات الكورية وهي تجوب شوارع المملكة، أخذته العزة بالإثم، وظن أن الأردن هو من أغنى الدول واعتقد بأن جميع المواطنين دون استثناء ينعمون بالخير والبركة.. ولم يضع في حسبانه أو يخطر على باله بأن معظم هؤلاء الشبان .. كانوا قد باعوا أرضيهم ، أو رهنوا رواتبهم لعدة سنوات لبنوك هذا ديدنها من أجل شراء سيارة ، وفي الوقت نفسه لو اطلعت على عشرات الآلاف من القضايا في المحاكم لوجدت أن معظم ضحايا تلك القضايا هم من الشبان الذين أوقعتهم غطرستهم وعبثهم في قبضة القانون بسبب تعاملهم مع تلك البنوك الربوية.
وعودا على بدء .. فإن المطلوب من الحكومة في هذه الأوقات ، أن تسعى جاهدة وبكل المعايير كي تستغل كل خيراتنا المكتنزة في باطن الأرض ، للاستفادة منها في إقامة المشاريع الاستثمارية بكل المحافظات توزيعا عادلا ، مشاريعا بكل أشكالها الصناعية والزراعية والعمرانية والدوائية والغذائية ، وإقامة المصانع المختلفة لإنتاج السلع التي يتم استيرادها من الخارج ، بل تلك التي يمكن أن تصدر للدول الأخرى فتزيد من حجم دخل الأردن من العملات الصعبة.
وعلى الحكومات أن تتوقف تماما عن التفكير برفع الأسعار لأي مادة ، والتي من شأنها إلحاق الضرر أولا وأخيرا بالمواطنين على اختلاف مستوياتهم .. وعلى الحكومة أن تعلم بأن الرواتب والدخول المتدنية للغاية والتي تقل عن الألف دينار، ما هي إلا كقطرات من الماء، فلا هي تروي ظمأ العطشى، ولا هي تخلصهم من الموت.
كما يجب على الحكومة.. أن تبادر بوضع الخطط والحلول المناسبة من الآن للقضاء على مشكلة وحجم البطالة والفقر المتفشي في المجتمع والتي تتفاقم يوما عن يوم ، وعليها أن تدرك بأن جامعاتنا ما زالت تخرِّج كل عام عشرات الآلاف من أبنائنا ، بالإضافة إلى الرقم القياسي لأولئك الذين هم مسجلون على قائمة التوظيف في ديوان الخدمة المدنية ، حيث صرح مدير ديوان الخدمة المدنية قبل حوالي ثلاثة أشهر بأن الرقم قد اجتاز المائتين وست وعشرين ألفا.
وأن من بين هؤلاء من مضى عليهم على ذمة ديوان الخدمة المدنية أكثر من عشر سنوات وربما أكثر..
أيتها الحكومات .. نريد رجال الاقتصاد ..على مستوى العالم ، أن يجيئوا إلينا ويقوموا بدراسة وضع اقتصادنا المريض ، ليروا هل هناك من سبيل إلى تعافي اقتصادنا فنصبر ، أم أن لا سبيل إلى تعافيه ، فنرحل إلى عالم آخر .. إلى كوكب آخر .. إلى أي مكان ..
أيتها الحكومات .. لم نعد نستحي من مطالبتنا لكم .. بحق شرعي من حقوقنا ، هو همنا الوحيد ، الذي نسعى إلى تحقيقه .. نريد أمناً اقتصاديا وزراعيا وغذائيا وصحيا وصناعيا ، ونريد .. سلاما ، واستقلالا على ترابنا ، ونريد مشاريعا ، ونريد حياة كريمة ، ونريد القضاء على البطالة ، ومحاربة الفقر ، ونزعه من جذوره ، ونريد استغلال ثروات البلاد التي ما زالت مكنوزة في باطن الأرض ، ونريد إقامة المشاريع الاقتصادية بكل أنواعها .. ونريد من الحكومة زيادة المرتبات ، ونريد التوقف عن رفع أسعار السلع مهما كان نوعها .. وإلا فلا نريد حكومة البتة ... وعلى الشعب الأردني السلام....