الشراكة الأستراتيجية المصرية السعودية وإنعكاساتها الأردنية
حمادة فراعنة
جو 24 :
لم يكن صدفة ، أو أن ترابطه عرضي غير مبرمج ، قرار عمان في الأقدام على إتخاذ خطوتين منفصلتين ، ولكنهما سياسياً متلازمتين ومترابطتين مع بعضهما البعض وهما :
- قرار إغلاق المقر المركزي لجمعية الإخوان المسلمين ، ومكاتبها الفرعية في المحافظات .
- وقرار إستدعاء السفير الأردني من طهران .
فهو قرار مزدوج فرضته المعطيات والتطورات السياسية في المنطقة العربية المجاورة والمحيطة بالأردن .
صحيح أن المقدمات كانت متوفرة ، والدوافع قائمة لأتخاذ القرارين المتلازمين غير المتعارضين ، إلى الحد الذي يمكن أن نراه أن كل منهما يكمل الأخر ، في سياق الخيار السياسي الذي قررته الدولة الأردنية في ضوء الشراكة الأستراتيجية مع التحالف المصري السعودي الخليجي المغربي ، المناهض لأحزاب التيار الأسلامي بمكوناته وتفرعاته الأربعة الرئيسية : 1- الإخوان المسلمين ، 2- ولاية الفقيه ، 3- تنظيم الدولة الأسلامية داعش ، 4- القاعدة ، إضافة إلى الحزب الخامس حزب التحرير الإسلامي .
فقرار الحكومة الأردنية ، ومؤسساتها وأجهزتها ، المتضمن إغلاق مقرات أهم أطراف حركة الإخوان المسلمين وأقواها وأكثرها إتساعاً في الأردن يوم الأربعاء 13 نيسان 2016 ، مهما بدا مغلفاً بالغطاء القانوني أو الأداري ، ولكنه قرار سياسي عميق ، سواء كانت تلك المسوغات متدثرة بالغطاء القانوني ، أو كانت مغطّاة بقشرة ادارية رقيقة لحجب البعد السياسي الفاقع لهذا القرار ، تظل دوافع الإغلاق ، المتخذ من جانب دوائر صنع القرار السياسي ، دوافع سياسية بإمتياز ، وفق أراء اغلبية الكتاب والمعلقين الذين تناولوا هذا الأجراء .
اذ لا يستطيع أصدقاء حركة الإخوان المسلمين او خصومها ، قبول هذا التدبير الذي لا سابق له ، على انه مجرد قرار اداري محض ، كما لا يمكنهم فهم مبررات اتخاذ هذه الخطوة غير المسبوقة في هذا الوقت بالذات ، الا بإعتبارها قرارا سياسيا كامل الوضوح والأبعاد ، يستهدف وضع نقطة كبيرة في آخر السطر الطويل ، لتلك العلاقة التاريخية القائمة منذ نحو سبعة عقود بين الدولة الأردنية والإخوان المسلمين ، ومن ثم نزع ذلك الغطاء السياسي الذي وفرته الحكومات الأردنية المتعاقبة لحركة الإخوان المسلمين ، التي كبرت في حضن الدولة ، وتعظم نفوذها في الهوامش المتاحة لها ، لاسيما في الاوقاف والتربية والتعليم والجامعات وغيرها ، وتجلت ممارساتها في الاوقات الحرجة كحليف للسياسات الرسمية بشكل جلي منذ خمسينيات القرن الماضي وحتى اندلاع ثورة الربيع العربي .
قرار ترخيص حركة الإخوان المسلمين تم عام 1945 ، بإعتبارها فرعاً للحركة االمصرية الأم ، وقد تم تصويب وضعها القانوني عام 1952 ، كي تصبح جمعية أردنية وفق قانون الجمعيات الاردني الصادر في ذلك الوقت ، غير ان مياها كثيرة جرت منذ ذلك الوقت ، حيث تغيرت الظروف السياسية ، وتبدلت المعطيات المحيطة ، وجرت العديد من التطورات الداخلية العميقة ، كما تعدلت قوانين العمل السياسي والحريات العامة ، وأنظمة الجمعيات الثقافية والخيرية والدعوية ، ومع ذلك بقيت مظاهر الحضور الأخواني طاغية على المشهد السياسي ، وكأن هذه الحركة التي تخلط بين الدعوي والسياسي ، فوق القانون ، ان لم نقل انها ظلت تحظى بمعاملة استثائية ، وذلك كله من خلال مظهرين لافتين ، لا يمكن لعين المراقب ان تخطئهما ابدا:
الأول : ثبات خطوط الأتصال المباشر ، والحفاظ على اوسع مساحة ممكنة من التفاهم حول الكثير من المسائل الخلافية ، فضلا عن تجديد أدوات التنسيق الفعالة بين الحكومات الأردنية المتعاقبة وحركة الإخوان المسلمين ، على قاعدة التعاون غير المعلن في اغلب الاحيان ، نهيك عن التوافق على أشكال ومضامين العمل المشترك ، ضد جبهة واسعة متغيرة من الأعداء والخصوم المشتركين ، سواء على المستوى المحلي نحو الأحزاب اليسارية والقومية ، او على المستوى الأقليمي ، في مواجهة بعض سياسات أنظمة جمال عبد الناصر ، وصدام حسين ، وحافظ الأسد ، ومنظمة التحرير الفلسطينية ، وعلى المستوى الدولي ضد المعسكر الأشتراكي طوال سنوات الحرب الباردة .
والثاني : ممارسة العمل العلني لحركة الإخوان المسلمين ، تحت كل الظروف ، والتمتع بحرية الحركة وممارسة سائر انواع الانشطة الدعوية والسياسية ، حتى في ظل قوانين الطوارىء والاحكام العرفية ، بدون توفر أي سند قانوني أو إداري جديد او مجدد ، يتكيف مع المعطيات القانونية والأدارية المستجدة ، وخاصة بعد إستعادة شعبنا الأردني لحقوقه الدستورية عام 1989 على أثر أحداث نيسان ، وإجراء الأنتخابات البرلمانية المتتالية ، وترخيص الأحزاب السياسية ، وإجراء تعديلات على قانون الجمعيات ، حيث بقيت حركة الإخوان المسلمين على حالها تمارس نشاطاتها السياسية وتخوض الأنتخابات النقابية والبلدية والبرلمانية حيناً ، وتقاطعها حيناً أخر ، وحتى في حالة المقاطعة كان لا يتردد الأخوان المسلمون في العمل على تقويض شرعية الأنتخابات والطعن بنتائجها ، معتمدين في ذلك كله على ثلاثة عوامل هي :
1- الغطاء السياسي الرسمي الذي وفرته الدولة لهم ، منذ الخمسينيات ، هذا الغطاء الذي ظل يمنح نشاطهم وتنظيمهم صك تأمين ضد كل تقلبات السياسات الحكومية المحتملة ، ويضاعف من جرعة ثقتها بالنفس ازاء قدرتها على تخطي اي ازمة طارئة قد تحدث مع الدولة ، الأمر الذي حّول هذا الغطاء إلى ما يشبه الحقوق المكتسبة ، وطوّب الأمر الى حالة تقليدية متجذرة ، عززت من مكانتهم السياسية والحزبية والجماهيرية ، وادت الى توسيع نفوذهم ، بفعل استمرار هذا الغطاء الى آجال زمنية طويلة كحقيقة سياسية مفروغ منها.
2- براعة حركة الإخوان المسلمين في توظيف هذا الغطاء الذهبي ، وإستثمار هذه الفرصة النادرة مقارنة مع حركات سياسية مماثلة ، حيث بنت قواعدها على مرآى ومسمع من المؤسسات الرسمية ، وتغلغلت في مرافق متعددة ، ووفرت الخدمات الخاصة بها عبر مؤسسات خدمية مستقلة ، وإستغلت الهوامش المتاحة لها على كل صعيد اجتماعي بكفاءة بالغة ، فأصبحت بذلك كله الحركة السياسية الوحيدة العابرة للمحافظات وللمكونات الأردنية المتعددة ، وغدت في نهاية مطاف طويل قوة جماهيرية متمكنة .
3- مواصلة حركة الاخوان الملسلمين ارتداء عباءة المرشد العام لهذه الحركة الدولية متعددة الفروع ، واحتفاظها بعضويتها في مكتب ارشاد الجماعة الأم ، الأمر الذي مكنها من نسج تحالفات أقليمية عريضة ، والاستفادة من خبرات تنظيمية وفيرة متراكمة لدى الفروع الاخرى ، وهو ما ساعد الحركة الأردنية على التجذر في بيئتها المحلية اولا ، ومن ثمة الإمتداد في المحيط المجاور ، لا سيما في فلسطين المهمة جدا لكل طرف سياسي ولكل منظمة حزبية ، ليس لتسويق رؤيتها وخطابها فقط ، وانما ايضا من أجل تكريس نفسها في معادلة الصراع العربي الاسرائيلي ، كلاعب ذي مصداقية ، وكفرع فاعل لأقوى حركة سياسية عابرة للحدود في العالم العربي .
ولعل من بين اهم المحطات الخلافية الكبرى بين حركة الاخوان المسلمين والدولة الاردنية ، ما تجلى عليه الامر عند معارضة الحركة الإخوانية لمعاهدة وادي عربة ، تلك المعاهدة التي كانت خيار الدولة الأردنية المتاح ، في التوصل إلى إنهاء حالة الحرب مع المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي عام 1994 ، وتطبيع العلاقات الرسمية الأردنية الإسرائيلية .
فرغم معارضة الاخوان المسلمين لتلك الاتفاقية ، الا ان أقنية الأتصال ظلت مفتوحة بين قيادة الإخوان ومؤسسات الدولة ، وبقيت حدود المعارضة متفق عليها حتى بداية ثورة الربيع العربي ، الذي شهد صعود حركة الإخوان المسلمين وتوليها السلطة ، أو المشاركة فيها ، من موقع قوة ، في أكثر من بلد عربي في مصر وتونس والمغرب والعراق واليمن ، ومن قبلهم في فلسطين ، وذلك لدى سيطرة الفرع الفلسطيني من الجماعة الام ، بالقوة العسكرية المنفردة على قطاع غزة ، عبر الأنقلاب والحسم العسكري في حزيران 2007 ، وهي متغيرات ادت في مجموعها إلى تعزيز مكانة الإخوان المسلمين في نظر انفسهم ، وزادت من رغبتهم الكامنة ودافعيتهم نحو المكاسرة ، وإلى تغيير قواعد العلاقة الكلاسيكية القائمة بينهم وبين الدولة الأردنية .
كان إنفجار ثورة الربيع العربي ، في ظل ضعف الأحزاب اليسارية والقومية ، وإنحسار ظلها عن المسرح السياسي الداخلي في سائر الاقطار العربية ، بمثابة رافعة قوية لأحزاب التيار الأسلامي ، التي وظفت اشواق الناس للحرية والديمقراطية والعدالة الجتماعية ، في صعودها السريع الى سدة السلطة ، وإلى إستلامها مواقع صنع القرار في أكثر من بلد عربي ، سواء عبر آلية صندوق الأنتخابات أو عبر وسائل أخرى ، وهو أدى في واقع الامر إلى تعزيز مكانة حركة الإخوان المسلمين وزيادة نفوذها في الاردن وخارجه .
وإنعكاس ذلك إيجاباً لصالح الحركة ذات الحضور الشعبي الواسع ، هذه الحركة التي إتخذت سياسة معارضة اشد من ذي قبل ازاء السياسات الرسمية ، وتقدمت خطوة أو خطوات إلى الأمام رافعة شعار " شركاء في الحكم ، شركاء في القرار " وراحت تطالب بتعديلات دستورية تشمل المواد 34 و 35 و 36 من الدستور ، بهدف تقييد صلاحيات رأس الدولة ، مما أوجد شرخاً عميقاً في جدار الثقة القديمة ، وزعزع قاعدة التفاهمات السياسية بينها وبين مؤسسات الدولة ، الامر الذي انتقل معه الوضع من حالة التفاهم والتنسيق والتحالف ، إلى حالة المناكفة العلنية الصاخبة ، ان لم نقل الأشتباك على قاعدة المعارضة .
أوجد التصادم بين حركة الإخوان المسلمين من طرف ، ومؤسسات الدولة الأردنية من طرف آخر ، شرخاً داخل صفوف الحركة نفسها ، الامر الذي أفضى الى إنقسامها إلى ثلاثة فرق متخاصمة فيما بينها ، حيث راحت كل منها تجتهد في التوصل إلى صيغة ملائمة للفعل السياسي بما ينسجم والمعطيات المستجدة ، وهو ما فاقم الازمة الذاتية مع مرور الوقت ، وزاد من حدة الانقسامات ، واضعف الحركة بصورة لا سابق لها ، وأدى الى انكشافها الشديد ، وجعلها عرضة لكل التطورات السياسية ، التي أخذت تعصف بالحركة على المستوى الوطني ، وتدفع بها دفعا نحو الفشل والأخفاق ، الامر الذي زاد من حجم الأجتهادات والتباينات ، وفيما بعد الاتهامات ، بين الفرق الأخوانية الثلاثة :
الفريق الأول الذي يقوده المحامي عبد المجيد الذنيبات المراقب العام الأسبق لحركة الإخوان المسلمين ، الذي خرج مع الدكتور إرحيل الغرايبة مبكرا من صفوف الجماعة ، وشكلا مع غاضبين مثلهم على الكيفية التي تدار بها الحركة ، مؤسسات بديلة راحت تتكيف مع السياسات الرسمية ، وتعمل تحت مظلة قوانين الدولة المرتابة بنوايا الاخوان المسلمين ، منذ ان رفعوا من درجة احتجاجاتهم مع انفجار ثورة الربيع العربي ، تلك الثورة التي دارت دورتها بسرعة ، وأدت في ما أدت اليه ، الى حظر حركة الاخوان المسلمين ، وملاحقتها في العديد من الدول العربية.
الفريق الثاني بقي متمسكاً بمواقفه التقليدية ، وبرؤيته العتيقة وخطابه المستهلك ، حيث بدا مبالغا في حرصه على تراث الحركة وعلى بقاء القديم على قدمه ، بدون أي مراجعة تقتضيها المستجدات الملحة ، وتمليها ضرورات التكيف مع الواقع الذي لا يكف عن التغير ، ويقود هذا الفريق الدكتور همام سعيد المراقب العام للحركة ، ونائبه زكي بني إرشيد .
أما الفريق الثالث فهو الواقع بين الفريقين السابقين ، المنسجم مع توجهات الفريق الأول التحديثي والتطويري من حيث المبدأ ، الا انه ينظر إلى هذا الفريق على أنه فريق متسرع ، وانه تعجل في الخروج عن الحركة والجماعة ، وبالمقابل فانه يرى بالفريق الثاني على أنه أسير لمعطيات قديمة لم تعد قائمة ، ولشرعية تستوجب التجديد ، وهو الفريق الذي يقوده المراقب العام السابق سالم الفلاحات ومعه عبد اللطيف عربيات وشيوخ الحركة ، ويُطلق عليهم بالحكماء وفريق الشراكة والأنقاذ .
وفر التمزق بين الفرق الثلاثة في الحركة الاخوانية ، اداة مناسبة لاضعفها امام الرأي العام ، وهيأ فرصة سانحة للحكومة ولأجهزتها ومؤسساتها ، كي تشرع في عملية انقضاض تدريجي على الفريق الممسك بالشرعية التاريخية ، المتعالي على الواقع الناشىء ، حيث اقدمت الحكومة من خلال الحكام الاداريين على إغلاق المقر الرئيسي في العاصمة ، ومكاتبه الفرعية في المحافظات ، بالشمع الاحمر ، خاصة بعد محاولة هذا الفريق تجاهل قرار منع اجراء انتخابات مجلس الشورى ، لتجديد شرعية قياداته المنتهية ، وفق النظام المعمول به حركيا ، وهو في واقع الامر قرار سياسي حازم مفاده منع إجراء إنتخابات داخلية لمؤسسة باتت تعتبرها الحكومة مؤسسة غير قانونية وغير قائمة اعتباريا ، وفوق ذلك كله غير مرخصة .
جاء إغلاق الحكومة لمقر جماعة الإخوان المسلمين يوم الأربعاء 13 نيسان 2016 ، ومن ثم اغلاق جميع مكاتبها في المحافظات على التوالي ، بذريعة عدم حوز الجماعة على التراخيص الرسمية ، وعدم تصويب أوضاعها قانونياً ، كما قال الناطق بلسان الحكومة الوزير محمد المومني حين فسر قرار الأغلاق بأن " الجماعة غير المرخصة تقوم بنشاطات غير قانونية وغير مرخصة " وأكد أن " البلد فيها قوانين وأنظمة تطبق على الجميع ، ولا يوجد أحد فوق القانون ، ومن يعتقد أنه يستطيع أن يكون فوق القانون فهو واهم " وزاد بقوله " هناك نزاع قانوني بين جمعية مرخصة قانوناً بموجب الأنظمة والتعليمات الأردنية ، وأخرى غير مرخصة ولا تريد أن ترخص ، وقد قدمت الجماعة المرخصة شكوى لدى المحاكم أن هناك جماعة غير مرخصة تقوم بنشاطات بإسمها " ، أما محافظ مادبا فقد أغلق مقر الجماعة لأن " الجماعة لم تحصل على ترخيص بموجب قانون الأحزاب والجمعيات الذي أقر عام 2014 " .
واصلت حركة الاخوان المسلمين انكار الواقع ، واعتقدت ان كلمتها فوق وأمام الجميع ، حيث رد الناطق بلسان الجماعة بادي الرفايعة بقوله " الجماعة ماضية بإستكمال إنتخاباتها الداخلية " وأن " الجماعة موجودة بمقرات وبدون مقرات " ووصف قرار الأغلاق على أنه " محاولات يائسة لتحجيمها أو إنهائها من المجتمع الأردني " في تجاهل غير مفهوم لما آل اليه واقع حركة فقدت تماسكها ووحدتها والغطاء السياسي الذي كان يحميها .
يتضح من السجال بين المؤيدين لمبررات الأغلاق وبين الرافضين له ، انه عائد إلى الأنظمة والقوانين الأردنية المرعية ، والى عدم التكيف مع مقتضياتها ، ولكن السؤال الذي يتهرب منه طرفا المواجهة (الحكومة والإخوان المسلمين) هو إذا كانت الجماعة مرخصة منذ العام 1945 ، وتم تجديد ترخيصها العام 1952 ، لماذا بقيت تعمل علناً طوال عشرات السنين بلا ترخيص مناسب وبلا تكييف قانوني ؟؟ وإذا كانت سنة 1989 ، سنة فاصلة في حياة الأردنيين بعد إستعادة حقوقهم الدستورية التي كانت معطلة بالأحكام العرفية منذ عام 1957 ، وتم إستئناف الحياة البرلمانية عام 1989 ، وجرت المصالحة الوطنية بين القصر والمعارضة عام 1990 ، وتم ترخيص الأحزاب السياسية 1991 - 1992 ، فلماذا لم تتم المطالبة الحكومية بإعادة ترخيص حركة الإخوان المسلمين وتصويب أوضاعها والدفع نحو تكيفها مع الوقائع والقوانين والتطورات الجديدة ؟؟ فإذا لم تفعل الحكومة ما هو مطلوب منها وتلكأت في مطالبة الجماعة في تكييف تنظيمهم وفق القوانين النافذة ، فلماذ لم تبادر هي بالتكيف مع المعطيات القانونية الجديدة ؟؟.
أحسب ان هذا السؤال سؤال جوهري يكشف الأبعاد الكامنة في العلاقة بين الطرفين ، علاقة التحالف والتفاهم والمصلحة المشتركة بينهما طوال مرحلة الأحكام العرفية 1957 – 1991 ، وطوال مرحلة الحرب الباردة 1950 – 1990 ، فكلاهما كان مستفيداً من الأخر ويعتمد عليه في المواجهة مع الخصم المشترك ، في مواجهة الشيوعية والأشتراكية والأتحاد السوفيتي على المستوى الدولي ، وفي مواجهة عبد الناصر وصدام حسين وحافظ الأسد واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية على المستوى القومي ، وفي مواجهة الأحزاب القومية واليسارية والليبرالية على المستوى الوطني ، واليوم تبدل الحال ، فالذين كانوا أعداء لم يعودوا كذلك ، والذين كانوا خصوماً تبدلوا ، فلم يعد الحال على حاله ، وهذا هو المستجد الذي إستوجب الأستحقاق السياسي ، ومفاده أن التنظيمات الأسلامية التي كانت حليفة للنظام العربي الرسمي ، واداة من ادواته الكلاسيكية ، كبرت على حليفها القديم ، وطمعت فيه ، وعملت على النيل منه ، وسعت لأن تكون هي البديل له .
ولذلك كله ، وبسبب غياب قوى الحركة الوطنية ، وضعف تأثير الأحزاب القومية واليسارية والليبرالية على الحياة العامة ، فضلا عن سعي التنظيمات والأحزاب الأسلامية للوصول إلى السلطة بالطرق غير الديمقراطية ، حيث عملت كل منها بوسائل متشابه لتحقيق هذه الغاية ، ناهيك عن تراجع رهان الولايات المتحدة على النظام العربي السائد ، الذي إستنفذ في واقع الامر مهامه وادى كامل خدماته ، وبسبب التحولات الملتبسة في السياسة الأميركية نحو كل من إيران وحركة الإخوان المسلمين ، وبسبب ذلك وغيره ، إنتهى عصر التفاهم المديد بين النظام العربي وبين تنظيمات وأحزاب الحركة الأسلامية ، بما في ذلك أحزاب ولاية الفقيه ذات المرجعية الايرانية ، وفصائل حركة الإخوان المسلمين ذات العقيدة السنية ، إضافة إلى إشتداد حدة المواجهة السياسية ، واحتدام الصدام المسلح مع منظمات السلفية الجهادية ، خصوصا تنظيمي داعش والقاعدة ، فقد بات الصراع اليوم يأخذ كامل أشكاله المتعددة ، وعلى كل المستويات والاصعدة ، بين التنظيمات الأسلامية الأربعة وبين النظام العربي ، بشكل واضح بائن وصارخ .
هذه المعطيات والصراعات المفتوحة على مصراعيها ، أدت إلى ولادة تحالف عربي جديد ، قاعدته الرياض والقاهرة ، اضافة الى دول مجلس التعاون الخليجي والمغرب ، كي يؤسس هذا المحور اركانه على قاعدة الضرورة السياسية ، وعلى أساس المصلحة الثنائية ، وبما يجعل مضمونه ، وفق تسمية الرئيس عبد الفتاح السيسي " شراكة إستراتيجية " وهي كذلك ، ليس فقط بسبب خصوصية العلاقة الثنائية بين البلدين الكبيرين ، وانما ايضا بسبب حجم التحديات غير المسبوقة التي تواجه الرياض والقاهرة معا ، مما يفرض عليهما ويتطلب منهما مواجهة ذلك بتحالف متين بين العاصمتين.
كان ذلك تحالف أملته ضرورات فرضت نفسها على العاصمتين ، ولذلك وُصفت زيارة العاهل السعودي للقاهرة في الفترة الواقعة بين 7 إلى 11 نيسان ، وما أسفر عنها من نتائج كبيرة ، على أنها نقطة إنطلاق لمعالجة أزمات المنطقة العربية ، وخاصة اليمن وسوريا وليبيا وفلسطين ، وكما قال العاهل السعودي " إتخذنا قراراً ضد محاولات التدخل في شوؤننا الداخلية ، وتضامنا معاً عبر تحالف لمحاربة الأرهاب " ، وهو بذلك إختصر هدف الزيارة التي شملت التوقيع على 17 إتفاقية ومذكرة تفاهم في مجالات الكهرباء ، والأسكان ، والطاقة النووية ، والزراعة ، والتجارة ، والصناعة ، وترسيم الحدود البحرية وتجنب الأزدواج الضريبي ، وتبرز من ضمنها بشكل خاص تطوير منطقة شبه جزيرة سيناء من خلال مشاريع سكنية وزراعية وشبكة طرق وبناء جامعة ، ناهين عن وصل مصر بالسعودية بجسر بري ، تباهى العاهل السعودي به ، حين وصف هذه الخطوة الطموحة على أنها " خطوة تاريخية ، ونقلة نوعية غير مسبوقة " .
وعليه يمكن إختصار الضرورة السياسية والمصلحة الثنائية ، بين العاصمتين الوازنتين في العالم العربي ، بالعوامل الأربعة التالية :
أولاً : يخوض نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي ، منذ الأطاحة بالرئيس السابق محمد مرسي عام 2013 ، حرباً سياسية وفكرية وميدانية ، تخللتها مواجهات صدامية مع حركة الإخوان المسلمين والمجموعات المتحالفة معها ، الأمر الذي يحتاج الموقف معه إلى إسناد خارجي لأعانته على مواجهة الصعوبات التي أخذت تواجهه بضراوة ، فيما بدت العربية السعودية كصاحبة مصلحة بعيدة المدى في إسناد خيارات الرئيس المصري ، لا سيما وان التنظيم الدولي لحركة الإخوان المسلمين بدأ يشكل في الفترة الاخيرة أحد مصادر القلق للنظام السعودي .
ثانياً : تخوض العربية السعودية حرباً شرساً ضد أحزاب ولاية الفقيه وخاصة جماعة أنصار الله اليمنية وحزب الله اللبناني وإمتدادهما في بلدان الخليج العربي ، ونظرا لوقوف ايران وراء مثل هذه الأحزاب ، فقد بدت الرياض بحاجة ماسة لرافعة سياسية قوية تساندها امام تلك الأمتدادات الأيرانية ، فيما بدت القاهرة بالمقابل رديفا يعتد به لتأدية هذا الدور الذي يشكل الخطر الداهم ، وفق رؤية الرياض لنظامها السياسي ، الذي تجد في القاهرة الرافعة السياسية المطلوبة .
ثالثاً : كلاهما ، مصر والسعودية ، تخوضان حرباً ضارية ضد تنظيمي القاعدة وداعش ، وتجدان أن الدوافع المشتركة لديهما ماثلة في العمل سوية ضد الاخطار المشتركة ، وهو ما يستدعي منهما العمل المنسق في كل المجالات الممكنة ، لمواجهة تحديات الارهاب المتمثل في تنظيمي القاعدة وداعش ، وإحباط مشاريع هاتين الجماعتين المتطرفتين ، المهددتين لكلا النظامين العربيين ، اي ان هناك ضرورة ملحة ومصلحة متطابقة ، وذات اولوية اولى على اجندة ركنيّ النظام العربي.
رابعاً : تجد كل من القاهرة والرياض ، أن سياسة الولايات المتحدة الأميركية ، قد غيرت بوصلتها ، وبدلت إهتماماتها التقليدية ازاء العالم العربي ، الذي سبق لها ان اولته جل اهتماماتها ، واعطته الافضلية ، لما تحتويه هذه الرقعة الجغرافية الواسعة من مصادر الطاقة ، وأمن المشروع الإستعماري التوسعي الإسرائيلي ، ناهيك عن دورها المطلوب بقوة لمحاربة الأرهاب الذي ازدهر في تربة الظلم والاستبداد والفساد ، وبات كأنه ماركة عربية اسلامية مسجلة.
لقد وجدت الولايات المتحدة الاميركية أن العوامل التي ميزت الشرق الاوسط لم تعد مهمة بالقدر الذي كانت عليه في السابق ، ولذلك وضعت لنفسها اجندة رتبت أولوياتها حسب الاهمية على النحو التالي: 1- أورويا ، 2- جنوب شرق أسيا ، 3- دول أميركا اللاتينية ، 4- بلدان جنوب الصحراء الأفريقية ، اي ان العالم العربي لم يعد يحتل مكانته السابقة على سلم الاهتمامات الاميركية ، وقد إنعكس ذلك على تفاهمات واشنطن مع كل من روسيا وإيران ، مما سبب إزعاجاً وقلقاً لدى الرياض والقاهرة ، المتحسبتين ازاء دوافع تغيير السياسات الأميركية ، وهو ما يعني ان العالم العربي قد اصبح عُرضة للتطلعات الأيرانية التوسعية ، واهداف حركة الإخوان المسلمين المستمية على الوصول إلى مؤسسات الحكم ، كما حصل في مصر وتونس وليبيا وغزة وسوريا .
هذا التحول في السياسات الأميركية أربك الرياض ومعها القاهرة ، وأفقدهما مظلة واسعة كانتا تعتمدان عليها ، لمواجهة خصومهما ، وتعزيز استقرارهما الداخلي ، ولكن الأشتراطات الأميركية على مسؤولي البلدين ، المتعلقة بحقوق الأنسان والديمقراطية والأنفتاح ، لم تستطع معه كل من العاصمتين المعنيتين ، وباقي المنظومة العربية الحليفة للولايات المتحدة ، الأستجابة لها ، مما أوجد فجوة في التفاهمات الأميركية العربية .
دفعت تلك الاشتراطات بالرئيس أوباما لتوجيه إنتقادات علنية غير مسبوقة للنظام العربي الحليف ، وأرفق ذلك بالتفاهم مع إيران والتوصل إلى الأتفاق النووي معها والأفراج عن مستحقاتها المالية المحتجرة ، بعد إلغاء قرارات مجلس الأمن الصادرة منذ عام 2006 وهي القرار 1696 ، و1737 ، و 1747 ، و 1803 ، و 1835 ، و 1929 ، وأخيراً القرار 2224 الصادر عام 2015 ، وجميعها كانت تستهدف فرض العقوبات على إيران ومحاصرتها إقتصادياً ، ولذلك دفع التحول في الموقف الأميركي كلاً من القاهرة والرياض الى البحث عن خيارات بديلة ، ووجدتا في طليعة هذه البدائل الأعتماد على الذات ، الذي ولدّ إتفاق الشراكة الأستراتيجية بينهما .
ويمكن القول أن العوامل الضاغطة على صانعي القرار في المطبخين السياسيين: المصري السعودي ، شكلت تلك الحوافز القوية ، التي دفعت البلدين لقطع شوط مستعجل نحو التوصل لأتفاقات متنوعة ، تفرغ لها المختصون أشهراً منذ إعلان بيان القاهرة يوم 30 حزيران 2015 في أعقاب زيارة الأمير محمد بن سلمان ولي ولي العهد السعودي ، الذي يعتبر المهندس الاول والشخص المبادر للسياسات السعودية .
وفي قراءة لرصد تطور العلاقات بين القاهرة والرياض نلحظ انه في عهد الرئيس محمد مرسي إقتصرت على لقائين فقط بين مسؤولين سعوديين ومصريين ، بينما وقع 14 لقاء عام 2014 بعد الأطاحة بحركة الإخوان المسلمين ، ليرتفع إلى 19 عام 2015 ، وإلى ستة لقاءات خلال الرابع الأول من عام 2016 لتتوج بزيارة الملك سلمان التي ضمت 80 مسؤولاً سعودياً ، من بينهم 18 وزيراً و25 أميراً إضافة إلى عدد واسع من المستثمرين ورجال الأعمال والصحفيين ، مما يعكس حجم الرهان السعودي على الزيارة ونتائجها وعلى مستقبل العمل المشترك مع المصريين .
الشراكة الإستراتيجية بين القاهرة والرياض على قاعدة الضرورة والمصالح المتبادلة المشتركة القائمة على العوامل الأربعة المذكورة ، إنعكست سريعاً على الأستجابة الأردنية ، القريبة من التفاهمات المصرية السعودية ، والمتقاطعة معها ، مثلما حدثت استجابة لاحقة من جانب المغرب.
الأمير محمد بن سلمان ، في أعقاب زيارة والده الملك سلمان للقاهرة ، توجه مباشرة من القاهرة إلى العقبة للقاء الملك عبد الله يوم الأثنين 11 نيسان 2016 ، وفي ختام إجتماعهما صدر البيان المشترك تضمن ستة نقاط تعكس التعاون والعمل المشترك بينهما تجاه قضايا المنطقة وأزماتها ، حيث تمسك الجانبين بخيار الحل السياسي للأزمة السورية ، مع الحفاظ على وحدة أراضي دول المنطقة وسيادتها وإستقرارها ، ورفضهما لسياسة التدخل الأيرانية في دول المنطقة ، وإتفقا على تطوير التعاون العسكري القائم بين البلدين بما يعزز الأمن والأستقرار في المنطقة ، وتم بموجب تلك الزيارة العاجلة توقيع مذكرة تفاهم بخصوص تأسيس صندوق إستثماري مشترك بين البلدين .
على اساس الشراكة الإستراتيجية المصرية السعودية ، والتفاهم الأردني معها ، وإستجابة عمان لمقتضياتها ، أثر زيارة الأمير السعودي محمد بن سلمان ، أقدمت الحكومة الأردنية على خطوتين متتاليتين :
الأولى : إغلاق المقر المركزي لحركة الإخوان المسلمين في عمان ومكاتبها في المحافظات يوم الأربعاء 13 نيسان .
والثانية : إستدعاء السفير الأردني من طهران عبد الله أبو رمان يوم الأثنين 18 نيسان 2016 ، وقد فسر الناطق بلسان الحكومة محمد المومني هذه الخطوة بقوله " لقد خلصت الحكومة إلى ضرورة إجراء وقفة تقييمية في هذه المرحلة ، وفي ضوء المعطيات والتطورات ، إقتضى إتخاذ القرار بإستدعاء السفير الأردني في طهران للتشاور " .
وفي وقت لاحق ، استضافت الرياض قمة خليجية حضرها لأول مرة الملك المغربي محمد السادس ، اسفرت عن قيام مجلس تنسيق استراتيجي بين الطرفين ، بدا اشبه ما يكون بحلف سياسي امني عسكري ، ذي اهداف بعيدة المدى ، يخاطب التحديات الاقليمية الثقيلة ، التي أخذت السعودية على عاتقها مواجهتها ، اعتمادا على قوتها الذاتية اولا ، ثم على اسناد دول عربية واسلامية ، بلغ عددها في التحالف العربي الخاص باليمن 11دولة ، فيما وصل العدد في اطار التحلف الاسلامي الى 34 دولة ، الامر الذي يعتبر سابقة غير مسبوقة في الحياة السياسية العربية ، يشير الى اعادة بناءمنظومة بديلة ، قد ترث كلا من النظام العربي المتهالك ومنظومة التعاون الاسلامي ، وربما تساعد على تجديد الدماء فيهما.
ولم تمض سوى فترة قصيرة حتى وصل الملك عبد الله الثاني إلى الرياض يوم الأربعاء 27/4/2016 ، في زيارة رسمية افضت الى قيام مجلس تنسيق استراتيجي مماثل للمجلس آنف الذكر مع المملكة المغربية ، الامر الذي يمكن معه القول ان السعودية ، التي يقف في مركز قيادتها الجديدة جيل شاب متدفق بالحيوية ، قد انتزعت قيادة العالم العربي والاسلامي بكل جدارة ، وراحت تغيّر الصورة الانطباعية القديمة عن مملكة النفط والمساعدات والهبات المالية ، الى صورة مختلفة عن دولة اقليمية وازنة ، لديها رؤية لمستقبلها في عصر ما بعد النفط ، ( رؤية 2030 المعلن عنها من جانب الامير محمد بن سلمان) ، ولديها ايضا خطة طريق طموحة لتفعيل محيطها العربي والاسلامي ، عبر هذه الشراكات الاستراتيجية المعلن عنها ، بين مجموع المملكات العربية المعتدلة زائد جمهورية مصر العربية.
وبالعودة الى بداية هذه المطالعة التحليلية لمآلات العلاقة بين الحركة الدولية للاخوان المسلمين وبين الانظمة العربية ، بما في ذلك اخوان الاردن مع الدولة التي هجرتهم بعد عناق حميم دام نحو سبعة عقود متواصلة ، فانه لم يعد مهما الآن العودة الى السجال السابق عما اذا كان قرار اغلاق المقر العام ، والمكاتب الفرعية ، قرارا سياسيا او كان تدبيرا قانونيا ، ففي كل الاحوال يبقى هذا القرار ، الذي لا رجعة عنه وفق اغلب القراءات السياسية الواقعية ، نقطة تحول وإنعطافة كبيرة في مجرى تلك العلاقة التاريخية ، التي لن تعود الى ما كانت عليه في السابق ، شأن عقارب الساعة التي لا ترجع الى الوراء ، نظرا لجملة المتغيرات الاقليمية الجارية .
ولعل ما يلفت انتباه المرء حقا ، وهو يراجع المحطات المتفرقة على مسار الفراق المتدرج ، بين حركة الاخوان المسلمين وبين الدولة الاردنية ، على مدى العامين الماضيين ، ان قيادة هذه الحركة المجربة لم تحسن قراءة المتغيرات التي كانت تخاطبها مباشرة ، وتدعوها الى التكيف مع القانون النافذ ، وتطالبها بالتساوق مع غيرها من احزاب المعارضة القومية واليسارية المرخصة.
حيث ظلت قيادة الحركة ، تغلق ابصارها وتصم اسماعها عن هدير مياه النهر الجارف المتدفق من حولها ، حتى انها لم تستجب لنداء شيوخها الكبار ، ولا لنصائح اصدقائها المخلصين ، بضرورة اجراء المراجعات اللازمة ، لانقاذ ما يمكن انقذه قبل فوات الاوان ، بما في ذلك درء خطر الانقسام الذي راح يهدد بقاء الحركة ، بل ان قيادة الحركة القابضة على جمرات موقف كان يفلت من بين ايديها ، ذهبت في الشوط الى ابعد مدى ، حين راحت تستهين ببوادر الانشقاق في داخلها ، وأخذت تفصل مئات الاعضاء (بعضهم من المؤسسين) من صفوفها ، عقابا لهم عن مخالفات لا تندرج في باب الدعوة او الرؤية او السياسة ، التي يمكن بها تبرير مثل هذه العقوبات التنظيمية القاسية.
كان شيأ كبيرا يحدث في احشاء الحركة الاخوانية ، وكان شيأ اكبر يحدث في بيئتها الاقليمية الواسعة ، الا ان الفرع الاردني على وجه الخصوص ، لم يرغب ، وربما لم يستطع فهم واستيعاب مغزى التطورات ، التي أخذت تخاطب الاسلام السياسي في عموم المنطقة ، وتدفع به الى الزاوية الحرجة ، بعد ان دارت دورته في عقر داره ، ونزل المرشد العام ، بدلالته الرمزية الكبيرة ، عن سدة عرش مصر ، ليساق مع مكتب الارشاد الى السجن والمحاكمة ، ولتدخل الحركة الدولية للاخوان بعد ذلك الى طور من الحظر والمطاردة .
لقد كان الامر يقتضي من الحركة ذات القاعدة الشعبية العريضة ، تجنب الاصطدام ما امكن مع هذه الموجة العارمة ، التكيف مع الواقع ، والقيام بما يلزم من مراجعات عاجلة ، عوضا عن الاستمرار في السباحة عكس تيار النهر الجارف ، وانكار الحقائق الصادمة ، على نحو ما تجلى عليه الحال في الحرب الكلامية الضارية ضد النظام المصري الجديد ، والهجمة التي لا لزوم لها ضد دولة الامارات العربية ، وهي مواقف ارتدت على الحركة بعواقب متعددة ، لا سيما في البلد الذي كان بمثابة الملاذ الاخير لاحد اهم فروع الجماعة الاخوانية.
لقد بدت الحركة الاخوانية ، التي باتت مستهدفة في عموم المنطقة العربية ، ليس كمن خسر كل الرهانات فقط ، وانما ايضا كمن فقد قدرته على الحد من متوالية المصائب التي أخذت تنزل على رأسه ، حيث ظهرت هذه الحركة ، وفي اكثر من مناسبة ، كمن يعذّب نفسه ، حتى لا نقول كمن يطلق النار على قدمه ، يكابر في المحسوس ، ويعاند حقائق الواقع الذي لا يعاند ، متكلا في احسن الاحوال على وعود ملتبسة ، وتعهدات كلامية غامضة ، تماما على نحو ما عوّلت عليه الحركة الاخوانية الاردنية في ربع الساعة الاخير ، قبل ان تأزف لحظة الحقيقة ، تلك اللحظة التي جسدتها قرارات اغلاق المقر العام والفروع في المحافظات منذ 13 نيسان 2016.
ولعل ما يمكن قوله ، ان مرحلة الاسلام السياسي الحركي ، التي دامت نحو مئة سنة ، وكانت في غضونها محل مد وجزر ، قد انقضت في واقع الامر ، او انها في طريقها الى الانقضاء التام ، ليس كفكرة او عقيدة ، حيث لا تموت الافكار ابدا ، وانما كتنظيم سياسي ، او كلاعب مسموح له باللعب وفق قواعد جديدة ، لم تعد ترى فيه شريكا ، فضلا عن جملة قيود منسقة اقليميا ، تحظر عليه التمتع بأي شخصية قانونية.
واحسب ان هذا المآل الذي انتهت اليه الحركة الاخوانية في بلادنا ، هو ذات المآل الذي دارت في مداره كل من الحركة القومية والحركة اليسارية ، فعندما يجف النهر من منبعه الاول ، تجف الفروع والروافد الصغيرة بالضرورة الحتمية ، وهذه هي السيرورة التاريخية ، التي عبرت بها سائر الحركات السياسية الكبرى على مدار العصر الحديث ، لا سيما مع بدايات زمن ثورة الاتصالات الرقمية ، وانفجار ثورة المعرفة ، التي تبدلت فيها المفاهيم والقيم ، ووسائل الاجتماع والتفاعل ، حيث قدمت تقنيات العالم الافتراضي طرائق اسهل ، وادوات ايسر ، مما درجت على تقديمه الاطر الحزبية ، ووفرت مشتركات اجدى مما تربينا عليه في الماضي القريب من تقاليد تنظيمية ، والتزامات حزبية ، وذلك وفق ما روته ببلاغة تجربة الحشد والتنظيم والتعبئة الجماهيرية ، من خلال ادوات التواصل الاجتماعي ، في أوائل ثورة الربيع العربي ، في تونس ومصر وغيرهما من البلدان العربية .
h.faraneh@yahoo.com