"النزاهة" بين الضرورة الوطنيّة وتجربة اللجان
كتب تامر خرمه
إذا أردت أن تدفن قضيّة فشكّل لها لجنة.. مثل قديم تحاول السلطة -على ما يبدو- تطبيقه مجدّدا، بعد نجاحها في التنصّل من مسؤوليّاتها وتعهّداتها السابقة، عبر تشكيل "الأجندة الوطنيّة" ولجنة الحوار الوطني، وغيرهما من اللجان التي ألقيت توصياتها ومقترحاتها في خانة الإهمال الرسمي.
ومن هنا جاءت "نصيحة" حكومة الظلّ بتشكيل لجنة "النزاهة الوطنيّة" لتتهرّب من مسؤوليّاتها، في ظلّ تفاقم حالة الغضب الشعبي من تفشي الفساد وتغوّله على مختلف مؤسسات الدولة، وإصرار السلطة على حلّ الأزمة التي أنتجتها سياساتها على حساب خبز المواطنين.. ويبدو أن الهدف من وراء هذه "النصيحة" لا يتعدى الترويج للمشاركة في الانتخابات المقبلة، التي تشهد مقاطعة شعبية وحزبية واسعة، إثر انعدام ثقة المواطن بمختلف المؤسسات الرسميّة.
وسواء أكان الهدف من تشكيل هذه اللجنة يتعلق بمحاولة احتواء الأزمة التي دفع بها قرار رفع الدعم عن المشتقات النفطية إلى أعلى مستوياتها، أو بالترويج للعملية الانتخابية، فإنه لا يمكن اعتبارها مجرّد بروباغاندا تستهدف إشغال الرأي العام ومحاولة احتوائه فحسب، بل من شأن هذه الخطوة أن تقود إلى "تقويض" مؤسسات الدولة القائمة، والاعتداء على صلاحيّات السلطتين التشريعيّة والقضائيّة.
ورغم الهشاشة التي تتسم بها المؤسسات الرسميّة، تصرّ السلطة على مصادرة ما تبقى لها من استقلاليّة منقوصة بهدف الترويج لـ "النموذج الأردني" الذي من شأنه نيل الرضا والمساعدات الغربيّة، عبر إدراج مفهوم "النزاهة الوطنية" على المشهد السياسي الأردني.
في بعض الدول التي لا تنتمي للعالم الثالث، يتكوّن نظام "النزاهة الوطنية" من المؤسسات الدستوريّة التي تمتلك صلاحيات وتشريعات راسخة، وتمارس دورها في صنع القرار وتحديد مواطن الخلل وتجاوز نقاط الضعف.. أمّا فيما يتعلق بـ "النموذج الأردني" فإن غياب الإرادة السياسية لتفعيل مؤسسات الدولة، وتجسيد مفهوم "النزاهة" على أرض الواقع، دفع بالمطبخ السياسي إلى تشكيل لجنة توحي بامتلاك السلطة المأزومة لخريطة طريق واضحة الوجهة والمعالم !!
وعوضا عن تفعيل هيئة مكافحة الفساد -التي لم تتمكن من تجاوز سياسة "كبش الفداء"- أو تفعيل ديوان المحاسبة، وتحرير المجلس النيابي من سلطة المركز الأمني- السياسي وقوانينه، عمدت السلطة إلى تشكيل لجنة من شأنها مصادرة ما تبقى لهذه المؤسسات من صلاحيّات، دون أن يكون لهذه اللجنة أي اعتبار قانوني يمكنّها من تحقيق الهدف المعلن من إنشائها، الأمر الذي يحدّد لها ذات النهاية التي مضت إليها كافة اللجان السابقة.
الإصرار على خلق الانطباعات الزائفة، ومحاولة تجميل "النموذج الأردني" لإقناع الغرب بتقديم المزيد من المساعدات -التي لا يعلم أحد مصيرها- والاكتفاء بتشكيل لجان البروباغاندا الرسميّة، وحملات العلاقات العامّة التي تمتاز بها السلطة الأردنية، وما إلى ذلك من سياسات، راكم عبرها الأردن الرسمي خبرات واسعة، أوصلت البلاد إلى أزمات متتالية، حتى وصل الوضع إلى أقصى مستويات ما قبل الانفجار، وماتزال السلطة تصرّ على دفن القضيّة عبر المزيد من اللجان.. بعيداً عن أيّة محاولة لتفعيل مؤسسات الدولة وبناء حالة وطنيّة حقيقيّة.. فهل يزفّ لنا "طير الوروار" ذات يوم نبأ تجسيد إحدى توصيات اللجان العديدة -التي سبق وأن تمّ تشكيلها- على أرض الواقع ؟ أو بالأحرى، هل تصلح الأيّام ما أفسدته سياسة تشكيل اللجان ؟!