هجرة العقول والمهارات..... وإشكالية الفرص
د.ابراهيم بدران
جو 24 :
تمثل الهجرة المستمرة للعقول والمهارات مشكلة بالغة التعقيد بالنسبة للدول النامية، وخاصة حين تستمر لعدة عقود كما هو الحال في عدد من الدول الأفريقية والأسيوية والعربية، وفي مقدمتها مصر ولبنان والأردن. هل يؤثر ذلك على معدلات النمو الاقتصادي الوطني وعلى مستويات الإنجاز وعلى إمكانات المنافسة والإبداع بل و فرص التحولات الاجتماعية؟ أم أن هذه الهجرات ما هي إلا فرص للاغتراب و اكتساب الخبرة؟ وبناء الثروة الفردية والتوسع في العمران ؟
اذا نظرنا إلى دول العالم نلاحظ أن الدول الأكثر تعرضاً لهجرة العقول والمهارات هي الدول الأكثر زيادة في السكان أوالأكثر كبتا للحريات أو الأقل استقرارا أو الأشد بطئاً و تعثراً في التنمية الاقتصادية. في حين أن الدول الأقل تعرّضا لهذه الهجرة هي الأكثر ازدهاراً وتوازنا، والأكثر استثماراً للعقول والمهارات و الإنفاق في البحث و التطوير و الثقافة، والأعلى في التنمية البشرية و الأعمق في الديموقراطية. وتأتي سويسرا في مقدمة دول العالم في هذا الشأن ،تليها الدول الإسكندنافية و الدنمارك، ثم الدول المتقدمة الأخرى. وتأتي في مؤخرة القائمة الدول العربية غير النفطية ثم دول افريقيا جنوب الصحراء.
ولفترة طويلة وربما حتى الآن ،اعتبرت المؤسسات الرسمية لدينا هذه الهجرات شيئاً عادياً، بل جيداً ومرحبا به. فهي من ناحية تخفف من الضغط الاجتماعي في الطلب على فرص العمل الجديدة ،وتريح الحكومة بمؤسساتها من هذه المسؤولية، وتبعد كثيراً من الضغوط السياسية باتجاه الاصلاح والمشاركة والأحزاب والديمقراطية، وغير ذلك. ومن ناحية أخرى هناك عائدات هامة للمغتربين وصلت في الماضي إلى ما يقرب من 20% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أنها اليوم بحدود 10% من هذا الناتج.
ومع أن هجرة العقول والمهارات ظاهرة عالمية ،إلا أن اتجاه هذه الهجرة يحمل تعقيدات لابد من ملاحظتها. فالهجرة إلى دول صناعية متقدمة شيء، والهجرة إلى دول لا يميزها سوى ارتفاع الرواتب والاجور شيء آخر. ذلك انه بالمتوسط 60% من القوى المهاجرة تعود إلى الوطن و هي قادرة على العمل قبل التقاعد، وتحمل معها ما تعلمته من بلد المهجر،بالاضافة إلى ثروتها الفردية. وبذا فهي تعود من الدول الصناعية لتبدأ بانشاء مشاريع صناعية كما وقع في تركيا والهند والصين بعودة الكثير من القوى العاملة التركية من المانيا والهند والصين ومن أوروبا وامريكا. في حين أنها حين تعود من الدول غير المتقدمة عالية الرواتب، فهي تعود وتحمل معها نزعات الاستهلاك المبالغ فيه، وثقافة الثروة الجاهزة، وتميل إلى العمل في العقار وصناعة المال. وهذا لا يضيف إلى الاقتصاد الوطني شيئا يذكر. وهذا ما نلاحظه بقوة في حالة مصر والاردن خاصة وان الاقتصاد في كلا البلدين ليس صناعيا،و يعتمد على التجارة والزراعة والسياحة و الخدمات بالدرجة الاولى.
أما الصورة الداخلية لهجرة العقول و المهارات فهي اعقد من ذلك بكثير، من حيث تأثيراتها الفكرية و الثقافية، وكلفتها الاقتصادية الاجتماعية،والتي تفوق عائداتها بكثير، وعلى النحو التالي : أولاً : في الجانب الاقتصادي نلاحظ أن تحويلات المغتربين لا تتعدى عموماً 25% إلى 30% من قيمة انتاجاتهم واعمالهم في بلد الاغتراب. وهذه النسبة بالكاد تغطي الاستثمار الذي وضعته الدولة والمجتمع في تطوير امكانات ومهارات المغتربين، وخاصة ذوي المؤهلات والمهارات العالية. صحيح أن جزءًا من عائدات الاغتراب يتم استثماره في بناء المساكن والمباني وجزءا أقل تماماً في مشاريع انتاجية، ولكن هذا الاستثمار لا يعطي للاقتصاد الوطني وقوداً كافيا للانطلاق. ثانياً : إن هذه الهجرة تتسبب في زعزعة مستمرة ،وخلخلة متواصلة في هرم المهارات المهنية، بحيث يتحول هذا الهرم بعد عدة سنوات إلى بنيان هش، يتكون من عمالة متغيرة ،ومهارة قلقة ،وخبرة محدودة، وعقول وإمكانات تتبدل بين الفترة والاخرى بكلفة عالية لهذا التبديل.ثالثاً : إن المهارات و العقول التي تحل محل نظيراتها المهاجرة لا تتوفر لدى أصحابها الجدد الخبرة والمعرفة، ولا الانتماء العميق للعمل ولا للمهنة ذاتها. وهكذا تهبط ثقافة المهنة ،ويتراجع الاستعداد للابداع والتميز الذي يتطلب الخبرة التراكمية المستمرة. وتصبح البلاد فقيرة بالفنيين والمهنيين والقياديين المتمرسين ابتداء من العامل الزراعي ومروراً بالفني في المصنع أو الفندق الكبير، وانتهاء بالمعلم الخبير، والاستاذ المتمرس في الجامعة، والطبيب والمهندس و الباحث العلمي، بل واحيانا المفكر والسياسي والمثقف والفنان. رابعاً : فقدان البلاد الميزة النسبية الخاصة بالشرائح المنتجة، وتراجع موقعها التنافسي، و تفاقم الاحتياج للعمالة الماهرة المتخصصة، والقيادات المتمكنة و هو ما تعاني منه العديد من القطاعات لدينا . خامسا: انخفاض كبير في الإنتاج والانتاجية، وتدني القيمة المضافة للمنتجات و الخدمات، و خاصة في «الفترة الانتقالية بين الهجرة و الإحلال» و التي تمتد عادة لسنتين أو أكثر. سادساً: تدفق مهارات و عقول وافدة بدل الوطنية المهاجرة ،بكل ما يحمل ذلك من تحويلات مالية معاكسة، وتكاليف خدمات غير منظورة، ومشكلات أمنية واجتماعية بل وثقافية بالغة التعقيد ، يظهر أثرها على المدى القصير والمتوسط. إضافة إلى حلول بدائل من القرى والارياف تعمل على تفريغ المحافظات، بدلا من العمل على اعمارها وتنميتها.
كل ذلك خفض من كفاءة سوق العمل في الأردن ليكون ترتيبه 94 بين دول العالم وخفض من دليل رأس المال البشري ليكون 81 على الرغم من الوضع التعليمي والصحي الجيد نسبياً.
و إذا أخذنا بعين الاعتبارالتغيرات الهائلة التي تقع في المنطقة، و احتمالات الانكماش الاقتصادي في دول الخليج، وإحلال المهارات الوطنية هناك محل الوافدة، والتطورات التكنولوجية الهائلة التي تحملها السنوات القادمة، فإن التحدي أمام الحكومة و مؤسساتها هو :»كيف يمكن تحويل العقول و المهارات الأردنية المهاجرة من مفصل ضعف إلى محرك قوة لدفع الاقتصاد الوطني باتجاه التصنيع والنهوض والنمو المتسارع «؟
و حتى تتم الاستفادة الحقيقية من العقول والمهارات المهاجرة سواء من حيث الخبرات التي اكتسبوها أو الثروات التي بنوها بجهودهم، فإنه ينبغي وضع برنامج وطني لتوظيف إمكاناتهم و تنميتها في الإطار التالي:1-تطوير دائرة المغتربين في وزارة الخارجية لتشمل الأبعاد الاستثمارية و الاجتماعية والعلمية و التكنولوجية والثقافية.2-تطوير و تجويد مناخ و أدوات و إدارات و جواذب الاستثمار، ومناخ العمل والعمالة وخاصة في المشاريع الانتاجية باتجاه التصنيع.3- وضع «دليل المشاريع الاستثمارية للمغتربين»و إنشاء شراكات تساهم فيها المؤسسات الرسمية في البداية، حتى لا يصاب المغترب المستثمر بالاحباط. وبالتالي ينصرف إلى الاستثمار إما خارج البلاد وإما في المال والعقار.
إن هجرة العقول والمهارات بالنسبة لبلد كالأردن هي استنزاف للرأسمال البشري أواستثمار جزئي له.و هي مسألة بالغة الأهمية .إذا تركت على سجيتها، تؤدي إلى حالة من الضعف وعدم الاستقرار المهني والانتاجي، في حين اذا احسنت ادارتها و خاصة في الفترة الحالية و القادمة يمكن أن تساعد على بناء مستقبل مزدهر وخلال فترة زمنية قصيرة.