jo24_banner
jo24_banner

"علمانيات" لا واحدة!

محمد أبو رمان
جو 24 :

ثمة رؤى متباينة، بل ومتضاربة، لدى المثقفين والسياسيين العرب تجاه السؤال الأكثر أهمية في العالم العربي اليوم، وهو دور الدين في المجال العام. إلاّ أنّ مشكلة أغلب السجالات المطروحة اليوم أنّها تطرح الموضوع من الزاوية الأيديولوجية (مع أو ضد)، وكأنّنا أمام قضية مسطّحة؛ بينما -على النقيض من ذلك- تمثّل هذه القضية أحد أبرز الموضوعات الشائكة والمركّبة التي تحتاج إلى دراسات نظرية وتاريخية وواقعية معمّقة!
ضمن هذا السياق، يمكن أن نجد كتاب أحمد ت. كورو (الباحث التركي)، بعنوان "العلمانية وسياسات الدولة تجاه الدين (الولايات المتحدة، فرنسا، تركيا)"، مفيداً ومهما لترشيد النقاشات والحوارات العربية الحالية حول العلمانية والدين ودوره في المجال العام.
الكتاب (وهو في الأصل أطروحة دكتوراه) يتجاوز سياقات التعميم والمنظورات الأيديولوجية، ويتناول خريطة الأنظمة العلمانية في العالم بأسره، ليصل إلى نتيجة مهمة مفادها أنّنا لسنا أمام علمانية واحدة مشتركة، بل علمانيات مختلفة ومتنوعة ومتباينة في وجهات نظرها للدين ودوره في المجال العام. وفيما يميّز الباحث في الأصل بين علمانية سلبية (أي أقل حدّة تجاه الدين)، وعلمانية حازمة، إلا أنه يقدّم أيضاً خرائط للأنظمة الدينية في العالم، وطبيعة العلاقة بين الدين والدولة؛ من أنظمة دينية، إلى تلك التي فيها دين راسخ، ثم العلمانية وأخيراً اللادينية.
لعلّ أبرز مساهمة يقدّمها الكتاب تتمثّل في المقارنة بين ثلاثة أنظمة علمانية تختلف في تحديد صيغة العلاقة بين الدين والدولة. ففي الولايات المتحدة، تتغلّب العلمانية السلبية التي تتيح قدراً معيناً للدين في المجال الاجتماعي. بينما في فرنسا وتركيا تتغلّب العلمانية الحازمة، التي تصر على اختزال دور الدين في المجال الخاص والشأن الفردي، وترفض أي إشارات أو رموز دينية في المجال العام.
المقارنة تتجاوز الوصف إلى التحليل؛ فهي تتناول أولاً العلمانية من حيث السياسات الدينية والسياسات التعليمية، والسماح بالشعائر والصلوات في المدارس، والرموز الدينية في الحياة العامة. وتعبر الدراسة من ذلك إلى تفسير الاختلافات بين الأنظمة الثلاثة على صعيد نمط العلمانية السائد، مع التركيز على فرضية "النظام القديم" (أي ما قبل الأنظمة العلمانية الحديثة) في تلك الدول، وتأثيره على النخب السياسية والاقتصادية وموقفها من الدين. ويضع الباحث أربعة مؤشرات رئيسة في تحديد هذا التأثير، تتمثّل في النظام الملكي، والدين السائد، ودرجة التحالف التي كانت قائمة بين الاثنين، وأخيراً موقف الحركة الجمهورية.
وعلى هذا الأساس، يميّز الكتاب العوامل التي تقف وراء اختلاف الأنظمة العلمانية. ففي فرنسا، تم تحميل رجال الدين مسؤولية كبرى في التحالف مع النظام الملكي القائم والإقطاعيين. وفي تركيا، كان رجال الدين لاعباً رئيساً في النظام السابق على الكمالية. بينما في الولايات المتحدة لم يكن هنالك نظام قديم فيه هذا التحالف، ولم تتشكّل عداوة من النخب السياسية تجاه الدين ورجاله، بل على النقيض من ذلك كانت "الحرية الدينية" بمثابة بنية أساسية في تقوية دعائم علمانية متسامحة منفتحة.
في الخلاصة، العلمانية ليست مفهوماً جامداً (استاتيكياً)، ولا مسطّحاً، وكذلك حال تصورات الإسلاميين للدولة؛ فهي متباينة ومتنوعة، وتجارب الدول والعلاقة بين الأنظمة الجديدة والقديمة السابقة عليها مختلفة، والشروط التاريخية (التي تؤثر بنيوياً في مفهوم العلمانية الدارج) أيضاً مختلفة. وهذا وذاك يدفع إلى عدم الوقوف عند خطوط الصدام الأيديولوجي، أو الاكتفاء بمواقف معلّبة مسبقة، بل المطلوب البحث بصورة معمّقة وواقعية عن صيغ توافقية للعلاقة بين الدين والدولة في الأنظمة الديمقراطية العربية الجديدة. وهي صيغ مرشّحة للتطور والتحول، تبعاً لموقف النخب السياسية واتجاهاتها وتصوراتها، وأيضاً مصالحها!
(الغد )

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير