بانوراما الحراك..دور اليسار في تكريس ثنائيّة الصراع
كتب تامر خرمه
في رسالة تعكس عدم رغبتها بدخول معركة كسر العظم مع السلطة في هذا التوقيت، قرّرت الحركة الاسلاميّة عدم استنفار كوادرها وأنصارها للمشاركة في فعالية "الشرعية الشعبية" التي اقتصر عدد المشاركين فيها على بضعة آلاف، رغم أن الحركة أثبتت قدرتها على تحشيد عشرة أضعاف هذا العدد عندما نظّمت فعاليتها الكبرى في جمعة "إنقاذ وطن".
مخاوف السلطة من تكرار مشهد "إنقاذ وطن" على دوار فراس قبيل بدء الاقتراع للانتخابات النيابية، دفعها إلى محاولة إعاقة الحافلات القادمة من المحافظات وتأخير وصولها إلى مكان الفعالية، كما اخترقت "جهات ما" الحسابات الشخصيّة لقيادات الحركة الاسلامية على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" وبدأت بنشر أخبار مشكّكة حول موعد الفعاليّة، الأمر الذي يعكس قدرة الإسلاميّين على إثارة مخاوف صنّاع القرار إلى أعلى درجاتها.
ولكن.. ما هو السبب الذي حال دون قيام الحركة الاسلاميّة بالنزول إلى الشارع بكامل ثقلها في جمعة "الشرعيّة الشعبيّة"، خاصة وانّها استقطبت عددا من الحراكات الناشئة للمشاركة في تلك الفعاليّة ؟!
قد يروق للبعض الذهاب في تحليلاتهم إلى تراجع حضور الحركة الاسلاميّة في الشارع، وانسحاب عدد من الحراكات التي فضّلت الابتعاد عن الاسلاميّين إثر تفاقم الخلافات في أروقة تنسيقيّة الحراك.. غير أن هذه النتيجة لن تكون منسجمة مع معطيات الواقع، الذي يؤكد استحالة تراجع حضور الحركة -في تلك الفترة القصيرة- إلى هذا الحدّ.
ومن جهة أخرى كشف ارتفاع السقف السياسي للهتافات التي شهدتها الفعاليّة، استعداد الاسلاميّين للدفع بالصراع إلى مداه الأقصى، في حال أصرّت السلطة على موقفها الرافض لإشراكهم الكامل في نظام الحكم.. ولكن رغم هذا لم تدفع الحركة بكامل ثقلها في تلك الفعاليّة، التي لم تتحوّل إلى اعتصام مفتوح كما كان متوقعاً، تجنباً للصدام.
"الشعب يريد إنذار النظام".. كان الهتاف الذي ترجم فحوى رسالة الحركة الاسلاميّة، التي آثرت إيصال رسائلها دون البدء في معركة قد لا تكون الظروف مواتية لخوضها.. وربما يراهن الاسلاميّون على ما يخبئه الشارع في المستقبل القريب، فور الإعلان عن قرار آخر لرفع الأسعار.
الرسالة وصلت.. يقول لسان حال الحركة الاسلاميّة، ولكن هل مازال بإمكان السلطة أن تتراجع عن تعنّتها وتعود لطاولة التفاوض من أجل استرضاء الاسلاميّين ؟! يمكن لأي مراقب إدراك فوات الأوان لمثل هذه الخطوة، ما يدفع باتجاه الاعتقاد بأن الحركة الإسلاميّة إنّما أرادت من "جمعة الإرادة الشعبيّة" أن تكون مجرّد إعلان عن استعداداتها لقادمات الأيّام، وهي رسالة توجهها الحركة إلى القوى الأخرى وليس للسلطة فقط.
تباين المواقف من القضايا الخارجيّة شكل مفترق الطرق الذي باعد تماما بين الإسلاميّين ومختلف القوى والأحزاب القوميّة واليساريّة، ولم يكن التفرّد في تنظيم فعالية "الإرادة الشعبيّة" دون التشاور مع القوى الأخرى، سوى استمرار للعزف المنفرد الذي فرضته التطورات على الحركة الإسلاميّة، بما يكرّس ثنائيّة الصراع بين الإسلاميّين والسلطة.
بالطبع.. ليس من مصلحة الإسلاميّين تكريس مثل هذه الثنائيّة التي من شأنها عزل الحركة وشيطنتها، غير أنّ التطورات الإقليميّة فرضت على الحركة البحث عن شركاء صوريّين من بعض الحراكات الشعبيّة الناشئة، بعيداً عن أدنى محاولة للتنسيق مع القوى اليساريّة والقوميّة.. ولكن لا يمكن لمثل هذا الواقع أن يمكّن الحركة من تجاوز حالة الثنائيّة، خاصّة وأن هناك من يرغب بتكريسها داخل قيادات الحركة نفسها، ظناً بأن ما يجري على الساحة الإقليميّة سيمكّن الإسلاميّين من الاستئثار بالمشاركة السياسيّة مع النظام.. ومن هنا جاء شعار "إصلاح النظام" الذي يترجمه البعض بالسعي من أجل تحقيق هذه الشراكة.
وفي مواجهة هذه الثنائيّة، تحاول القوى اليساريّة الارتقاء بالعمل المشترك فيما بينها، وبلورة "الاتجاه الثالث"، غير أنّ الخلافات الثنائيّة، وإثارة القضايا الهامشيّة، مازالت تحول دون تحقيق هذا الهدف.
في الآونة الأخيرة ارتفعت وتيرة التنسيق بين كل من: الحزب الشيوعي، وتيّار التغيّير والتحرير، والتيّار القومي التقدّمي، والحراك الشبابي الأردني.. وبالفعل نظّمت هذه القوى سلسلة فعاليّات مشتركة، لكنّها مازالت في بداية الطريق، ولا يمكن لها أن تبلور أيّ إطار مشترك دون تجاوز أخطاء التجارب السابقة، التي هيمنت عليها الكولسات الثنائيّة والنزعة الفرديّة، وحالت دون استمرار أيّ ائتلاف جمع قوى اليسار منذ بدء الربيع الأردني.
وفي حال نجحت هذه القوى في تجاوز العقليّة التي استندت إليها التجارب السابقة، ومهّدت لتشكيل "البديل الثالث"، فإنّها ستحقّق نقلة نوعيّة للحراك الشعبي، لا يمكن للسلطة الاستهانة بها بأي حال من الأحوال، فمن شأن مثل هذا الإطار الوحدوي -في حال بلورته- أن ينقل المشهد السياسي إلى خارج حدود الدائرة المغلقة لثنائيّة الصراع بين الإسلاميّين والسلطة، الأمر الذي يحقّق مصلحة كافة أطياف الحراك، بما فيها الحركة الإسلاميّة، التي سبق وان أشرنا إلى تناقض مصلحتها مع هذه الحالة من الثنائيّة.
كما أن الأحزاب اليساريّة والقوميّة الأخرى، التي تصرّ على مواصلة العزف المنفرد، متذرّعة بخلافات ثنائيّة لا تستحق مجرّد الالتفات إليها، فهي الآن في مواجهة أمام مسؤوليّاتها الوطنيّة، ما يحتّم عليها إعادة ترتيب أولويّاتها، وتجاوز النزعة الذاتيّة التي كرّست غربة اليسار الأردني وتشتّته، الأمر الذي يعدّ السبب الجوهريّ لظهور ما يسمّى بـ "ثنائيّة الصراع" بين السلطة والحركة الإسلاميّة.