2024-05-14 - الثلاثاء
Weather Data Source: het weer vandaag Amman per uur
jo24_banner
jo24_banner

ضدّ النسويّة

ضدّ النسويّة
جو 24 :
كتب تامر خرمه - 

من أين نبدأ؟ يقال أن اللغة هي وعاء التفكير، ما يعني أن المفردة لا تعبّر عن دلالة فحسب، وإنّما تعكس أيضاً نمط تفكير، وربّما مفاهيم معيّنة، بل و"أيديولوجيا" قد تكون "دوغمائيّة" في كثير من الحالات، خاصّة إذا أخذنا بعين الاعتبار وجهة نظر مدرسة "الواقعيّة الاشتراكيّة"، التي أعلنت ، ذات مرحلة وصفت بـ "الثوريّة، بأنّ كلّ "عمل أدبيّ هو نتاج أيديولوجي".

وما ينطبق على الأدب واللغة لا يختلف كثيراً عن المعايير التي يمكن تطبيقها على مختلف التيّارات السياسيّة أو الاجتماعيّة، سواء أكنت من أتباع المدرسة الانطباعيّة أو البنيويّة أو حتّى التفكيكيّة.. الكلّ اتّفق على أهميّة المفردة، ورغم الاختلاف على طريقة التعامل مع النصّ، فلا ينكر أحد أنّ الكلمات والتفكير لا يمكن لهما البقاء في حيّز الوجود، بمعزل عن بعضهما البعض.

والآن لنتناول مفردة "النسويّة"، التي حمّلتها الصيرورة السياسيّة- الاجتماعيّة انطباعاً "إيجابيّاً"، وفي بعض الحالات "ثوريّاً". ولكن لنتمهّل قليلا ونتساءل بعض الشيء، أليست هذه المفردة مطابقة في جوهرها لمفردة "الذكوريّة"، بمعنى الانتساب إلى "جندر" معيّن، والدفاع عن مصالحه، في مواجهة "الآخر".

ترى، ما الفرق بين الانتماء إلى "المرأة" في مواجهة الرجل، عن الانتماء إلى أمّة أو حتّى دين، في مواجهة "الآخر"، الذي تختلقه دائماً مصالح طبقة معيّنة، تصرّ على احتكار السلطة والثروة، رغم وجود موارد تكفي الجميع، على اختلاف انتماءاتهم؟ وهل الانتماء هنا يمكن اعتباره ضرورة، أم هو محض اختراع يتمّ فرضه بهدف غسل الأدمغة، وقيادة قطعان من البشر خلف مصالح بضعة أفراد؟!

قد يوجد من يجادل بأن "الانتماء للمرأة" والدفاع عن حقوقها يختلف عن الانتماءات العنصريّة الأخرى، بذريعة أن المرأة (وخاصّة الشرقيّة كما يحلو لمن اعتمد مقاربة الغرب) مضطهدة ومعنّفة. هنا لا بدّ من الإشارة إلى ثلاثة محاور:

أوّلاً، اضطهاد المرأة ليس مبرّراً للعنصريّة المتمحورة حول جنس ضدّ جنس آخر. وليس صحيحاً أن مختلف الحركات النسويّة لا تضع الرجل بشكل عامً في خندق الأعداء، على اعتبار أنّه هو من يضطهد المرأة، حيث تتناسى تلك الحركات في ممارساتها اليوميّة ما تعلنه هي ذاتها في أدبيّاتها، بأن حتّى المرأة هي مصدر اضطهاد لنظيراتها.

في حال أردت تبرير العنصريّة الجندريّة بذريعة الاضطهاد، بيمكن إذاً تبرير أيّة عنصريّة، دينيّة كانت أم قوميّة، بالذريعة ذاتها. كم من أمم استغلّت واضطهدت أمماً أخرى؟ فهل يبرّر هذا تصنيف شعب أو ملّة ما في خانة العداوة بسبب اضطهاد ساسته للأمم الأخرى؟

مجدّدا.. من المتوقّع أن تخرج كثيراً من ردود الأفعال التي تحاول ادّعاء أن "النسويّة" ليست عنصريّة أو تعبير عن عداء للجنس المختلف. ولكن مجرّد استخدام هذه المفردة للتعبير عن حركة أو حركات اجتماعيّة، هو دليل على هذا الانتماء العنصريّ.

ثانياً، هل حقّاً يمكن "تحرير" المرأة عبر النضال فقط من هذه الزاوية؟ بمعنى أن نجتزء قضايا الاضطّهاد ونعمل فقط من أجل رفع الظلم عن فئة معيّنة، بمعزل عن القضيّة العامّة، المتمثّلة بتحرير الإنسان، بصرف النظر عن جنسه ولونه ودينه ومعتقده وعرقه وأصله وفصله.. الخ. الذكوريّة هي نتاج منظومة سياسيّة- اقتصاديّة اجتماعيّة شاملة، ولا تمكن محاربتها بالتركيز على قضيّة جزئيّة، ولا بطرح نقيض يحمل في جوهره ذات الصبغة العنصريّة الإقصائيّة.

إذا أردت التغيير حقّاً، فعليك اتّخاذ مقاربة أكثر شموليّة.. يستحيل تحرير فئة مهمّشة في ظلّ نظام يستند أساساً إلى مبدأ التهميش، كما أنّك لا تستطيع البقاء بعد أن تسهم -بشكل أو بآخر- في عمليّة أكل الثور الأبيض. إذا أردت تحرير المرأة فعليك مناهضة كلّ أشكال الاستغلال والاضطهاد لكافّة الفئات، عوضاً عن التخندق في إطار ضيّق لفئة محدّدة، دون غيرها. النضالات الجزئيّة لن تقود إلى أيّ مكان، وهذا ما أثبتته مختلف التجارب.

ثالثاً، القضيّة في جوهرها هي نزعة محمومة لامتلاك السلطة، وليس "التحرير"، فكما تحتمل مفردة "الذكوريّة" دلالة سلطة الرجل، فإن مفردة "النسويّة" تحتمل أيضاً دلالة منازعة الأنثى للذكر على هذه السلطة، ما يتناقض تماماً مع الشعار الأكثر أهميّة لكافّة الحركات النسويّة، وهو: المساواة الجندريّة. إذا كان الهدف هو فعلاً "المساواة"، فليست "النسويّة" هي العنوان المناسب.

ترى، ما الذي يعيب كلمة "الإنسانيّة"؟ عوضاً عن اختيار مفردة تعبّر عن هدف المساواة "الجندريّة" كمصطلح "النسويّة"، كان الأجدى اختيار مفردة "الإنسان". مجدّداً القضيّة ليست مجرّد كلمات، بل تعبير عن نمط تفكير، يعزّز الانتماء إلى جنس بعينه، ويتّخذ من الجنس الآخر عدوّاً.

من ناحية أخرى قد يكون مفيداً للبعض إدراك أن مفردة "المساواة" لا تعني "التماثل". ولنكن أكثر وضوحاً دعنا نلتفت قليلاً إلى توقّعات الجنسين في العلاقات الحبّيّة. ألا تتوقّع المرأة من شريكها استيعاب اختلافها الفسيولوجيّ- المزاجيّ عنه، مثلما يتوقّع هو ذلك منها؟ وهل ترضى أن تكون ردّة فعله في لحظات ضعفها أو ضيقها مماثلة لردّة فعل إحدى صديقاتها؟ والأمر ذاته بالنسبة له، عندما يكون حزينا أو في لحظة ضعف، فإنّه لن يتوقّع منها ذات الطريقة في المساندة التي قد يمنحها له صديق أو رفيق!

المساواة "الجندريّة" لا يفترض أن تكون عبر تحويل المرأة إلى رجل، وهذا تناقض جوهريّ في فكر الحركات النسويّة -على اختلافها- فمعظمها ترى أن "تحرير" المرأة يتمّ عبر جعلها "مؤهّلة" وفق مقاييس فرضها المجتمع الذكوري. مثلاً، من حقّ المرأة أن تعمل في أيّة مهنة تحبّها، لكن الإصرار على أن عملها في "ميكانيكيا" السيّارات أو في "الطوبار" هو دليل على تحرّرها، هو محض عبث.

الأعمال اليدويّة الشاقّة مرتبطة بمفهوم "القوّة" الجسديّة، التي "يتميّز" بها أغلب الرجال -وليس جميعهم- ما يعني أن اعتبار تحرير المرأة يتمثّل بالانخراط في مثل هذه الأعمال، هو انصياع أعمى للمفاهيم والقيم التي فرضها المجتمع الذكوري، كمفهوم "القوّة"، باعتباره مفهوماً "إيجابيّاً"، رغم حقيقة أن هذه "القيمة" كانت السبب الأساسيّ لإهدار حياة كثيراً من البشر، في سياق "المنافسة" التي تفرضها قواميس المنظومة الرأسماليّة.

تحرير المرأة لا يمكن أن يتحقّق عبر "التماثل" الذي يفرضه الانصياع للقيم الذكوريّة. وكئلك لا يمكن له أن يتحقّق عبر مسألة تافهة كاللباس. نعم اللباس. لنلتفت هنا إلى "الموضة"، ابتداء من "الكعب العالي" وليس انتهاء بـ "الميني جب"..

ألا تلاحظ أن معظم "الموديلات" والتصاميم، تريد إظهار المرأة بالشكل الأكثر إثارة للرجل؟ لماذا لا توجد تصاميم "رجاليّة" تكون بذات الإثارة للنساء كما هو الأمر بالنسبة للملابس النسائيّة؟! هل هنالك ذكوريّة أكثر من إقناع المرأة بضرورة ارتداء ملابسها وفقاً لرغبات ونزوات الرجال؟! وهل هنا تكمن الحريّة؟ لما لا ترتدي المرأة -والرجل على حدّ سواء- ما يريحهما ويظهر جماليّتهما دون فرض معايير ترضي أحد الجنسين دون الآخر؟! هنا يمكن الحديث عن المساواة.

الذكوريّة هيمنت نتيجة تحوّلات اجتماعيّة- اقتصاديّة شرحها فريدريك إنجلز بشكل مفصّل في كتابه "أصل العائلة.. الملكيّة الخاصّة والدولة"، وهدمها لا يمكن أن يتحقّق بالاستناد إلى ذات الجوهر الذي تستند إليه الحركات النسويّة اليوم. في ظلّ هذا النمط للملكيّة ينبغي اتّخاذ مقاربة أكثر شموليّة للتحرير، بعيداً عن الانتماء لجنس أو عرق في مواجهة "الآخر" الذي تخلقه المصالح المرتبطة بالملكيّة الخاصّة.

والآن، دعنا نسلّط الضوء على التناقض الذي نجم إثر محاولات بعض المنظّمات الغربيّة فرض طرقها على سياق اجتماعيّ مختلف، كالمنطقة العربيّة. كثير من تلك المنظّمات عملت على "تحرير" المرأة العربيّة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟

النتيجة تجلّت بازدواجيّة مرضيّة، تتمثّل بمحاولة بعض النساء امتلاك فوائد كلا الطرفين: المجتمع الذكوري الذي يضمن لها "الحماية" و"الإنفاق"، والاستقلاليّة التي تعدها بها الحركات النسويّة. بمعنى أنه باتت هنالك عدّة حالات عكست رغبات نساء في الاستمرار بدورهنّ الاتّكاليّ، بالتوازي مع مطالبتهنّ بالاستقالاليّة!

ولكن هل حقّاً يمكن اعتبار أن المرأة العربيّة، وفي الأردن تحديداً، مضطهدة إلى تلك الدرجة التي تصوّرها الحركات النسويّة الغربيّة. لنأخذ مثلا عادات وتقاليد الزفاف. الأمّهات يتّفقن على كلّ شيء، ويرتبنّ كل التفاصيل، ويقتصر دور جاهة "الذكر" على بعض الديباجات التي لا يمكن لها أن تخرج عمّا قرّرته النساء. فلمن السلطة في هذا الأمر؟!

يطول الحديث حول حقيقة ادّعاء المنظّمات النسويّة الغربيّة أنّها ستصل بالمرأة العربيّة إلى جنّة الحريّة. مثالان فقط قد يكفيان لاختصار الكثير. أولاً: إلغاء المادّة 308 من القانون الأردني، والتي كانت تنصّ على أنّ المغتصب يعفى من العقوبة في حال زواجه بضحيّته. نعم النصّ مستفزّ جدّاً، ويعكس في ظاهره عنفاً لا مثيل له.. ولكن ماذا عن التفاصيل، والدوافع الحقيقيّة لهذه المادّة.

معظم الحالات التي وضعت تلك المادّة لمعالجتها كانت تتمحور حول أفعال جنسيّة تتمّ بالتراضي بين الطرفين، ولحمايتهما من القتل وضعت هذه المادّة، بحيث تدّعي الفتاة تعرّضها للاغتصاب، مقابل تزويجها من محبوبها وإسقاط العقوبة عنه، وهكذا يتمّ "صون" شرف العائلة. وإنقاذ روحين كان من الممكن إزهاقهما.

أمّا حالات الاغتصاب الحقيقيّة، فكانت تتمّ معالجتها بعيداً عن هذا القانون، بحيث كان المعتدي -في معظم الحالات- يتلقّى العقوبة العادلة. النشطاء النسويّون والنسويّات، حاربوا وناهضوا تلك المادّة، دون دراسة التفاصيل والحيثيّات، فماذا كانت النتيجة؟ الشرطة لا تملك اليوم مدخلاً قانونيّاً للحفاظ على حياة فتاة استسلمت ذات رغبة. فهل يمكن اعتبار ذلك "تحرير"؟ كان الأجدى اتّخاذ مقاربة أكثر شموليّة وجذريّة، عوضاً عن مناهضة قانون دون إدراك السياق الذي أدّى لإقراره.

أمّا المثال الآخر، الذي يظهر عبثيّة محاولات فرض السياق الغربي على سياق مختلف تماماً كالمنطقة العربيّة، والأردن تحديداً، فيتمثّل ببعض المقاربات التي هاجمت الثقافة العربيّة بكلّ جوانبها، عبر مهاجمة اللغة واتّهامها بأنّها لغة ذكوريّة، حيث لجأ البعض إلى استخدام وسائل كتابة تضيف مفردة مؤنّثة بجانب كلّ مفردة متّصلة بفعل أمر، كفعل: أكتب، أو إقرأ مثلاً، يضاف إليهما مفردات من قبيل إقرأي، أو اكتبي، باعتبار ذلك منطلقاً لـ "المساواة".. حقّاً!! الردّ على هذا التسطيح يمكن أن يكون ببساطة بتذكير "النسويّين" و"النسويّات" بأنّه في اللغة العربيّة نقول: قالت العرب، وليس "قال العرب"، كما أن مفردة "الموت" "مذكّرة"، في حين أنّ مفردة "الحياة" "مؤنّثة"..

ولا تقتصر القضيّة على المنطقة العربيّة.. المنظّمات المنبثقة عن المجتمعات الرأسماليّة المتقدّمة تعتقد أنّها تمتلك الحقيقة المطلقة، وتحاول دوماً فرض نتائج تجربتها التاريخيّة على مجتمعات مرّت بسياق مختلف تماماً، وتدّعي أنّها تمتلك معرفة سبل تحرير بعض الفئات في تلك المجتمعات، وهذا هو ما يمكن اعتباره المقاربة الأكثر غباءً، على مرّ العصور.
 
تابعو الأردن 24 على google news