أولويات الحراك الإصلاحي الأردني بين الأيديولوجيا والديمغرافيا
رغم أن الحراك الشعبي والسياسي الأردني المعارض تزامن مع بدايات الاحتجاجات في الدول العربية الأخرى التي قادت إلى الثورات وتغيير أنظمة الحكم، تعد النتائج السياسية التي استطاع هذا الحراك الدفع باتجاهها متواضعة مقارنةً بما تحقق، على سبيل المثال في كل من مصر وتونس واليمن وليبيا وحتى بالمغرب، الذي يمكن اعتباره الدولة الملكية الأكثر قربا (من زاوية طبيعة النظام السياسي وسماته).
تقف عوامل متعددة وراء تواضع الخطوات الإصلاحية -وانبثقت عنها الانتخابات النيابية الأخيرة التي قاطعتها المعارضة- من بينها عدم استعداد النظام الأردني لتقديم تنازلات جوهرية في الإصلاحات، لم يستطع الحراك السياسي والشعبي الأردني أيضا بناء قوة دفع وضغط كبرى لتحقيق هدفه المعلن "إصلاح النظام" (وليس إسقاط النظام)، مقارنة بالحالة الشعبية العربية التي فرضت شروطا جديدة وأنجزت التغييرات.
ثمة أسباب رئيسة لعبت دورا مهما في ضعف "الحراك الشعبي" في مقدمتها تباين الشعارات والأولويات داخل الحركات الإصلاحية وما تعكسه من مصالح القوى الاجتماعية التي تمثلها، وتحديدا ما يتعلق بالإشكالية الأكثر حساسية (الانقسام الاجتماعي الديمغرافي بين أصول شرق أردنية وفلسطينية)، فيما ساهمت تداعيات الربيع العربي (أيضا) في الأشهر الأخيرة بزيادة حالة الانقسام والاستقطاب في الحراك والمعارضة من جهة، وفي بث حالة من الرعب لدى المواطن الأردني من حالة الفوضى أو الدماء (من جهة أخرى).
رغم هذه المحددات نجح الحراك الإصلاحي في تغيير أجندة الإصلاح ورفع سقفها وفرض قضايا خارج رغبة "مطبخ القرار الرسمي" على الطاولة، مثل التعديلات الدستورية والمحكمة الدستورية والحديث عن حكومة برلمانية وإحالة قضايا فساد مختلفة إلى القضاء، كل هذا تحقق بدفع من الحراك الشعبي رغم "الممانعة الرسمية".
هذه وتلك من المؤشرات أضفت على "الحراك الشعبي" الأردني المطالب بالإصلاح سمات خاصة، انبثقت عن طبيعة التكوين الاجتماعي-السياسي وأثرت بالضرورة على الشعارات والأولويات التي رفعتها الحراكات الإصلاحية، كما سنوّضح في الفقرات التالية.
مفاصل مهمة في مسار الحراك وأولوياته
مرّ الحراك الشعبي بمراحل متعددة، ومنعطفات مختلفة أثرت على أولوياته ومدى انتشاره وطبيعة القوى الاجتماعية التي تقف وراءه.
المرحلة الأولى: ابتدأت منذ العام 2010 عبر حركات اجتماعية واحتجاجية، مثل حركة المعلمين (التي كانت تطالب بتأسيس نقابة للمعلمين، تحققت خلال العام 2011)، وما سمي بعمال المياومة في وزارة الزراعة، وكذلك عمال ميناء العقبة، وجميعها تحمل هموما ومطالب اقتصادية، دخلت في صدام مع الأجهزة الرسمية لتحسين ظروفها.. ثم انتشرت بعد ذلك الحركات الاحتجاجية المطلبية وتوسعت، مثل العاطلين عن العمل في بعض المحافظات، وغيرها من مجموعات وحركات، كانت تنحو باتجاه المعارضة السياسية عندما تتأخر استجابة الحكومة والأجهزة الرسمية.
المرحلة الثانية: تلت الانتخابات النيابية أواخر 2010، وجاءت رد فعل على الصورة الباهتة والسلبية التي ظهر عليها مجلس النواب، وتزامنت مع صعود الاحتجاجات في دول عربية أخرى، وبدأت "تتزاوج" فيها مطالب المعارضة التقليدية التي قاطعت الانتخابات (مثل جماعة الإخوان المسلمين) مع الحركات والمجموعات الجديدة التي تتشكل، ومثلت المسيرات المركزية التي تنطلق من وسط العاصمة عمان التعبير الاحتجاجي الأكبر.
في هذه اللحظة ظهرت مجموعات متعددة، بأسماء وعناوين مختلفة، تداخلت مع اتجاهات فكرية وسياسية قائمة أصلا، مثل حركة جايين، والتيار الوطني التقدمي، والمتقاعدين العسكريين، والتيار القومي التقدمي، وحركة دستور 52، ومجموعة الـ36 ... إلخ.
تمثل السقف الأعلى بدعاة الملكية الدستورية (مجموعة من قيادات الإخوان المسلمين مع شخصيات سياسية أخرى)، ومن المعارض المعروف ليث شبيلات، الذي وجه رسالة نقدية شديدة للملك، شملت رحلاته ومصاريفه المبالغ فيها، وشبهات حول تورطه بالفساد، وسوء الإدارة السياسية، وغيرها من لغة غير متداولة في النقاشات السياسية العامة في البلاد.
التزاوج بين المعارضة القديمة والجديدة وإن كان خلق قوة دفع سياسية نحو الإصلاح، فإنه لم يخلق حالة من التناغم والانسجام والتفاهم على أولويات الإصلاح وسقوفه، ففي الوقت الذي اتفق فيه الجميع على أن سقف المطالب يتمثل بـ"إصلاح النظام"، تباينت الاهتمامات والشعارات وأولويات الخطاب وربما تناقضت في أحيان.
ففي الوقت الذي كان تركيز المعارضة الإسلامية على قانون الانتخاب والإصلاحات السياسية، بدأت مجموعات أخرى (مثل اليساريين والوطنيين الأردنيين والعشائريين) بالتركيز على قضايا الفساد والبرنامج الاقتصادي الاجتماعي، في الوقت الذي ظهرت فيه حركات (مثل المتقاعدين العسكريين والتيار الوطني التقدمي) تركز على الهوية الوطنية (الخوف من الوطن البديل)، وتجعل من دسترة و"قوننة" قرار فك الارتباط أولوياتها، بالتزاوج مع تركيزها على قضايا العدالة الاجتماعية ومحاربة الفساد، ورفض تدخل الملكة (من أصول فلسطينية) في الشأن السياسي والعام.
ارتفعت وتيرة الحراك وتأسيس المجموعات المطالبة بالإصلاح مع نجاح الثورتين المصرية والتونسية، وأدى التزاوج بين العوامل الداخلية والإقليمية إلى تغيير رئيس الوزراء سمير الرفاعي، ومجيء د. معروف البخيت، الذي أوكل له الملك القيام تشكيل لجنة حوار وطني وإجراء إصلاحات على قانون الانتخاب والأحزاب، فيما أجبرت الضغوط الشعبية والسياسية "مطبخ القرار" على إضافة بند التعديلات الدستورية إلى "أجندة الإصلاح السياسي".
المرحلة الثالثة: في الوقت نفسه كانت حركات شبابية من داخل الإخوان المسلمين ومتحالفة معهم، ومن اليساريين والقوى الأخرى تدعو (عبر العالم الافتراضي-الإنترنت) إلى اعتصام مفتوح في 24 مارس/آذار 2011، على غرار الاحتجاجات المصرية والتونسية، لإعطاء الإصلاح دفعا قوية، وهو الاعتصام الذي قامت قوى الأمن بفضه بقوة وعنف.
بعد أحداث 24 مارس/آذار انتقل الثقل الشعبي للحراك من العاصمة عمان إلى المدن والمحافظات الأخرى، في الطفيلة (وفي حي الطفايلة في عمان) ومعان وإربد والكرك، وبدأت تظهر "حراكات شبابية" باسم المحافظات والمناطق الشرق أردنية، مع ذلك بقيت في إطار محدود في أغلب المدن، باستثناء الطفيلة التي شهدت مسيرات عامة وكبرى.
المرحلة الرابعة: شهد الحراك حالة انحسار وتراجع كبير مع بروز الاختلافات الأيديولوجية والسياسية بين القوى والتيارات المكونة له، وعزز من ذلك تداعيات الربيع العربي من جوانب متعددة، أولا: وصول الإسلاميين إلى الحكم في تونس ومصر والمغرب، وثانيا: الوضع السوري. هذه التأثيرات عززت الشرخ داخل الحراك نفسه، بين إسلاميين وحراكات مؤيدة للثورة السورية ومتأثرة بالربيع العربي وقوميين ويساريين وحركات وطنية أردنية مع النظام السوري ومتخوفة من مخرجات الربيع العربي، انقلبت على نفسها وشعاراتها، وأصبحت تسعى إلى "تهدئة" الساحة الداخلية.
تداعيات الربيع العربي ضربت الحراك الأردني، أيضا، في إضعاف الدعم الاجتماعي له، إذ احتل المشهد السوري زوايا الرؤية كاملة لدى المواطنين، بالتوازي مع حالات الفوضى والانفلات في كل من مصر وليبيا واليمن، مما عزز مشاعر الخوف والقلق على حساب الرغبة في التغيير والإصلاح.
في هذه المرحلة أي التراجع، حدثت طفرة مفاجئة في الحراكات والاحتجاجات، إثر رفع أسعار المحروقات (في 13-11-2012) ما فجر احتجاجات عنيفة غير مسبوقة، ورفعت سقف الشعارات باتجاه إسقاط النظام، لدى مجموعات شبابية، وشملت الاحتجاجات عشرات المحافظات والمناطق البعيدة والقريبة، فيما دخلت للمرة الأولى مخيمات اللاجئين ومناطق أغلبيتها من الأردنيين من أصل فلسطيني على خط الاحتجاجات على الأوضاع الاقتصادية والسياسية العامة.
هذه الاحتجاجات التي امتزجت بين السلمية والعنف انتهت بعد أيام قليلة، من دون أن تؤدي إلى تغيير مسار العملية السياسية، ولا قانون الانتخابات، ولم تتراجع الدولة عن قرارها برفع الأسعار، وأجريت الانتخابات في ظل غياب ومقاطعة الإخوان المسلمين ومعهم قوى وحراكات شبابية معارضة.
جدلية الجغرافيا والديمغرافيا
رغم حديث أغلب القوى السياسية الإصلاحية والأحزاب التقليدية عن الإصلاح بصورة عامة، فإن العبور أكثر إلى خطاباتها وشعاراتها يكشف حجم الاختلاف والتباين في رهاناتها الإصلاحية وأولوياتها وهمومها، وهو ما يعكس من زاوية أخرى الإشكالية الديمغرافية الاجتماعية الأردنية، التي تنقسم إلى شطرين، بين الأردنيين من أصل فلسطيني والشرق أردنيين.
الحراك الشعبي والسياسي في عمان وإربد تغلب عليه لون الحركة الإسلامية-الإخوان المسلمون، وتغلبت عليه شعارات وأولويات الإصلاح السياسي (من تعديلات دستورية وإصلاح قانون الانتخاب، وتكريس مبدأ الأمة مصدر السلطات)، بينما الحراك في المحافظات، الذي برز بصورة خاصة في الطفيلة وفي حي الطفايلة في العاصمة عمان (وهو حي في العاصمة عمان، أغلب سكانه يواجهون ظروفا اقتصادية صعبة)، كان ممزوجا بين الطابع الإسلامي والاجتماعي العام، وهو وإن اشترك مع الحركة الإسلامية في المطالبة بالإصلاحات السياسية (وبسقوف مرتفعة أيضا)، فإن قضايا الفساد والشعور بالتهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي كانت الأكثر حضورا في خطابه وهتافاته وشعاراته.
صحيح أن الاحتجاجات الكبيرة التي اندلعت ضد قرارات رفع أسعار المحروقات جاءت ردا على أوضاع اقتصادية-اجتماعية ما تزال تمثّل العامل المهم في تحريك أبناء المحافظات وتعكس أولوياتهم وهمومهم وضغوطهم الاقتصادية؛ إلاّ أنّ هذه المطالب مرشّحة بأن تتأطر عبر خطاب سياسي، كما حدث مع الحركات الشبابية في المحافظات، التي أخذت لاحقاً طابعاً سياسياً، بخاصة وأن المزاج الشعبي يربط بين المشكلات الاقتصادية وسوء إدارة الأزمة السياسية والفساد والفجوة بين الأغنياء والفقراء. الخ.
مع ذلك؛ فإنّ الهاجس الاقتصادي-الاجتماعي (البطالة والفقر وضعف الخدمات وغياب القطاع الخاص، والاحتقان بسبب الفساد، والفجوة بين الأغنياء والفقراء، والخوف على الهوية الوطنية) لا يزال يطغى على اهتمام أبناء المحافظات والعشائر، بينما الهم السياسي وسؤال المواطنة والشعور بضعف الحقوق السياسية والتمثيل لا يزال يطغى على خطاب واهتمامات وأولويات الأردنيين من أصول فلسطينية في عمان وإربد والزرقاء.
خريطة الأولويات والاهتمامات والأيديولوجيا
ضمن مربعات الاشتراك والتباين في الأولويات والاهتمامات والمطالب الإصلاحية والاختلافات الأيديولوجية وانعكاسات الربيع العربي على المشهد الداخلي، يمكن التمييز بين اتجاهات متعددة بين المعارضة التقليدية (الأحزاب الإسلامية والقومية واليسارية) والحركات الجديدة.
أولا: الحركة الإسلامية والجبهة الوطنية للإصلاح (التي يقودها أحمد عبيدات) وبعض الحراكات الشعبية، منحت موضوع الإصلاح السياسي والتعديلات الدستورية اهتماما كبيرا، وكانت هذه الأولويات السبب الرئيس وراء مقاطعة هذه القوى الانتخابات النيابية احتجاجا على عدم جدية الدولة في القيام بإصلاحات جوهرية.
ثانيا: قوى وحركات قومية ويسارية، وأغلبها شارك في الانتخابات النيابية الأخيرة (مثل حزب حشد، والبعث)، تغلبت خلافاتها مع الحركة الإسلامية على خلفية المشهد السوري وصعود الإسلاميين في الربيع العربي، فانفصلت عن الجبهة الوطنية للإصلاح، وقبلت بالسقف الحالي من الإصلاح السياسي.
ثالثا: الحراكات الشبابية الجديدة وتيارات يسارية واجتماعية، مثل التيار القومي التقدمي، وحركة اليسار الاجتماعي، وحراك الطفيلة وحي الطفايلة، دمجت بين المطالب السياسية المشابهة لمطالب الإخوان المسلمين، والأولويات الاقتصادية، التي تحظى بأولوية كبيرة لديها، مثل العدالة الاجتماعية ومكافحة الفساد والمطالبة بإعادة النظر في البرنامج الاقتصادي.
رابعا: حركات تركز على الهوية الوطنية الأردنية وتجعلها في مقدمة أولوياتها، وتطالب بدسترة أو قوننة قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية، وتغلب هاجس الوطن البديل على خطابها السياسي، وهذه القوى مثل التيار الوطني التقدمي والمتقاعدين العسكريين.
خامسا: حركات وخطابات تتحدث عن حق المواطنة وعن إزالة التهميش بحق الأردنيين من أصول فلسطينية في مؤسسات الدولة، وبرز ذلك من خلال رسائل وجهتها نخبة سياسية للملك.
في الخلاصة لا يوجد اتفاق كامل بين القوى السياسية والحركات الشبابية المطالبة بالإصلاح على المضمون والأولويات، فلا تزال الاختلافات الأيديولوجية وما تخلقه الإشكالية الديمغرافية-الاجتماعية يلقي بظلال سلبية على هذه القوى ويضعف من قدرتها على توحيد الشارع وراء مطالب محددة واضحة، كما حدث في الثورات العربية الأخرى.
(الجزيرة نت)