ذكرى رحيل رجل يستحق التقدير
حمادة فراعنة
جو 24 :
لم أكن من أتباع الراحل وصفي التل ، ولن أكون ، ولم أكن كارهاً له ، والشيء المؤكد لن أكون ، وربما يعطيني هذا الموقف هامشاً موضوعياً للحكم له وعليه ، كمواطن يؤمن بالتعددية ، والتعددية هنا في بلادنا سمة أصيلة نتاج الواقع الإجتماعي التعددي لبنية المجتمع الأردني ، من عرب وأكراد وشركس وشيشان وأرمن وربما غيرهم ، ومن المسلمين والمسيحيين والدروز وأتباعهم ، ومن الوطنيين والقوميين واليساريين والإسلاميين وربما غيرهم ، ولذا ستختلف الرؤى والمواقف في تقييم الأحداث والأشخاص لدى الأردنيين وإتجاهاتهم وقياداتهم ، إعتماداً على تعددية المواقف والسياسات والأفكار التي تحكم نتاج أفعالهم وتقيمهم للأحداث .
من هذه الخلفية يمكن التوقف لتقييم الرجل الراحل ، الذي شكل ويشكل حالة مميزة لدى الأردنيين من إتفقوا معه ومن خالفوه ، ولكن غالبية تدين له بالشجاعة لوطنيته وقوميته وإنحيازه لفلسطين واقعاً وألماً وقضية ورفضاً لعدو قومي ومشروع إستعماري فُرض على الفلسطينيين والعرب والمسلمين والمسيحيين بقوة السلاح والمؤامرات والإتفاقات الدولية ، وبسبب ضعف جبهتنا الوطنية القومية الدينية في مواجهة الجبهة الأقوى التي فرضت الإحتلال وشرّعت مشروعه الإستعماري بلا حق وسلبت شعب فلسطين أرضه وحقوقه وكرامته ودفع الأردنيون إلى جانب اللبنانيين والسوريين حصيلة الإحتلال والإغتصاب والنكبة وتشريد نصف الفلسطينيين ليكونوا لاجئين في لبنان وسوريا والأردن .
وصفي التل لم يكن خنوعاً مستسلماً لهذا الواقع ولهذا المعطى فعمل على تغييره بإتجاهين أولهما تصليب الموقف الأردني وتعزيز الجبهة الداخلية وحماية الأمن الوطني ، وثانيهما دعم وإسناد الشعب الفلسطيني على أرضه ، وإبقاء قضيته حية ، فإصطدم مع من يخالفه الرأي ، والمصلحة والأولويات ودفع ثمن ذلك ، ثمن التباين مع خيارات القيادة الفلسطينية ، وعلينا أن نتحلى بالشجاعة والمروءة لإقرار وجود تباين في الأولويات بين الحركة السياسية الفلسطينية الناشطة في المنفى وبين مصالح البلدان العربية المحيطة بفلسطين ، فقد وقع الصدام الأردني الفلسطيني ، واللبناني الفلسطيني ، والسوري الفلسطيني ، بسبب غياب الأولويات وتضارب المصالح والأمن الوطني لكل طرف .
كان ذلك حتى إستطاع الرئيس الراحل ياسر عرفات نقل الموضوع الفلسطيني من المنفى إلى الوطن بفعل الإنتفاضة الجماهيرية الشعبية في مناطق الإحتلال الثانية عام 1967 ، في الضفة والقدس والقطاع من بداية عام 1987 ، وبأدوات مدنية وسلاحها الحجر ، أرغمت إسحق رابين " كاسر الأيدي والعظام " من التسليم ببعض الحقائق ، والإعتراف المثلث : بالشعب الفلسطيني وبمنظمة التحرير وبحقوق الشعب الفلسطيني ، ونتيجة هذا الإعتراف الذي تمت مراسيمه في ساحة الورود في البيت الأبيض يوم 13/9/1993 ، جرى الإنسحاب الإسرائيلي التدريجي من المدن الفلسطينية ، من غزة وأريحا أولاً ، وولادة السلطة الفلسطينية ، وعودة أكثر من 320 الف فلسطيني لأول مرة إلى وطنهم ، وإجراء الإنتخابات الرئاسية والتشريعية للسلطة الفلسطينية ، وهكذا نجح الرئيس الراحل ياسر عرفات بإعادة العنوان الفلسطيني إلى أرضه ومسامات شعبه ، وبات الصراع واضحاً جلياً قوياً متمكناً بين الشعب الفلسطيني وبين عدو الشعب الفلسطيني ، والشعب الفلسطيني لا عدو له ، سوى عدو واحد هو : إسرائيل التي تحتل أرضه ، وتصادر حقوقه ، وتنتهك كرامته .
وبفعل ذلك وعلى أثرها سقطت الخلافات الأردنية اللبنانية السورية مع الفلسطينيين ، وتحولت التباينات بين الشقيق وشقيقه وتعارض المصالح بينهم إلى حقائق جعلت من الأردنيين جميعهم بلا إستثناء يقفون في نفس الخندق الداعم لصمود الفلسطينيين على أرض وطنهم الذي لا وطن لهم سواه ، ومساندين لتطلعاتهم نحو إستعادة حقوقهم في العودة والإستقلال ، عودة اللاجئين والنازحين إلى المدن والقرى التي طردوا منها وتشردوا عنها وإستعادة ممتلكاتهم منها وفيها وعليها ، والإستقلال في إقامة دولتهم المستقلة على أرض وطنهم فلسطين .
نضال الأردنيين مع الفلسطينيين يحقق الغرضين : أولهما حماية الأمن الوطني الأردني ضد الأطماع التوسعية الإستعمارية الإسرائيلية بجعل الأردن وطناً بديلاً للفلسطينيين ، وثانيهما دعم شعب شقيق يستحق من الأردنيين وواجبهم الوطني والقومي والديني والإنساني ، إسناده لإنهاء معاناته وتشرده وحرمانه حق الحياة الطبيعية على أرض وطنه .
وصفي التل ، كان كذلك ، كان يحلم بذلك ، كان يعمل على ذلك ، ومن هنا قيمة إنصافه كوطني أردني بإمتياز وكقومي عربي أدرك موقفه ومكانته ، لحماية وطنه وأمنه الأردني أولاً ، ودعم شقيقه الفلسطيني ثانياً .
لم يكن وصفي التل وحده يمثل ذلك وسقط شهيداً نتيجة سوء الفهم والتقدير وعلو الخلافات وشيوع التباينات بل إن هزاع المجالي سقط شهيداً مثله لنفس الأسباب والدوافع ، وربما لولا هذه التضحية من قبل قيادات بهذا المستوى لما صمد الأردن ، ولما أدرك الحسين الراحل أهمية تماسك الجبهة الوطنية وإزالة التباينات وإحترام التعددية وعدم النيل من المعارضة وعدم البطش بها ، حتى من أشد خصومات النظام في الخمسينيات من قبل الأحزاب والضباط الأحرار والمحاولات الإنقلابية الفاشلة ، وفي نهاية الستينيات والسبعينيات من قبل الفصائل الفلسطينية .
يستحق وصفي التل ، ومن قبله هزاع المجالي ، ومن بعدهما وفي طليعتهما الحسين الراحل ، كل الوفاء والتقدير والعرفان ، فقد عملوا وضحوا حتى يعيش الأردنيون بكرامة ورفع رأس نتباهى بها ونعمل لأجلها ، ومن أجل إستعادة الهوية الفلسطينية والحفاظ عليها وتطويرها حتى تتم إستعادة كامل حقوق شعبنا العربي الفلسطيني الثابتة غير المنقوصة : حقه في العودة وحقه في الإستقلال.