حركة دوران
محمد أبو رمان
جو 24 : إذا أردنا أن نقف على الأرض اليوم، ونقرأ الواقع كما هو، ونعبر إلى المستقبل برؤية واضحة، فمن الضروري أن نتذكّر أنّنا نعاني من أزمة مالية ومعضلات اقتصادية بنيوية. إذ لدينا عجز مزمن في الموازنة، وارتفاع في المديونية متراكم، ونفقات جارية تأكل عملياً 85 % من الموازنة، ونسبة بطالة واقعية بين الشباب تصل إلى 40 %، وفجوة متنامية بين الطبقات الغنية والفقيرة؛ تساهم في تعزيز الفساد الإداري والأزمات الداخلية والاحتقانات، وتجرح السلم الاجتماعي. كما أن هنالك اختلالات جوهرية في العلاقة بين مخرجات التعليم وسوق العمل، وعجز كبير في البنية التحتية والخدمات الأساسية، واختلالات واضحة في سوق العمل، هذا فضلاً عن الأزمات المزمنة؛ مثل ضعف الاستثمار في المحافظات، ومحدودية المشاريع التنموية.. إلخ.
الحديث عن أولوية الأخطار الاقتصادية-الاجتماعية لا يعني التخلي أو التراجع عن أولوية وأهمية مطالب الإصلاح السياسي، وضرورة الانتقال نحو نظام ديمقراطي حقيقي، بل على النقيض من ذلك، ثمة ربط عضوي وعميق بينهما.
ذلك يقودنا، مرّة أخرى، إلى الرؤية الاستراتيجية التي أطلقها د. عمر الرزّاز مع بدايات الربيع الديمقراطي العربي، عندما ربط بين الأنظمة السياسية السابقة والعلاقة الريعية المختلة، أي الاعتماد الهائل من المواطن على الدولة، وتضخّم القطاع العام، ما يرفع من حجم النفقات الجارية. وهو ما يشكّل اليوم عائقاً ومنعطفاً حقيقياً أمام الثورات الجديدة، وأي محاولات جادّة للإصلاح السياسي!
صحيح أنّ جزءاً أساسياً من المشكلات الاقتصادية العربية عموماً مرتبط بغياب الديمقراطية والحاكمية الرشيدة، مع فشو الفساد وانعدام الشفافية والتزاوج بين السلطة والمال، وتكريس مصالح فئات محدودة على حساب الأغلبية؛ وصحيح كذلك أنّ إعادة تدوير الموارد والنفقات يساعد كثيراً في التخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية. لكن علينا ألا ننسى في البداية جوانب مهمة وخطرة في تلك الأزمات، تتمثّل في التعليم والأميّة، وضعف الاستثمارات، وغياب دور القطاع الخاص في التنمية الوطنية، والاعتماد المبالغ فيه على الدولة والقطاع العام.
محلياً، يبدو الترابط بين التحديات الاقتصادية والأزمة السياسية وثيقاً جداً. فإذا أردنا عبور هذا المنعطف التاريخي، والتفكير بعقلانية وواقعية في المستقبل والمرحلة المقبلة، فإنّ علينا إدراك ضرورة القيام بـ"حركة دوران" حقيقية في إدارة الشأن العام. وذلك يتم عبر الاعتراف بأنّ المعادلة الاقتصادية-الاجتماعية الراهنة المتآكلة لن تعبر بنا إلى المستقبل، وأنّنا بحاجة إلى التفكير في صيغة عقد اجتماعي جديد بيننا أولاً، ومع الدولة تالياً.
العقد الاجتماعي الجديد يهدف إلى تجاوز التقاسم التاريخي المعطوب داخل المجتمع بين القطاعين العام والخاص، واجتراح مسار واضح للمواطنة بوصفها حجر الأساس في الدولة والمجتمع، نخرج بها من المنطقة الرمادية -سياسياً واجتماعياً- التي طغت على الفترة الأخيرة، وأدت إلى نمو الهويات الفرعية، وتهشيم السلطة الأخلاقية للدولة؛ ونعيد صوغ رسالة الدولة من جديد: أين تقف، وما هي واجباتها ومسؤولياتها وحقوقها. وفي المقابل، ما هي واجبات المواطنين، وما هي حقوقهم، بوضوح.
ذلك يترجم من خلال خطة زمنية نركّز فيها على إعادة هيكلة سوق العمل، والتخلي تدريجياً عن العلاقة الزبونية، مقابل تنمية المحافظات وتعزيز القطاع الخاص، وتحسين قوانين العمل، وتطوير البنية التحتية، وهذه وتلك من قضايا استراتيجية كبرى تتطلب نقاشاً معمقاً وكبيراً بين القوى والأحزاب والحراك والدولة، لكنه إلى اليوم ما يزال مفقوداً!
السؤال الآن هو: ماذا نريد؟ هل نسعى إلى الخروج من الأزمة السياسية-الاقتصادية المركّبة عبر تحولات جديّة وخطاب جديد خارج سياق المناكفة والدوران حول الذات؟ أم نعمل على تكريس هذه الأزمات ومراكمتها وتعقيد الخروج منها أكثر؟!الغد
الحديث عن أولوية الأخطار الاقتصادية-الاجتماعية لا يعني التخلي أو التراجع عن أولوية وأهمية مطالب الإصلاح السياسي، وضرورة الانتقال نحو نظام ديمقراطي حقيقي، بل على النقيض من ذلك، ثمة ربط عضوي وعميق بينهما.
ذلك يقودنا، مرّة أخرى، إلى الرؤية الاستراتيجية التي أطلقها د. عمر الرزّاز مع بدايات الربيع الديمقراطي العربي، عندما ربط بين الأنظمة السياسية السابقة والعلاقة الريعية المختلة، أي الاعتماد الهائل من المواطن على الدولة، وتضخّم القطاع العام، ما يرفع من حجم النفقات الجارية. وهو ما يشكّل اليوم عائقاً ومنعطفاً حقيقياً أمام الثورات الجديدة، وأي محاولات جادّة للإصلاح السياسي!
صحيح أنّ جزءاً أساسياً من المشكلات الاقتصادية العربية عموماً مرتبط بغياب الديمقراطية والحاكمية الرشيدة، مع فشو الفساد وانعدام الشفافية والتزاوج بين السلطة والمال، وتكريس مصالح فئات محدودة على حساب الأغلبية؛ وصحيح كذلك أنّ إعادة تدوير الموارد والنفقات يساعد كثيراً في التخفيف من حدة الأزمات الاقتصادية. لكن علينا ألا ننسى في البداية جوانب مهمة وخطرة في تلك الأزمات، تتمثّل في التعليم والأميّة، وضعف الاستثمارات، وغياب دور القطاع الخاص في التنمية الوطنية، والاعتماد المبالغ فيه على الدولة والقطاع العام.
محلياً، يبدو الترابط بين التحديات الاقتصادية والأزمة السياسية وثيقاً جداً. فإذا أردنا عبور هذا المنعطف التاريخي، والتفكير بعقلانية وواقعية في المستقبل والمرحلة المقبلة، فإنّ علينا إدراك ضرورة القيام بـ"حركة دوران" حقيقية في إدارة الشأن العام. وذلك يتم عبر الاعتراف بأنّ المعادلة الاقتصادية-الاجتماعية الراهنة المتآكلة لن تعبر بنا إلى المستقبل، وأنّنا بحاجة إلى التفكير في صيغة عقد اجتماعي جديد بيننا أولاً، ومع الدولة تالياً.
العقد الاجتماعي الجديد يهدف إلى تجاوز التقاسم التاريخي المعطوب داخل المجتمع بين القطاعين العام والخاص، واجتراح مسار واضح للمواطنة بوصفها حجر الأساس في الدولة والمجتمع، نخرج بها من المنطقة الرمادية -سياسياً واجتماعياً- التي طغت على الفترة الأخيرة، وأدت إلى نمو الهويات الفرعية، وتهشيم السلطة الأخلاقية للدولة؛ ونعيد صوغ رسالة الدولة من جديد: أين تقف، وما هي واجباتها ومسؤولياتها وحقوقها. وفي المقابل، ما هي واجبات المواطنين، وما هي حقوقهم، بوضوح.
ذلك يترجم من خلال خطة زمنية نركّز فيها على إعادة هيكلة سوق العمل، والتخلي تدريجياً عن العلاقة الزبونية، مقابل تنمية المحافظات وتعزيز القطاع الخاص، وتحسين قوانين العمل، وتطوير البنية التحتية، وهذه وتلك من قضايا استراتيجية كبرى تتطلب نقاشاً معمقاً وكبيراً بين القوى والأحزاب والحراك والدولة، لكنه إلى اليوم ما يزال مفقوداً!
السؤال الآن هو: ماذا نريد؟ هل نسعى إلى الخروج من الأزمة السياسية-الاقتصادية المركّبة عبر تحولات جديّة وخطاب جديد خارج سياق المناكفة والدوران حول الذات؟ أم نعمل على تكريس هذه الأزمات ومراكمتها وتعقيد الخروج منها أكثر؟!الغد