أزمة الأغنية الوطنية الأردنية
خلال العقد الأخير، عانت الاغنية الوطنية الأردنية من حالة من الوهن والضعف على مستوى الكلمة واللحن بشكل كبير، وبات من الواضح ان هناك أزمة حقيقية في اختيار الأشعار والكلمات، على الرغم من توفر العديد من الشعراء الجيدين في الأردن وكذلك الملحنين، كما انها باتت تعطي صورة مغلوطة عن الوطن، من خلال اثارة التعصب والتحيز، في حين ان رسالة الفن هي أسمى من ذلك، فالفن يجب ان يجمع ولا يفرق.
وفي حين ان الأغاني الوطنية يجب ان يتم توظيفها بالتغني للوطن كبلد وتراب متماسك ووحدة واحدة، بحيث تُشعر الانسان بالإنتماء لكل ذرة من ذرات هذا الوطن، وتُسهم في تشجيع الانتماء له, إلا ان واقع الأغاني الوطنية الأردنية التي تقدم الآن بوصفها "أغاني وطنية" يشوبها العديد من السلبيات التي ساهمت في ترسيخ وطن مقسم الى اجزاء، يساهم في تفتيت البنية الأردنية، خاصة وانه أصبح مرغوباً على مستوى المجتمعات الضيقة.
نستهجن استخدام كلمات في الأغنيات "الوطنية" التي تستخدم رموز مناطقية، وكلمات مشحونة تساهم في الابتعاد عن الروح والوجدان، كما تساهم في ترسخ نوعاً من التقسيم من خلال انتماء لمنطقة أو إقليم، وهو مفهوم يعود بنا الى زمن كانت السيادة فيها للعشيرة والقبيلة فقط، والقائمة على فكرة الغزو، فإحدى الأغنيات تقول في إحدى الجُمل "نقلع العين اللى لدت تلانا" (أي سنقتلع العين التي تنظر الينا)، فنتسائل الى ماذا ترمز مثل هذه الكلمات، فهل نحن شعب بهذه العدائية، ألا تُسهم مثل هذه الكلمات في ترسيخ العنف والمناطقية والجهوية، والتي نشهد ثمارها في العنف المجتمعي اليوم، فهي تؤدي الى تعميق فكرة الانقسام في عقول الشباب، وخاصة في الجامعات، وتساهم في إثارة النعرات العشائرية والجهوية. فهذا النوع من الكلمات يساهم في إذكاء روح العنف ورفض الآخر.
من جهة اخرى، يقوم جزء كبير من هذه الأغانيات على التغني للجهاز العسكري والأمني، فأغاني مثل أغنية "فوق المقناص" و"طلت الروفر طلت، وطارت الهوكر هنتر"، وغيرها الكثير، وكأنها تشير الى نوع من التعبئة العامة واستعراض العضلات، فلو كنا نحن من صنع "الروفر" وطائرة "الهوكر هنتر"، لكنت اول من شجع على غنائها، فهذه الاغنيات تُشعر المتلقي ان بلادنا خاضت العديد من الحروب المشرّفة، مع اننا لم ننتصر في أي حرب خضناها منذ قرون.
كما ان هناك العديد من الأغنيات التي تتملق للقائد والنظام، وبطريقة فجة، وهي كثيرة بالمناسبة، والمشكلة ايضاً ان معظمها أغاني تخلو من أي مضمون أو بلاغة او صور شعرية، وتعتمد في ألحانها على الأهازيج المستوحاة من الفلوكلور القديم، عدى عن انها تختزل الوطن بفرد واحد فقط، مع ان الوطن اكبر من ذلك بكثير، إلا أن الجيد منها على ندرته مثل قصيدة الجواهري رحمه الله "يا سيدي أسعف فمي"، أو أغنية "معه وبه إنا ماضون"، فعلى الرغم من جمال الشعر وروعة اللحن والصوت الشجي، إلا انها تذهب بوفاة الشخص المقصود من القصيدة، فلا نعود نسمعها بعد ذلك.
كما أن معظم الأغاني الرائجة الآن على انها "أغاني وطنية" ضعيفة اللحن الى حد كبير، فمعظمها تعتمد على ثلاث أو أربع جمل موسيقية يتم تكرارها مع كلمات مختلفة ركيكة أصلاً، وتعتمد على مقامات موسيقية محدودة ومساحة صوتية صغيرة جداً.
وبالرغم من هذا التقهقر الفني، إلا ان هناك العديد من النماذج القديمة الرائعة على مستوى الكلمة واللحن في الأغاني الوطنية الأردنية، فأين نحن من اغنيات مثل "أرخت عمان جدائلها فوق الكتفين" أو "عمان في القلب" او "فدوة لعيونك يا أردن" أو"أردن أهل العزم" أو"أعود وكلي حنين أعود" فما زال لها نفس الألق والروعة بعد مرور كل تلك السنين.
إن تراجع مستوى الأغنية الوطنية مرده عدم فهم الرسالة التي يمكن أن يؤديها الفن، ويتحمل مسؤولية ذلك شعراء ومطربين وملحنين ضعيفين يسعون الى الكسب السريع، من خلال إنتاج اغاني ذات لحن سريع مستوحى من التراث، وهم حقيقة لا يكترثون بحقيقة أن للشعر قوانينه وللسياسة أبعادها، بالاضافة الى الكسب المادي وسهولة الإنتاج، ما أدى إلى ضعف الاهتمام بالتفاصيل الفنية، فمعظم الأغاني الحالية “لا تعبر عن الوطنية”، بل تستخدم معظمها في حفلات الزفاف الصاخبة.
من الضروري ان يكون هناك حس كبير من الوعي والادارك عند مخاطبة الجمهور بالأغاني الوطنية، فمن المهم التعرف على الخصائص الثقافية والشخصية الاجتماعية للمستمعين، حتى نتمكن إلى إنتاج أغنيات وطنية بمعايير وقيم تعزز مفهوم المواطنة والانتماء والإبتعاد عن الاقليمية والتعصب والجهوية.