أين الأردن من عملية التحول الديمقراطي؟
لقد بات التحول الى الديمقراطية حتمية تاريخية لا غنى عنها سواء في الأردن أو في أي دولة أخرى، خاصة بعد أن حققت العديد من الدول التي تحولت الى أنظمة ديمقراطية نجاحات أفضل في المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وغيرها، كما حدث في دول مثل ماليزيا وتركيا وبعض دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية، التي كانت حتى عهد قريب ترزح تحت حكم دكتاتوري شمولي.
وعلى الرغم من النمو والإزدهار الذي حدث في هذه الدول نتيجة التحول الديمقراطي، ما زالت قوى الشد العكسي في الأردن تحاربه بشكل كبير وتتشدق بحجج بالية، مثل "أن التحول الى الديمقراطية يحتاج الى عقود من التحول التدريجي" وهناك من يقولون "أن للأردن خصوصية وطنية وثقافية مختلفة"، كما أن هناك اختلاف في توصيف الحالة الديمقراطية في الأردن هل هي مجرد حالة انفراج سياسي أو ليبرالي، أم هل هي تحول ديمقراطي حقيقي يمشي بالإتجاه الصحيح.
الحقيقة إن الدول التي تحولت الى الديمقراطية لم تتحول جميعها بنفس الطريقة، بل إن لكل دولة نموذجها الخاص، فبعضها تحولت الى الديمقراطية نتيجة حدوث ثورات قلبت أنظمة الحكم الديكتاتورية الشمولية القديمة، وبعضها الآخر تحولت الى الديمقراطية جرَاء نية سياسية لدى الطبقة الحاكمة لأجراء اصلاحات حقيقية نحو الديمقراطية.
إن التحول الديمقراطي له العديد من المعايير التي نستطيع قياس مدى التحول الديمقراطي في هذا البلد أو ذاك، منها التداول السلمي للسلطة، الانتخابات الحرة النزيهة، حرية الاعلام، سيادة القانون، حرية تكوين جمعيات والقائمة تطول، وهنا سأتناول مجموعة محدودة من المعايير، لمحاولة مقارنتها بالوضع في الأردن في محاولة لإستشراف المستقبل فيما إذا كنَا نتجه بالإتجاه الصحيح نحو الديمقراطية.
أحد المعايير المهمة في الديمقراطية هو حرية التعبير، وهذا المعيار يٌعنى بشكل كبير بمدى سيطرة الحكومة على وسائل الإعلام، ومدى قدرة وسائل الاعلام على القيام بدور رقابي حقيقي عندما يتعلق الموضوع بمستوى أداء الحكومة، بالاضافة الى مدى الحماية التي توفرها القوانين والتشريعات لحرية الاعلام، وعلى الرغم من أن حرية التعبير والاعلام مقارنة بالدول المجاورة تعتبر جيدة نسبيا، إلا انه بالمقارنة مع الدول الديمقراطية الحقيقية هي عكس ذلك تماماً، خاصة مع وجود قانون المطبوعات والنشر الجديد، وما رافقه من حجب لعدد من المواقع الاخبارية، واعتقالات طالت العديد من الحراكيين بسبب آرائهم، ومحاكمتهم أمام محكمة أمن الدول، وإلصاقهم بتهم درامية كوميدية مثل "تقويض نظام الحكم" و "إطالة اللسان" وغيرها من التهم المعلبة.
أما المعيار الثاني الذي سأتطرق له هو وجود انتخابات وبرلمانات تمثل شعوبها تمثيلا حقيقيا، وهذا المعيار في الأردن لم يتحقق بالشكل المطلوب، وذلك لأسباب عدة، منها ضعف الحياة الحزبية في الأردن بسبب تدخل الجهات الأمنية في تشكل الاحزاب، بالإضافة الى قانون الصوت الواحد، والذي افرز برلمانات نيابية هزيلة، لا تمثل أصدق تمثيل النخب السياسية والمدنية من المجتمع الأردني، فلم تتمكن هذه البرلمانات من القيام بدورها الحقيقي في تمثيل شعبها، بل على العكس، لعبت دوراً ساهم في تراجع بعض الحريات، خاصة فيما يتعلق بحقوق حرية التعبير وحقوق المرأة، كما ساهم بعض البرلمانيون في ترسيخ ولاءات مناطقية وعشائرية.
معيار آخر يجب أخذه بالحسبان هو وجود تعددية سياسية وحزبية، ففي الدول الديمقراطية يؤدي وجود تعددية سياسية وحزبية الى خلق تيارات وأحزاب وتكتلات وجماعات ضغط ومصالح، بحيث تصل إلى المجالس النيابية وفق قواعد وقوانين محددة، لتنتهي هذه العملية إلى تناوب سلمي على السلطة، تنبثق عنها حكومات برلمانية والائتلافية، تجسد الاتجاهات العامة لغالبية الجمهور في هذه المرحلة أو تلك، لتقوم هذه الأحزاب بوضع برنامج عمل للدولة لعدة سنوات مقبلة، ولكن الملفت للنظر في الأردن أنه بعد أن فاق عدد الأحزاب السياسية الستين حزبا بعيد إلغاء الأحكام العرفية وإقرار قانون الأحزاب في العام 1992 ، أصبح لدينا الآن 32 حزبا سياسيا مرخصا فقط، وهذه الأحزاب أيضاً ما زالت تعاني العديد من التحديات، منها ضعف القدرة على التأثير الشعبي وتحريك الشارع (بإستثناء الإسلاميين)، وعدم أمتلاك رؤية استرايتيجة وبرامجية لأغلب الاحزاب الموجودة، وعدم وجود إرادة سياسية عند أصحاب القرار بتنمية الحياة الحزبية في الأردن، وخير مثال على ذلك تجربة حزب "التجمع الحر" التي أجهضتها الأجهزة الأمنية في مهدها، وقد يكون هذا الحزب هو أول حزب برامجي في الأردن"، ناهيك عن العزوف عن الأحزاب السياسية بسبب المضايقات الأمنية، كما بقيت بعض الأحزاب حبيسة فكر شخص واحد متنفذ (أحزاب باشاوات).
من جانب آخر، يغيب عن الأذهان تماماً موضوع الثقافة المدنية، والذي يعد واحدا من أهم أولويات الاصلاح، فغالبية الأردنيين يجلسون على مقاعد الدراسة، فمن أهم الأولويات الاهتمام بمناهج دراسية تعزز المعرفة الحقوقية والثقافة المدنية والسياسية، واحترام الآخر واحترام حقوق الانسان، فإن اصلاحاً سياسياً حقيقياً وتنمية ديمقراطية لا يمكن أن تتم بدون النهوض بأوضاع المدارس والجامعات الأردنية، وفتح أبوابها أمام التنمية السياسية والعمل الحزبي المنظم، فالمناهج يجب أن تستمد من قواعد الدستور، وتكرس مفهوم المواطنة وقيم المشاركة وثقافة الحوار والتسامح، بدلا من التركيز على التملق الفارغ للنظام، يجب أن يبدأ الطلاب منذ الصغر بممارسة العملية الديمقراطية، كإنتخاب مجالسهم الطلابية وإتحاداتهم وجمعياتهم الطلابية حتى يصبح بمقدروهم إتقان الاختيار عند فتح أبواب الانتخابات البرلمانية والبلدية، إلا أن ذلك غاب عن الأذهان ساستنا تماماً، وخير مثال على ذلك هو ما نشهده من عنف جامعي ينتقل من جامعة إلى أخرى تحت مظلة العشائرية.
إن معايير الديمقراطية كثيرة، ولا يتسع المجال لتناولها جميعاً في مقالة واحدة، ولكن هذه دعوة لأصحاب القرار في البلاد، بضرورة الإسراع في عملية الإصلاح والتحول الديمقراطي (هذا إذا كانت الإرادة السياسية موجودة أصلاً)، إن مقاومة رياح التغيير هي كالسباحة عكس التيار، فرياح التغيير التي هبت على الأردن بقوة في بداية الربيع العربي، قد خمدت قليلاً بسبب عدم نجاح عملية التغيير التي حدثت في باقي الدول العربية، مثل مصر وليبيا وسوريا واليمن وتونس، فلو نجحت هذه الدول في تحقيق تجربة ديمقراطية حقيقية، لكانت ألقت بظلالها بشكل أكبر على الأردن، ومع ذلك، فهذا لا يعني أن رياح التغيير قد توقفت، لقد كان الأردن تجربة مختلفة عن هذه الدول، وربما كان من أفضلها في عدد من المجالات، وما زلت أؤمن بأن الأردن يحمل في بذوره إمكانية التغيير والتحول الحقيقي نحو الديمقراطية، إذا توفرت الارادة السياسية الحقيقية.