jo24_banner
jo24_banner

الكاتبة ليلى الأطرش في "تجربة مبدع" في منتدى الرواد الكبار

الكاتبة ليلى الأطرش في تجربة مبدع في منتدى الرواد الكبار
جو 24 :

أقام منتدى الرواد الكبار أمسية أدبية للكاتبة ليلى الأطرش ضمن برنامجه "تجربة مبدع"، بمشاركة د.ابراهيم خليل ود.رزان ابراهيم، أداها المدير التنفيذي للمنتدى عبدالله رضوان، واستهلت بكلمة لرئيسة المنتدى هيفاء البشير، بحضورنوعي من المبدعين ومن أصدقاء المنتدى، وذلك مساء الثلاثاء 12 شباط الجاري في مقر المنتدى في أم السماق.

كلمة رئيسة المنتدى: هيفاء البشير
أصحاب السعادة والعطوفة،،،
السيدات والسادة،،،
مساءً عمانياً مليئاً بالحب والمودة لكم جميعاً في باكورة أنشطتنا الثقافية لهذا العام، وقد اخترنا أن نحتفي في مطلع عامنا الجميل بكم وبحضوركم ومؤازرتكم ودعمكم، أن نحتفي بمبدعة أردنية كبيرة، تجاوز اسمها حدود الجغرافية الوطنية الى الآفاق العربية.
انها مبدعتنا الكبيرة الروائية والقاصة والإعلامية ليلى الأطرش، والتي تمثل تجربتها منارة مشرقة في مسيرة المرأة العربية بعامة، والأردنية الفلسطينية بخاصة سواء عبر تجربة المساهمة الاقتصادية في بناء الذات، واثبات الحضور الاقتصادي عبر الانخراط في ميدان العمل، وكان الاعلام المكتوب والمرئي هو ميدانه، أو عبر الانتاج الابداعي الجميل والمتميز من خلال عدد من الروائيات ذات الرؤى والمعالجات والخطاب المتعدد والمتغير معاً، فمرحباً بها صديقة مبدعة بيننا.
السيدات والسادة:
ولتعميق رؤيتنا لهذه التجربة الغنية، نستضيف ناقدين كبيرين معروفين هما الناقد الأستاذ الدكتور ابراهيم خليل والناقدة الدكتورة رزان ابراهيم، وهما علمان معروفان في الجانبين الأكاديمي والثقافي، فمرحباً بهما أيضاً في هذا اللقاء الذي يغتني حتماً بمداخلاتهما.
السيدات والسادة:
أحب قبل الختام أن أشير إلى برنامجنا الإجتماعي، الذي تقوده االلجنة الإجتماعية في المنتدى، حيث نخطط حالياً وبعد النجاح المتميز لتجربة الطبق الشعبي التركي إلى إقامة طبق شعبي جديد، إضافة إلى رحلة شتوية مع غداء إلى البحر الميت، وهو ما سنعلن عنه قريباً.
وختاماً، أؤكد ترحيبي بضيوفنا، مبدعتنا الكبيرة ليلى الأطرش، وناقدينا المتميزين الأستاذ الدكتور ابراهيم خليل والدكتورة المتميزة رزان ابراهيم.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
شهادة د.إبراهيم خليل: ليلى الأطرش والرواياتُ السبْع
عند صدور روايتها الأولى (وتشرق غربا) 1988 لم أكنْ على معرفة بالكاتبة ليلى الأطرش، وحين انتهيتُ من قراءة تلك الرواية فوجئت بأنني أمام كاتبة تتقن المتطلباتِ الأساسيَّة في الكتابة السردية الجادة. وليس أدلّ على ذلك من أنها حشدتْ لنا فيها شخوصا يمثلون جيلين من الناس، مختلفيْن، جيلا شهد أحداث النكبة، وما تلاها، وجيلا شهد نكسة حزيران، واكتوى بتبعاتها، في تناغم سرديّ لا يميل إلى ركن من أركان النصّ لحساب آخر. فالرواية، بما فيها من تفاصيل تجسّد الحياة اليومية، في زمنٍ ومكان معيّنين، تجسيداً، يستشرف المُستقبل، ويتنبأ بالتغيير، على وقع الصراع الدامي الذي وقوده الناس والحجارة. ولقد أثنى فورستر Forster في كتابه (وجوه الرواية) على الكاتب الذي تتضمّن أعماله ضربًا من الاستشراف، وشيئا من التنبؤ.
على أنّ طبيعة الموضوع حالتْ بيْنها وبين ارتياد آفاق جديدة في السرْد، فعلى الرغم منْ مُمارسَتها اللعْبة بإتقان، إلا أن طرائق السرد ظلتْ غير بعيدة عما هو رتيب، ومألوفٌ، في روايات كثيرة ميَّزتْ مراحلَ الرّيادة. فقد اضْطرّتْ، تماشيًا مع النسق التقليدي للرواية، للرجوع ببطلتها هند النجار إلى مراحل الطفولة، وإلى مَدْرَسَتها الابتدائية، وإلى وقائع ومُجريات تراها ضرورية لمعالجة راهن الشخصيّات، وواقع الأحْداث، مع أنّ هذا في الواقع غيْرُ ضروريّ. وقد تحمَّلتْ بسبَب هذا عبء المزيد من التفاصيل التي قد تبدو لبَعْضهم حشْوًا. وأما لغة الرواية، فقد لاحظ دارسوها، وَهُمْ كُثر، أنها أقرب إلى اللغة التسجيليّة، فقد اقتربت كثيرًا من لغةِ الحياة اليومية سواءٌ في الحِوار، أو في السرد، مما يُعطي الراوي(السارد) الكثير من المرونة ليغيب عن الساحة في بعْض المواقف، تاركًا للشخوص أن يرْووا بأنفسهم ما جَرى، وَيَجْري، لا سيّما إذا كان متعلقا بهم، وبعالمهم الداخلي. وأعتقد أن موضوع الرواية المُتسع جشَّم الكاتبة عناءَ النظر للصراع بمنظارٍ قدْ يكون أبعدَ شأوًا ممّا يسمح به الشكل الروائي، فقد طرَحَتْ فكرة التواؤم بين أتباع الديانتين، وطرحتْ مَسْألة التبشير، والوحدة، والاستعمار الكولونيالي، والعدوان الثلاثي، ومسألة المرأة وحقوقها المَهْضومة في مجتمع أبويّ يفضل الذكور على الإناث، وهل يحقّ للفتاة أنْ تواصل تعليمها العالي إسْوةً بغيرها من الإخوة، أم لا. وأشارتْ إلى العمل الفدائي، وإلى قيام هند النجار بتنفيذ عملية، وإلى مُستقبل الصراع داخل فلسطين بين الاحتلال الاستيطاني والجيل الناشئ فيما يُعْرف بالتنبُّؤ، واندلاع الانتفاضة* الأولى 1987. وهذا كلهُ، بما يحتاج إليهِ منْ تفاصيلَ ذاتِ طابع توثيقي، حمَّل الرواية " وتشرقُ غربًا " أكثر ممَّا تحتمل.
على أنّ الكاتبة- ليلى الأطرش - في روايَتها الثانية (امرأة للفصول الخمسة) 1990 تتجاوزُ جُلَّ هذه الهنات، وتبدي معرفة تطبيقية بتقنياتٍ سرديَّة جديدة تكسبُ النصَّ الكثير من ملامح الحداثة؛ مع التكثيف؛ كاللجوء إلى التعدّد الصوْتي، وتناوب الأشخاص على المقام السردي، مما يستتبعُ من تناوُبِ الضمائر اللافتة لتنوّع الراوي: متكلم، مُخاطب ، غائب – كلّي العلم – علاوة على ارتياد آفاق مكانية متباعِدَة، تؤطّرها شبكَةٌ منَ العَلاقات، التي تضفي على فضاءِ النصّ طابع الوحدة على الرغم من تباعُدِ الأماكن، وتبايُن المواقف.
ففي تلك الرواية، مثلما لاحظَ دارسون، " فكرتان " أساسيَّتان، أولاهُما: سياسيّة، تكشفُ الغطاءَ عن الكثير من الممارساتِ المَشْبوهة التي أصابت العمل السياسي الفلسطينيِّ في المَنفى، والثانية اجْتماعيّة، نسْويّة، تتمثلُ في النهاية العاجزة التي آلتْ إليها حكاية نادية الفقيه مع إحسان الناطور، نهاية تذكّرُنا بالموقف النهائي لشخصيّة لورا في مسرحية هنريك إبسن Ibsen: بيت الدميةDoll's House . ومن يتوقـّفْ إزاءَ رواية " امرأة للفصول الخمْسَة " يُلاحظ التصوير الدقيق لمثالب النموذجيْن الرئيسيَيْن، فيها؛ إحسان الناطور، الذي يُعامل المرأة مُعاملة الدمْيَة، وكذلك جلال الذي يعامل الثورة والكفاح المُسلَّحَ، وصفقات الأسْلحَة ، مُعاملة الدمية هوَ الآخر، وأما نادية، فلم تكن بأقلَّ منْ الاثنين، فعندما خُيّرتْ، أو هكذا هُيء لها، بين الاثنين؛ اختارتْ الأقربَ للانتهازية، وهو إحسان، ففضلت الزواج به لما يحققه لها من مكاسبَ، وفي مقدمتها الثروة، ولم يخطرْ لها ببال أنَّ هذا الناطور سيُعاملها مثل دمية لا حياة فيها، ولا روح، بل سُيقدِمُ – إضافة لذلك- على خيانتها جهارًا نهارًا، وستحاولُ أنْ تعوِّضَ هذه الخَساراتِ بلا فائدة.
ومما لا ريْب فيه، ولا شكَّ، أنَّ الرواية تشير بطريقة مباشرة، أيضًا، لضلوع شيوخ النفط في الفساد، والتضليل، والإنفاق الذي يحتاجُ إلى الحَجْر لتجاوزه حدّ الإسراف إلى التبْذير، إنْ لمْ يكنْ أكثر، وفي هذا كله تبْرُزُ اللغة السرديّة ذات المستويات المُتعدّدَة. ففي موقع تبهرنا جماليات اللغة الوصفية المكتنزة بالصوَر، والتعبيرات الخَلابَة، وفي مواقع تفجأنا الكاتبة بحوار تنعكس فيه وعليه ملامح اللغة اليومية، سواءٌ فيما يتصل بأبنية الجُمَل، أو حتى بالمُفْرداتِ، أوْ بالنغْمة، والنبرة الصوتية، ممّا يجعلُ هذه الحوارات نموذجًا لما سمَّاهُ باختين بالمَبْدأ الحِواري.
أما في الرواية الثالثة (ليلتان وظل امرأة) 1998 فقد تشابكتْ من جديد ظلالٌ من الواقع: الهجرة، المنفى، والتحيّز ضد الأنثى، حرصُ الأخيرة على تحقيق الذات عن طريق التعلّم، ومُمارسة المُحاماة، مقابل الأخرى التي تشكو من لعبة القدر الغاشم الذي يميل إلى جانب بعْض الناس، ولا يميل إلى آخرين. ولأنّ هذه الرواية تمسّ الجانبَ العميقَ منْ الصِّراع الدرامي الموصول الذي تعيشه المرأة في الشرْق العَرَبيّ، فقد وجدت في المنولوغ أداتها المُناسبة للتعبير عن معاناة الأختيْن، وعالمهما الداخلي. فكأنَّ المُونولوج، الذي هو ضرْبٌ من المُناجاة، ومن حديث النفس للنفس، تعبيرٌ مادي مَحْسوسٌ عن القمع الذي تشعر به المرأة فيمْنعُها من البَوْح، والتصريح، بما لديْها من أوْجاع، وما يعتلجُ في أعماقها من هواجس. فاطرد لذلك تيار الشعور في الرواية، موقفا تلوَ الآخر، فيما اطـَّردَ الحوار أيضا في بناءٍ مُتماسكٍ ظاهرُه يعودُ لتباين زوايا النظر، ومضْمَرُهُ النسقي؛ قناعان لامرأة واحدة، تجسّد الأولَ منهُما آمال، والثاني مُنى. لذا كانَ من الضروري أنْ تتناوب الأختان على أداء الدَوْر المَنوط بالساردة، والالتباس بشخصيّة المؤلفِ الضمْني.
ومهما يكنْ منْ أمر، فإنّ الرواياتِ الثلاثَ اتكأتْ على المرأة في أداء دور البطولة إذا ساغ التعبير، ودور السارد، ونستطيع القول، في شيء من التسامُح، دوْر القارئ الضمْني، أي: ذلك القارئ الذي يتوجَّه نحوه الساردُ بوعي، أو دون وَعْي. بيد أن الرواية الرابعة (صهيلُ المسافات) 1999 شذت عن هذه القاعدة، واتخذتْ من الرجل- صالح أيوب – بطلا، وسارداً في الوقت نفسِهِ، كما لو أنه يكتبُ قصته من أجل أن تكون مسلسلا دراميًا مثيراً. ومن خلال علاقاتٍ متشابكَةٍ تصلُ بين بؤر مكانية متعدّدة، وفضاء سردي مترامي الأطراف، يتضح لنا أن معاناة صالح أيوب لا تختلف عن معاناة أي رجل مثقف في الوطن العربي، رجل تحاصره أسئلة السياسة مثلما تحاصره الهوية المرتبكة، ومسئولية الكلمة، تارة بوصفه أستاذا، وطورًا باعتباره صحفيًا ملتزمًا بكتابة عمودٍ يوميّ، وتارة أخرى باعتباره مخدوعًا بما يذاع على الملأ من أحاديثَ عن علاقة عضوية مزعومة بين بيئة ينخرها التخلفُ وأخرى تدّعي العَوْلمَة والتمدْيُن.
لم تفدْ صالح أيوب محاولاتُه الدائبَة لانتحالِ شَخْصيّاتٍ أخرى، ولا محاولاته التمَترس خلفَ ما ينم عليه اسمه الجامع بين الصلاح(صالح) والصبْر( أيوب) ولا نزعته العقلانية، ولا تحفظه في علاقاته النسائية، فسرعانَ ما وجد نفسه " طريد الفردوس " بتعبير توفيق الحكيم. أما زهرة – زوْجته- فلا تذكـّرنا بحكاية حنان الشيخ، ولا بزهرة نجيب محفوظ في رواية (ميرامار) وإنما تبدو مثل نخْلة شامَخةٍ على الرغم من دوْرها الثانوي، وهذا شيءٌ يُحسبُ للكاتبة؛ فهي تعلي من شأن الأنثى بطريقةٍ غيْر مُباشرة، وهذا في رأينا هو الفنُّ الحقيقيّ، لا الفنّ الذي يعلنُ عنْ مَراميه، ويُصرّحُ بما يَتغيّاهُ، بطريقة فجَّة: فهي- أيْ: زهرة- تساندُ الزوج، وتقف إلى جواره، في أكثر اللحظاتِ حَرَجًا، فهي، من هذه الناحيَة، تصرفُ الاهتمام إلى كتابةٍ نسْويّة جادّةٍ، بعيدةٍ عن اللغة المتكرّرة في رواياتٍ أخْرى تقتصرُ على المُبْتذل، والآني، والجَسَديّ.
وفي " مرافئ الوهم " 2005 تواصلُ ليلى الأطرش البَحْثَ عن لغة جديدةٍ لكتابةٍ سَرْديّة متنصّلةٍ من تبعاتِ الأشكال النمطيّة، فتهتدي إلى تكوينٍ جديد تنتفع فيه من فنّ السيناريو، والبرنامج التلفزيوني. تداخلٌ في الأمكنة عبر المشاهد، يوازيه تنقلٌ بالقارئ من فضاءٍ لآخر، ومن شخصية لشخصية أخرى، ومن موضوع يستأثر بعنايَة السارد ( س) إلى موضوع يستأثر بعناية السارد (ص) صوتٌ يمثلُ هذهِ الشخصيّة، وصوتٌ يمثل شخصيّة أخْرى.. على هذا النحو تتبأر شخصيّة كفاح أبو غليون الانتهازي العريق في تبئير جزئيٍّ داخليّ، وتتبأر شخصية سلاف في تبئير آخَر، وشادن الراوي تجمَعُ في شخصيتها بين التبئير الداخلي والخارجي. كلّ منهم له مَسارُه الذي اختارتْه الكاتبة، وله صوته الذي يملأ الرواية. الصوت الوحيد الخفيّ في هذه الرواية هو صوتُ المؤلفة ليْلى الأطرش. حتى لغة الرواية ليست لغة المؤلفة على وَجْه اليقين، فنحنُ أمامَ نسيج يصدُق عليه وصف جيرار جنيت للغة المُوَضِّعة، أي تلك التي تنمّ على استقلال الشخوص، فكلٌّ منْهم يتحدث، ويتكلم بلسان يميزه عنْ غيره. ويتسقُ مع دورهِ هو، لا مع دور أيّ شخصيةٍ أخْرى. ومع هذا، لا نفتقرُ، في هذه الرواية، لشفافية الشعْر، التي عرفناها في (امرأة للفصول الخمْسة) أو (صهيل المسافات) فالجَمْعُ بين تعدُّد الأصوات، والنسق الحواري، مع نسيج لغويّ لا يخلو من حنان الشعر، في شرائح الوصْف، والاستبطان النفسي، شيءٌ يصعُب الوصول إليه إلا بعد الخبرة والمِران، وذلك، بلا ريْبٍ، هو ما تملّكَتْه ليلى الأطرش في رحلتها الإبداعيّة هذه.
وفي رواية " رغباتُ ذلك الخريف "2010 تقع الكاتبة تحت سِحْرِ المكان، مأخوذة بالسرد التاريخي، لكنه ليس تاريخيًا مَحْضًا؛ فهو زمن نعيشه نحن القراء، وتعيشه الشخصيات، فالتاريخ - ها هنا- لا يقدم لنا الحاضر بصفته شيئا قد مضى، على الطريقة التي وَصَفَها جورج لوكاش، وإنما هو بتعبير عبد الرحمن منيف: " تاريخُ من ليس لهم تاريخ ". ففيها تتشابك الاهتمامات، وتتشعّب الرؤى، وكلما اتسعَتْ الرؤيا- مثلما يقال - تضيقُ العبارة. والصحيح الذي لا مِرْية فيهِ، ولا جدالَ، ولا مناصَ من الإقرار به، ولا مُفرّ، هو أن المكان شيءٌ ضروريٌّ في الرواية، وركنٌ مهم جدًا من أركان أيْ عمَلٍ سرْديّ، وبغيره لا الرواية رواية، ولا السرْدُ سردًا، ولا الحوادثُ حوادثَ، ولا ريب في أن السارد فُتنَ بالمكان، وانبهر به: حجرًا وشجرًا، وطقسًا، في عالم الناس هذا، أو في عالم متخيَّل بعيد يجري رصدُه وراء خطوط الطول والعرض، في أيوا، أو في باريس، وهذه الافتتان أغرى الساردة بالوصف أكثر مما أغراها بالسَّرْد، وأغراها بتصوير أثر المكان في الشخوص، أكثر من ترتيب متواليات الحكاية، التي ينبغي أنْ تمثل العَمودَ الفقريَّ للرواية.
وحرصُ الساردة- ها هنا - على الافتتان بالأمكنة، والتوقف لدى الكثير منها، وقوفَ مصوِّر تلفزيوني، أو سينمائي، ليسلط الضوء على بقعة مهمشة هنا، وأخرى مثيرة للاهتمام هناك، بقع ومساحات متنافرة الألوان: عبدون. وفندق كذا.. مقابل مخيم الحسين، أو مُخيم كذا.. باريس .. وبيروت.. والكويت .. وأيوا .. مقابل عمان، والكرك، والسلط إلخ.. يوحي ذلك، كله، بمُخطط سرْدي مُضمر، ونسق غائب، غايته إبراز المدينة " عمان" وإقحامُها في التفاصيل المحْكِيّة، إقحامًا قد يبدو زائدًا، وعلى الرغم من تقديرنا لهذا الجانب الذي برعت فيه الكاتبة، أيما براعة، وأجادت أيما إجادة، فقد كان ينبغي لها ألا تتبنّى في سردها التاريخي – وهو تاريخٌ ما زلنا نعيشه- وجهة النظر الرسْميّة، التي يتلقاها الناس عادةً عن طريق وسائط الإعلام المقروءة، والمَنْظورة، فذلك شيءٌ يَسوغُ أنْ يضطلع به المؤرخ الحقيقي، وليس الروائيّ، الذي يُتوقع منه أنْ يسلط الضوء على الدوافع الخفيّة لقيام الشخوص بالأفعال.
وأما شغُفُ الكاتبة بسرْد الحوادث التي لا علاقة لها عُضويًا بالحكاية، كالتركيز على جلوة عشيرة الحسنات من الكرك إلى مأدبا- مثلا- أو قدوم بعض عشائر السلط إلى نابلس، أو العكس، وهو شيء يُحكى على أنه دليل، لا ريْب فيه، ولا شك، ينمّ على مصداقية المَحكيّ التاريخي؛ غير أنّه، من ناحية أخرى، يمثل عبئًا ثقيلا، تنوءُ به الرواية، ولا تستطيع احتماله، ولا سيما إذا لم يكنْ مُحفّزاً لمتواليات سردية عضويّة في النص، وينسحبُ عليها- لذلك - قولُ المتقدِّمينَ: " إذا اتسعتِ الرؤيا ضاقتِ العبارَة ".
وأما الرواية السابعَة والأخيرة، وهي " أبناء الريح " 2012 فتستوقفنا فيها ظاهرة لطالما بحثنا عنها فيما يكتبه الروائيون. وهو الالتفات للمهمَّشين، والمَسْحوقينَ، من أبناء الناس الذين لم يكفهم أن المجتمع، بعاداته وتقالده، والظروف، بما فيها من لين وقسوة، أحاطاهُم بالنسيان، فإن الكتّابَ- علاوة على ذلك - قابلوا هذه الشريحة بالإهمال، أعنى شريحة الأيتام واللقطاء والمَنْسيّين. فموضوع هذه الرواية- أبناء الريح - يحيلنا إلى فتات الواقع اليومي لمجموعة صغيرة من الناس، قادتها الأقدارُ لتنشأ نشأةً شاذة في ملاجئ، أو في دورٍ للأيتام، مجموعة ممَّن لا أباءَ لهم يرعونهم، ولا أمّهاتٍ، ولا أسَر.
وهؤلاء الأشخاصُ تعْصفُ بهم الأيام على إيقاع الزمن، فيتفرقوا أيدي سبأ. منْهُم منْ ابتسم، أو عبَس، في وجهه قمَرُ الحظ القلَّب، ومن هؤلاء سفيان، الذي اهتدى أخيرا لمكانِ عَمّه (تيسير) في دبي، فألحقه هذا بأسرته، واعتنى به، ودرَّسه حتى تخرج في كلية الطبّ، وكأنه بهذا يكفّر عن جريمة نكراءَ كانت له فيها اليد الطولى، وهي مصرع أمّه آمنة، ووفاة والده حسن عبد الجبار في زمَن مُبكّر، وفاةً غامِضَة لا تفسير لها إلا أنْ يكونَ قد قضى حزنًا، وكمدًا، على زوجته التي كانت – فيما يؤكدون- وفيَّة له، ومخلصة في حبّها، ورائعة الجَمالِ جدًا. وبعد ثلاثين عامًا من بدْء الحكاية يستأنفُ سفيان استعادة الحوادث من جديد، عن طريق التسلسل المعكوس، فيتحرى البحثَ عن الشخوص الذين ألفوا في يوم من الأيام أسرة تضمُّ ستة من الإخوة، وخمسًا من الأخوات.
تبدأ كرة الصوف بالانفراط، وتبدأ الحوادثُ بالتتابع، في شيءٍ من التفصيل الذي يلقي الأضواءَ على مزيد من الأسْرار، والخفايا. فعمُّ سفيان – وهو في الحقيقة ابنُ عمّ أبيه- الذي يظهر الكثير من حُسْنِ النّية، هو السببُ الذي دفع بوالده(حسن) لقتل أمه(آمنة) فقد كان تيسير يحسدهُ عليها، ويرى أنه هو أولى بمعاشرة تلك المرأة من حسن الذي لا يستحقها في رأيه. وقد صدته مرارًا حين حاول مراودتها عن نفسها، غير أنه دبر مكيدة مع ابن عمها الذي استهوته تلك المكيدة، فتسلل إلى بيت حسن في غيابه، أما تيسير فراح يبلغه – في الوقت نفسه- بوجود رجل غريب في دارهِ، وهذا ما دعاهُ لارتكاب جريمةٍ قتلَ فيها زوْجَتهُ، فيما كان سفيانُ، ابن السنوات الثلاث، يرنو إلى ما يجري دونَ وَعْي.
ولا تقتصرُ الحكاية - بطبيعة الحال - على ما سَبَق ذكرُه، فثمة حكاياتٌ أخْرى متداخلة كحِكايَة يحيى، ووالديه، وفراس، وحمزة، ونادرة، وعادل، وربحي، وسائد، وغسان، وعودة، ومعتز، ويونس، وآخرين.. وتظل هذه الحكاياتُ بمنزلة الفروع التي تنبت على جذع الحكاية الرئيسة " حكاية سفيان " فالسرد في هذه الرواية من النوع الذي تسْتوعبُ فيهِ الحكايةُ الرئيسَةُ حكاياتٍ أصغرَ منها، كالإطار الذي يضمّ مَجْموعة من الصوَر، لا صورة واحدة. فالمنظور السرديّ، إذًا، وتعدُّد الأصوات، طريقتان اتبعتهما المؤلفة ليلى الأطرش في هذه الرواية بإتقان، علاوةً على اعتمادِها السرْدَ المُتشظّيnarration fragment الذي لا يُخفي تلاعُبَ الكاتبة بالزمن، وتحريك الخيوط المتحكّمةِ بالحوادث، وفقًا لبنيةٍ تقدِّمُ ما منْ حقّه التأخير، كعوْدة سفيان إلى دار رعاية الأيتام، وتأخير ما من حقّه التقديم، كتأخير التفاصيل المتعلّقة بمَصْرع آمنة، أوْ موْقف جدّ سفيان من رعايته، وكفالته، أو حكاية عمّه مع الاشخاص الذين كلَّفهم بزيارة دور الرعاية. وإلى ذلك حَرصَتْ المؤلفة على مراعاة مَسْألة التبئيرfocalization في السرْد، فقد أحاطتْ سفيانَ بالكثير منَ الاهتمام، فاستأثر بنصيب الأسَدِ منَ المَحْكيّ الروائي، فحيثما نَظرْنا - في فضاءِ النّصّ- اكتشفنا لهُ ِذكْرًا، مباشرًا أوْ غيْرَ مُباشِر، فهْو بالنسبة للشخوص كالشجرة التي تظلّل الغابَة. وقد يتراءى للقارئ أنَّ تيسيرًا يحتلُّ موقعًا تبئيريًا في الفصْل الثالث، أوْ أنَّ يحيى يُنافسُه على تلكَ المنزلة، غير أنَّ منْ ينظر بين السطور يكتشفُ بيُسْر أنّ هذا التبئير ثانويٌّ pseudo-focalization و لا يرادُ منه سوى إبراز سفيان، وعالمهِ، الظاهِر منْه، والخَفيّ.
ومن الملاحظاتِ التي لا تفوتُ القارئ، في هذه الرواية، تلك الحِرَفيّة الجليّة التي تتَمثَّلُ فيما سَعَتْ إليه المؤلفة منْ جمَع للمعلوماتِ، واستقصاءِ للبيانات، وهي ترْوي حوادثَ وقعَتْ في فضاءٍ سرْديّ غيْر مألوف بالنسبة لاهتماماتِ الروائيّين، ويتضح ذلك في أكثر منْ موْقف. ولا شك في أنّ لغة الكتابة، ولغة الكلام، في هذه الرواية مُسْتوَيان يأتلفان في النصّ ائتلافَ مستوياتِ الشخوص. وقد أدّى هذا الائتلافُ لظهور لُغيّاتٍ كلّ منها تشير إلى مستوىً مُباين، فلغة الكلام لدى يَحيى، الذي يتمتع بكاريزما القيادة، لغة فاحشة، وسوقية، ومبتذلة، تبهرُ الصغارَ، وهم يحاولون أنْ يكوِّنوا عصابَة من الأشرار، وهذا بعض ما تصدح به حنجرة يحيى وهو يروي للأولاد جزءًا من حكايته: " والدي سبب المصائب.. طلق أمي وتزوج. بلا سبب طلقها. تركنا ودار على حلّ شعره. هو سائق في المستشفى أحب واحدة عاملة وتزوجها ولم يسأل عنّا.. لم يكن أمام أمي غير أنْ تتزوج، ولا تبيع حالها؟ هكذا قالت حين عاتبتُها. كانتْ تبْكي حين نذهبُ إليها فيطردُنا زوْجُها، ويمْنعُها من أنْ تعطينا كِسْرَة خبز. سمعناه يصفعها ويصرخ: هو تزوج واحدة لا ثلاثة، والشرط نور. هو شَرَط وهي قبلت.. وهو ليس من خلّفنا ورَمانا. والبغل الذي أنجبنا أوْلى برعايتنا.. " ولغة نادرة النقيّة تباينُ بمفرداتها وصوتياتها كلام الأم العابثة التي لا تتورّع عن شيء، في قصّة " ياسمين ". والكلام الذي يَجْري على ألسنة مشرفاتِ دور الأيتام ينبئ تارةً عن مستوى أخلاقي رصين، وطورًا عن مستوى من الناس لا يتورّعون عن الكذب، والسرقة، والغشّ، مع أنهم مُربّون.
فالرواية، تبعًا لما سَبَق، تجْمَعُ مُسْتوياتٍ من الأداء اللغويّ تَتَناسَبُ مع اعتمادِها تعدُّد الأصوات، والمونولوج، والحوار، وتنضيدِ الحكايات في إطارٍ جامِع يصحّ أن يوصف بالسرْدِ المُؤطَّر.
هذه هي ليلى الأطرش باختصار، وبلا نمْنماتٍ، أو رُتوش.
__________________________________
* يذكر للتوضيح أن الرواية صدرت عام 1988 ولكنها كتبت قبل ذلك بزمن، والإشارة للانتفاضة التي بدأت في كانون الأول ديسمبر من العام 1987 في الرواية سبقت اندلاعها، لذا وجب التنويه. انظر شكري عزيز الماضي، الرواية والانتفاضة، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ط1، 2005ص15

شهادة د.رزان إبراهيم: التجربة الإبداعية للروائية ليلى الأطرش
وقدمت د.رزان إبراهيم/ استاذ مشارك في جامعة البترا، شهادة بعنوان "التجربة الإبداعية للروائية ليلى الأطرش" تاليا نصها:
على مدار سنين من الكتابة الإبداعية الروائية نلمس في أدب ليلى الأطرش حرصاً على إبراز قيم وتواريخ متباينة للمجتمع العربي عموماً والمجتمع الأردني على نحو خاص. وفي نصوصها السردية أكثر من علامة تؤكد لمتابعيها ركيزة هامة للروائي, وهي انبثاقه من تاريخ مجتمعه؛ بمعنى أنه يتشكل في هذا المجتمع, ويطمح في إعادة تشكيله. وهو أمر يمكن تلمسه عبر ما أطلقت عليه اسم ثلاثية التاريخ الاجتماعي في فلسطين( وتشرق غرباً, امرأة الفصول الخمسة, رغبات ذلك التاريخ). وفي هذا السياق أجدني أكثر ميلاً للقول إن نمطاً من الرواية التسجيلية الواقعية احتل مكانة خاصة في أدبها. وهو ما كان له تبعاته من حيث الاتكاء على عنصر المكان غير المنقطع عن الزمان في جل نصوصها السردية, ويغدو المكان في حضوره غير محصور في دور تزييني أو تمهيدي للحدث الروائي, بل نجده وقد التحم مع المعنى المراد وساهم في عملية إبراز شخوص تفاعلوا مع هذه الأمكنة, وكانت لهم طبائعهم الإنسانية غير المنقطعة عن البيئة التي عايشوها.
في تحليل نصوص ليلى الأطرش السردية, يجد الناقد نفسه مندفعاً تجاه تفسير اجتماعي يربط هذه النصوص بعمليات اجتماعية أفرزتها. وهو ما كان حين قامت برصد أكثر من قضية اجتماعية, وقفت فيها على جملة من التحولات النفسية والفكرية والاقتصادية في المجتمع العربي, غير مكتفية برصد العلامات الخارجية لشخصياتها الروائية. وإنما قامت بما يجب أن يقوم به الروائي المبتكر, وهو تجاوز دور الشاهد التاريخي وإخبارنا بما يكمن خلف البصر في حياتنا اليومية. وما كان لهذه النصوص أن تتحقق بعيداً عن بحث واستقصاء للموضوع الذي تعمل عليه. أضف إلى ذلك أن عمل ليلى الأطرش في الإعلام شكّل رافداً هاماً, فتح لها المجال واسعاً للبحث والسفر ورصد نساء بمختلف الأطياف, جلهن شخصيات مغمورة من طبقات اجتماعية بسيطة يختلفن عن نساء رومانسيات حالمات كان للأدب جولاته وصولاته في التحلق حولهن.
لا يمكن الحديث عن تجربة ليلى الأطرش بعيداً عن حساسية فردية أنثوية تجاه المجتمع كانت لها تجلياتها على نحو خاص في أكثر من منجز سردي لها تحدت فيه نمطاً ثقافياً جاهزاً عمل على مسخ شخصية المرأة, وحولها كائناً مستضعفاً غير قادر على حماية نفسه, وكان له منطقه الخاص في ممارسة العنف أحياناً ضمن نسق يعمل بجد على التفرقة بين البشر على أساس النوع. وإذ تختار ليلى الأطرش شخوصها وعلى الأخص النسائية منها, فإنها لم تكن لتُسكت كتابة تتعلق بالناس وبالتاريخ عموماً, فتكون بذلك قد تخطت محدودية التجربة الذاتية للمرأة إلى قضايا إنسانية أعم وأشمل. ويبقى الأساس في نصوص ليلى الأطرش السردية تماساً مع الحياة وفهماً للطبيعة الإنسانية.
ما انفكت ليلى الأطرش تتحدث عن علاقة البشر بالطبيعة. محذرة من انتهاكات عديدة لها. ويبدو أن التزاماً تجاه هذه الطبيعة, بما فيها من نباتات وحيوانات يوازي التزاماً خلقياً نحو البشر الآخرين. والكاتبة في هذا المسار تقترب من مذهب طبيعي يؤمن أن أية إبادة للنوع الحيواني والنباتي يعكس بالضرورة خللاً أخلاقياً؛ فهؤلاء الذين يسيئون للبيئة هم أنفسهم من يسيء للبشر, ولا يترددون في تعذيب الحيوانات والخلق عموماً. ومن ثم تغدو الحاجة ملحة إلى أخلاق بيئية جديدة تحارب صناعات مختلفة ونفايات تقذف على نحو اعتباطي. وهو ما يمكن تلمسه بقوة في " نساء على المفارق". وفيه دعوة للعمل على محاربة كل من يعمل على تشويه الطبيعة, بما يقتضي تحركاً بالمثل يواجه مجتمعاً يعتدي على المرأة ويعمل على تشويهها. وبالتالي تغدو الحاجة ملحة إلى ثورة بيئية اجتماعية بقواعد أخلاقية جديدة, في إطار منطق يهتم بالمساواة والعدالة الاجتماعية. هدفه محاربة كل أنواع التمركز البشري. وهو ما يبدو منسجماً وكتابة تقوم بتمثيل عالم المرأة بدلاً من النظر إلى المجتمع من منظور الرجل وحسب.
وإذ تعاين ليلى الأطرش أكثر من نموذج نسائي, فإن رسالة خاصة بمجتمع يعاني مخاضاً عسيراً شاءت لها أن تحضر وبقوة. ومفاد هذه الرسالة أن التحرر لا يكون على مستوى الخارج وحسب, فهناك محنة داخلية خاصة بالمرأة في مساق الفكر العربي الجمعي, ولكي تكون حربنا مع الخارج مجدية, لا بد من تدارك جملة من العلاقات الداخلية المتشابكة في المجتمع, وهو ما عبرت عنه الروائية من قبل في روايتها " وتشرق غرباً" حين سبرت أعماق الواقع الاجتماعي والسياسي والأسري قبل الحروب وخلالها وبعدها, ليتأكد لنا دور خطير يمكن لهذه العلاقات أن تلعبه في المجتمعات, منبهة إلى مصير مأساوي يُحتمل وقوعه إن لم يتدبر أمر هذه العلاقات على نحو عقلاني مدروس.
من منطلق تفاعل إنساني بحت يتحرك قلم الكاتبة متجاوباً ونساء كن ضحية علاقات اجتماعية مسببة للقهر. كما تحضر قي أدبها قضية جسد المرأة وسبل استثماره لأطماع متغايرة تبدو المرأة فيها سلعة تصطادها أتون شركات الاستثمار, لتغدو الغلبة لمنطق تجاري يغيب ما عداه من أشكال التعامل الإنساني. كما لايغيب عن كتابتها صنف من النساء لا يعشن لأنفسهن ولا بنفسهن, وللزوج بقيت حياتهن مرتهنة. بما ينبئ عن مؤسسات زوجية هشة, تختزل المرأة إلى كائن ثانوي وليس شريكاً. وتنظر إليها في إطار علاقة وظيفية تجعلها مسؤولة عن الإنجاب وحسب. والنتيجة امرأة لا تعيش لنفسها ولا بنفسها. للزوج تحيا وبإرادته. وهو ما يعيدنا إلى ما تقوله سيمون دو بوفوار عن شيخوخة المرأة, واصفة إياها أنها لا تشبه شيخوخة الرجل, لأن المرأة أداة للأمومة والجنس. حين تعجز عن القيام بهاتين الوظيفتين تصبح كائناً معزولاً, فهي لا تعد امرأة ولا رجلاً.
في قراءتنا للكاتبة ليلى الأطرش, يغدو بإمكاننا الحديث عن تميز في الكتابة النسوية بعيداً عن التحريض على السيطرة الذكورية. فالقارئ كما تقول إحدى بطلات روايتها " مرافئ الوهم" ملّ حرب الثنائيات. و يغدو مطلب بالتصدي لعنف مسلط على النساء داخل عائلاتهن غاية سامية. وهو ما يقتضي بالضرورة ارتقاء بأوضاع النساء القانونية في كافة الأوجه على نحو يحقق للمرأة كرامتها. وأخص بالذكر هنا " نساء على المفارق" وهو منجز نسوي بامتياز حاولت الكاتبة من خلاله الانتصاف لحالة محو تتعرض لها أكثر من امرأة لا تشكل حالة فردية بذاتها, وإنما تمثل أنموذجاً متكرراً في عالمنا الحالي. وهو ما أتاحه للكاتبة تطواف في المدن, جعلها تطلع على تجارب متنوعة, لتعود بعد ذلك لتطرح أكثر من تساؤل, بما يستدعي تقويماً لتجاربنا. وعودة إلى إنسانية انتزعت من المرأة.
ويبقى أن الواقع كما تقول في إحدى رواياتها " يفرض معركته بين تحقيق إنسانية المرأة والسيطرة الأبوية, اجتماعياً وقانونياً وعائلياً, ولهذا ستجد عند أية كاتبة عربية واقعية, حتى ولو تنكرت لأنثويتها, بعض هموم مجموع النساء! قلة لجأت إلى التاريخ وأسقطته على الواقع فظلت الإشكالية النسائية بارزة فيه..". والمطلوب هو كتابة تتصدى ل" خائف من تخلق تمثال ينحته, فيكسر ويحطم كل بروز أو نمو يخرج عن تكوينه".


شهادة ليلى الأطرش: تجربة مبدع/ منتدى الرواد الكبار
مصادفة غريبة ذات دلالة عميقة حدثت قبل ايام، سيطر علي هاجس وسؤال" الأدب إلى أين" في عالم متغير ووسائط حديثة هي سمة هذا العصر، حين وصلني السؤال نفسه من رئيس تحرير مجلة إلكترونية دولية جديدة ستصدر عن مركز القلم التركي، وطلبت المجلة من عدد من كتاب العالم في القارات المختلفة كتابة رؤيتهم والإجابة على هذا السؤال في مقال. بلغة الكاتب الأم ثم مترجما إلى الإنجليزية.. الأدب إلى اين؟ ما دور الأدب وشكله ووسائطه في عصر التقنية الحديثة؟ ومن هو المتلقي في عصر جديد تزحف فيه التقنية الحديثة ووسائل الاتصال لتسحب البساط من الفضائيات كما قعل التلفزيون بالمسرح والسينما، وحتى استفادا من هذا الفن الجديد فبدأ ظهور الأفلام التلفزيونية والقنوات الخاصة بالأفلام.
لم يكن الأمر هاجسا شخصيا، ولا هما خاصا بالكاتب العربي إذن.. إنه هاجس كتاب العالم.
ورغم أنني حاولت أن أكون متفائلة بالنسبة لمستقبل الأدب في مقالتي، إلا أن السؤال ظل يطوف بالخاطر.. كيف يمكن الوصول بما نكتبه إلى جيل الشباب وجمهور الإنترنت؟ وفي مجتمعات عربية فتية يمثل الشباب فيها ما يتراوح بين 60-75 % شباب مصادر معرفتهم مختلفة عما عهدنا؟ وأين موقع الأدب في عصر قادم؟
وهل يمكننا اعتبار الاحتفاء الأكاديمي والثقافي وإقامة التكريم والجوائز دليلا على تعميق مكانة الأدب رغم انحسار القراءة وضعف الإقبال الجماهيري على الفعاليات الأدبية؟

(2)
ما جعلني أعيد النظر في موقفي أنني كنت بالأمس وبدعوة من قسم اللغة العربية في مدرسة البكالوريا أحادث حوالي مئة طالب يمثلون خمسة شعب من الصف العاشر، أي بعمر 15-16 عاما.. كان الاهتمام من مدرسات اللغة العربية بدراسة النص نقديا واستيعاب الطلاب وفهمهم مفاجئا لي، استعمال البور بوينت من الطالبة التي قدمتني وبحثها عن مسيرتي في الإنترنت وتقديمها مثلجا للصدر، ومؤكدا ما آمنت به دائما.. دور الأدب في التكوين الثقافي للأمم وأجيالها، وأن انحسار القراءة هو مجرد عارض نتيجة ما تعرضت له أمتنا وما زالت، وأن أمل الأمم ومثقفيها ومستنيرها يتعلق بالتعليم في المراحل المختلفة.
وما زاد من سروري أو روايتي "امرأة لفصول الخمسة" قررت على طالبات المدرسة الأهلية هذا العام، مثلما كانت ولا زالت مقررة بالإنجليزية على طلاب التبادل في الجامعة الأردنية ومنذ سنوات عدة.
كانت أسئلة الطلاب بالأمس ذكية واعية أثارت الشجون وفتحت حوارا أكبر من أعمار هؤلاء اليافعين، عن علاقة الأدب والنقد، وموقف الكاتب من النقد السلبي لعمله، وهل ترك الأدب أثرا في المجتمع؟ ومتى اكتشفت أنني كاتبة؟ وعن الرقابة وهل أدت إلى تغيير ما كتبت أو ضايقتني؟ ولماذا تبدو المرأة قضيتك منذ البداية
كان قدري والكتابة متلازمين، مارست الكتابة في أشكالها المتعددة، المقروءة والمسموعة والمرئية، وكتبت القصة القصيرة كما المقالة والأفلام التسجيلية والمسلسل الإذاعي والريبورتاج الصحفي والرواية والمسرحية.. الفصة الأولى كتبتها وأنا في مثل عمر هؤلاء، أما الرواية فكنت في السابعة عشرة وإن لم تنشر كان عنوانها "عاشوا عمري"عن نساء لا يسمح لهن بالخروج عما رسم لهن من حياة..
قلت للطلبة بأنني ممتنة لكل هؤلاء الذين كتبوا عن مسيرتي وتابعوها، النقاد الذين قدموا عملي للقراء والطلبة ووجهوهم لقراءة ما أكتب، وسهلوا لقائي مع طلبتهم، وأشاروا عليهم بقراءتي أو اشرفوا على
(3)
دراساتهم العليا عن منتجي الأدبي، ولولا اهتمام النقاد مشكورين لما بلغت الرسائل الجامعية عن رواياتي خمسة رسائل، وأربعة من رواياتي تدرس هذا العام لمراحل مختلفة.. كما أقدم امتناني لكل من سهل لي لقاء الطلبة الأجانب أو الأساتذة من جامعات غربية للحديث عن نفسي أو عن الكاتبة العربية.
أما عن أثر الكتابة على المجتمع فقد عشت هذا السؤال: هل أكتب إرضاء لحاجة نفسية وموهبة تلح للتعبير عن التماس اليومي مع الحياة؟
حين اشار تقرير التنمية الإنسانية الخامس عن المرأة العربية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2005إلى انني من كاتبات عربيات أحدثن تغييرا في مجتمعاتهن، كان سؤالي لنفسي هل نستحق ذلك؟
لكن حين بلغت بأن النساء في جمعية تنمية المرأة في رام الله أكدن أنهن استفدن من "مرافىء الوهم" في فهم حقوقهن.. أو نساء فهمن مشاعرهن بعد "ليلتان وظل امرأة"، أو عن شاب أكد أن فكره تغير عن العلاقة بالآخرين بعد "رغبات ذاك الخريف" أولأن يؤكد لي كاتب معروف أنه فهم سبب الإرهاب في الجزائر من قصة جميلة بوحيرد بعد " نساء على المفارق" وأن تؤكد مسؤولة دور الرعاية على أنها طلبت من جميع العاملين في الدور قراءة " ابناء الريح" لفهم مشاعر الأطفال ممن يتعاملون معهم، يحدوني الأمل بأنني لم أكن صوتا صارخا في البرية.
أما عن المرأة فهي بالتأكيد قضيتي رغم إصرار بعض الكاتبات النسويات بأنني لست منهن، وتحضرني هنا مفارقة عن طالبة دكتوراة موضوعها "النسوية في رواية المرأة في الأردن.. قالت ضاحكة بعد قراءتي لأعمال الكاتبات توصلت إلى أنك الأكثر نسوية بينهن.. وربما كان هذا صحيحا، لكنها نسوية اجتماعية، بمعنى أن تحرير المرأة وحصولها على حقوقها ومكانتها لن يتم بمعزل عن تحرير الرجل فكريا ، وبالتالي قضية المرأة عندي لا تنفصل عن سياقها الاجتماعي. والشواهد
(4)
الآن وفي الردة السلفية التي يعيشها المجتمع العربي نجد أن الخطر الحقيقي هو على مكاسب المرأة.
ويبقى سؤال الرقيب، وإذا كان الجواب أنه سقط الرقيب في عصر الفضاء والإنترنت، فإن الأدب المقروء ما زال في مأزق ، أولا للأمية الحرفية والمعرفية في الوطن العربي، والصراعات الطائفية والعرقية، وعدم الاستقرار بعد الربيع العربي، لهذا إن لم يتمكن الأدب من استغلال وسائط العصر والتواصل معها فإنه بلا شطك في مأزق.
هذه رؤيتي حاولت إشراككم فيها بعيدا عن نمط الشهادات الشخصية عن التجربة الأدبية،







تابعو الأردن 24 على google news