مرة أخرى.. ثمانون نائباً أكثر من كافٍ
بعد انجاز مهمة مجالس اللامركزية، بات لزاما النظر إلى قانون الانتخاب وتحديدا من زاوية عدد أعضاء مجلس النواب الواقع اليوم في مئة وثلاثين نائبا.
هذا الرقم، لم يعد مقبولا ولا ينسجم والإصلاح السياسي المنشود في انتاج مجالس نيابية متفرغة للعمل البرلماني الحقيقي من تشريع ورقابة على أداء الحكومات.
في الواقع، كان هناك الكثير من الملاحظات على عدد أعضاء مجلس النواب، من ناحية أن مساحة المملكة وتعداد سكانها لا يحتاج إلى كل هذا الرقم، بالإضافة إلى الملاحظات التي كانت تسجل في السابق على أن هذا العدد يعد عاملا معطلا للعمل النيابي الحقيقي، ذلك أن «كثرة الازدحام تعيق الحركة وتؤثر على المنتج في نهاية الأمر».
ويظهر ذلك جليا، في مناقشة بيانات الثقة على الحكومات أو مشاريع قوانين الموازنة وخلاف ذلك، إذ أن الغالبية العظمى من النواب يسجلون أسماءهم للمداخلة ولإلقاء الخطابات، والتي في كثير من الأحيان لا تنسجم وموضوع القانون المطروح، بل إن الكثير منها متشابه إلى حد بعيد.
كان من المؤمل أن تكون الكتل البرلمانية رافعة للعمل البرلماني، لكن التجربة حتى اليوم تنطوي على كثير من الملاحظات عندما لا يكون كل أعضاء الكتلة يتبنون ذات القناعة السياسية أو الاقتصادية.
فالكتل البرلمانية، هي أشبه بالرمال المتحركة، فهي دائمة التغيير على صعيد أعضائها، ففي دورة برلمانية يكون أحد النواب في كتلة معينة غير أنه يستقيل في دورة أخرى وينتمي إلى كتلة أخرى، وربما نراه في دورة ثالثة في كتلة ثالثة.
بالتالي، لم تسهم الكتل البرلمانية إلى اليوم، في تجويد العمل البرلماني، ولم تسهم في تركيز النقاش تحت القبة بكلمة جامعة لكل أعضاء الكتلة، بل ترى الجميع يطلب المناقشة وإلقاء الخطب ما يضيع الكثير من الوقت قبل أن تصل رئاسة المجلس إلى مرحلة التصويت على مشروع القانون أو منح الثقة بالحكومة أو خلاف ذلك.
أمام هكذا واقع، وبالنظر إلى مسيرة الإصلاح السياسي التي لا يجب أن تتوقف عند حد معين، وانطلاقا من الأوراق النقاشية التي طرحها جلالة الملك والتي أشارت إلى الحاجة الماسة لمداومة عملية الإصلاح، نقول إنه لم يعد هناك قيمة لمئة وثلاثين نائبا، في ظل وجود مجالس لامركزية.
كان واحد من أهداف مجالس اللامركزية، هو انتاج مجالس خدمية تساهم في تحديد حاجات المجتمعات المحلية من خدمات وبحث آليات تنفيذها، والتخفيف عن كاهل النواب هذا الجانب الذي يستحوذ على غالبية جهدهم وعملهم البرلماني وعلى حساب الجانب التشريعي والرقابي.
بالتالي، إن ظل العدد في مجلس النواب على ما هو عليه سيكون معطلا لعمل نواب مجالس اللامركزية، بل سيساهم في إفشال التجربة عندما يظل نائب البرلمان مقصد المواطنين لتنفيذ ما يحتاجونه من خدمات، هذا من ناحية.
ومن ناحية أخرى فإن بقاء عدد نواب مجلس النواب على ما هو عليه يتعارض مع سياسة الاصلاح المستمر في انتاج نواب يساهمون في رفع سوية العمل البرلماني.
بالتالي، وكما أشرت في مقال سابق نشرته « الرأي «، إن تخفيض عدد أعضاء مجلس النواب إلى ثمانين نائبا، هو عدد أكثر من كافٍ، ويجب أن تكون الأولوية خلال المرحلة المقبلة في الدفع لتعديل قانون الانتخاب بما يضمن تخفيض العدد.
وهذا، بلا أدنى شك، يستوجب أيضا أن تُجري تعديلات متعلقة بالدائرة الانتخابية، باتجاه القائمة النسبية المفتوحة بحيث يكون أمام الناخب خيارا وحيدا عندما يختار اسم قائمة انتخابية فقط دون النظر إلى أعضائها، الذين عليهم ترتيب أسمائهم تباعا في وقت سابق بحيث إن حصلت القائمة على نسبة تؤهلها لمقعدين في مجلس النواب مثلا يشغله الاسم الأول والثاني في القائمة.
اختيار الناخب اسم قائمة دون النظر إلى أعضائها من شأنه أن يجعل التنافس بين القوائم على البرامج السياسية والاقتصادية والاجتماعية لكل قائمة، ومن شأنه أيضا أن يفتح الباب واسعا للاحزاب لتشكيل قوائم حزبية تساهم في تطوير العمل النيابي وضمان وصول سياسيين واقتصاديين قادرين على ممارسة العمل الرقابي والتشريعي على النحو الذي ينبغي له ذلك.
كما أن هذا التوجه من شانه أن يقلل من فرص وصول نواب الخدمات أو النواب الذين يتكئون على عائلاتهم وعشائرهم إلى قبة البرلمان لصالح قوائم تحمل برامج حقيقية، وهذا بطبيعة الحال يحتاج من الأحزاب ذاتها أيضا أن تطور من نفسها وتسارع إلى إجراء الاندماج بين المتشابه منها لتكون أكثر فاعلية في المشهد السياسي وأكثر قدرة على الوصول إلى قبة البرلمان.
هذا من حيث أثر تخفيض عدد أعضاء مجلس النواب على الواقع السياسي، بيد أن لتخفيض العدد أثر إيجابي آخر عند النظر إلى ما نعانيه من أزمة اقتصادية خانقة.
ويكمن ذلك، في تخفيض فاتورة الرواتب والمكافآت التي يتقاضاها اعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس الأعيان الذين سينخفض عددهم أيضا إلى نصف عدد أعضاء مجلس النواب.
وهذا يأتي في سياق تخفيض النفقات، ولنا بعد ذلك أن نقارن الفرق بين ما يتم انفاقه اليوم على مجلس النواب وما سيكون عليه الأمر عند تخفيض العدد، ولنا أن نشعر بالفرق أيضا إن كان هناك ثمة توافق باتجاه تخفيض قيمة المكافأة التي يتقاضونها والراوتب التي يتقاضاها أعضاء مجلس الوزراء وغيرهم من رؤساء مجالس الشركات والمؤسسات التابعة للحكومة.
تعديل قانون الانتخاب، وتخفيض عدد أعضاء مجلس النواب، لم يعد ترفا بل هو نتيجة حتمية لاستمرار عملية الاصلاح السياسي، وإلا فإن تجربة اللامركزية سيكون عليها علامات استفهام كبيرة عندما يظل جهد النائب منصبا على توفير الخدمات لمجتمعه المحلي أو لدائرته الانتخابية، وهو بالتالي لا يصب في مصلحة عملية الاصلاح التي نسعى إلى استمرارها، ونكون عند ذلك نخالف ما جاءت به أوراق جلالة الملك النقاشية، وهو بالنهاية لا يصب في مصلحة الدولة.