“الرسالة السياسية لهوليوود”الصور في خدمة رأس المال والسياسة
كتبت رانيا حداد :
رغم ان أول عرض سينمائي تجاري في العالم بدأ من أوروبا؛ من فرنسا تحديدا عام 1895م، إلا أن الولايات المتحدة الأمريكية ما لبثت أن أصبحت في فترة قياسية مركزا مهما للتوزيع والاستثمار في مجال السينما، إذ احتكمت وحدها على ربع دور العرض السينمائية الموجدة في العالم آنذاك –أي ما يقارب 15 ألف دار عرض، ثم جاءت رياح الحرب العالمية الأولى فعصفت بأوروبا وأرهقتها اقتصاديا ومعنويا، ودفعت بعدد كبير من أبنائها السينمائيين للهجرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي نهضت سريعا من الآثار التي تركتها الحرب على اقتصادها، فكما شهدت تلك الفترة إغلاق عدد من شركات الإنتاج السينمائي في مدينة “فورت لي” -عاصمة السينما حينها في نيوجيرسي – شهدت أيضا إنشاء كيانات سينمائية كبرى، نقلت نشاطها وثقلها إلى هولييود في لوس انجلوس، لتصبح العاصمة الجديدة للسينما الأمريكية، وليمثل هذا انطلاقة جديدة.
مثّلت هذه الكيانات الضخمة مركزا للاحتكارات الرأسمالية في المجال السينمائي، ومع نشأتها بدأ اليهود ببسط نفوذهم عليها، من خلال امتلاكها أو إدارة جميع استديوهات هوليوود الرئيسة، بعض هذه الكيانات السينمائية استمر بوجوده إلى اليوم، وبعضها الآخر ابتلعته كيانات أكبر منه دون أن يتغير جوهرها الاحتكاري الرأسمالي، وإدراتها اليهودية.
احتكارات رأسمالية
في كتابه الصادر حديثا “الرسالة السياسية لهوليوود| تفكيك الفيلم الأمريكي“، يقدم الباحث د. ابراهيم علوش في جزئه الأول، دراسة تحليلية لصناعة السينما في هوليود، القائمة في بنيتها على هذه الكيانات السينمائية الضخمة، التي لا يتجاوز عددها الست شركات او استديوهات، ولكنها تسيطر على كامل الصناعة السينمائية في هوليود، فهذه الكيانات السينمائية ترتبط عضويا بكتل مالية وشركات ضخمة؛ كشركات اتصالات او اعلام داخل الولايات المتحدة وخارجها – تقدم الدراسة تفصيلا لهذه الكيانات والشركات التي ترتبط بها- تحكم هذه الكيانات القاعدة الجوهرية للنظام الرأسمالي؛ الربح كهدف ومعيار أول وأخير، وما يتطلبه هذا من بحث دائم عن أسواق تمتد على رقعة العالم تدمن استهلاك منتجاتها، المتمثلة بالأفلام الهوليودية، لذلك تُثبّت هذه الكيانات صيغ أفلام؛ الاكشن، والاثارة، والمغامرة، والتشويق، والرعب، والحب، والكوميديا، التي تحاكي حاجات ورغبات المتلقي الغريزية، وتجلب معها أكبر عدد ممكن من المتلقين/ المستهلكين، وبالتالي أكبر قدر من الربح، بهذا المعنى “تمثل هذه الاستديوهات بالأساس مشاريع استثمارية قبل أن تكون مشاريع ثقافية أو فنية”، وبهذا المعنى يتحول المشاهد/ المتلقي السينمائي إلى مستهلك لهذا المنتج الثقافي التجاري، تم تطويعه ليتقبل مخرجات سوقها، وبذلك يمكن “السيطرة على ذوقه سينمائيا والتنبؤ به”.
لا يتأتى جني أكبر قدر من الأرباح في هذه المشاريع الاستثمارية دون الاحتكار، الذي يتكرس عبر توسيع دائرة النفوذ، لتتعدى إنتاج الأفلام إلى إنشاء شبكات توزيع، وامتلاك سلسلة كبيرة من دور العرض تنتشر على امتداد الولايات المتحدة، الأمر الذي يجعلها تُحكم السيطرة على صناعة السينما برمتها، فتتحكم من جهة في طبيعة الأفلام المنتجة، ومن جهة أخرى في طبيعة الأفلام التي تسمح بعرضها على شاشاتها، والحال هنا أن الأفلام الأمريكية المستقلة التي نجت من هيمنة هوليود إنتاجيا، قد لا تنجو من هيمنتها أمام امتحان دور العرض التي تهيمن على أغلبها، إذا ما حملت طيات تلك الأفلام المستقلة رسائل سياسية وفكرية مغايرة لهوى هوليود، فقد توصد من دونها الأبواب، الأمر الذي يعني خسائر فادحة، وتقدم الدراسة بالتفصيل لحجم هذا الاحتكار والهيمنة على قطاعي التوزيع والعرض.
القلعة اليهودية والرسائل السياسية
بعد تحليل صناعة السينما الهوليودية في بعدها الجوهري كمشروع استثماري، ينتقل علوش لإلقاء الضوء على الفيلم الهوليودي كمشروع سياسي وثقافي يهودي، ويقدم استدلاله على حجم النفوذ اليهودي في هوليود من خلال إنتقاء وترجمة أربع مواد من مجلات وصحف أمريكية وإسرائيلية، أهمها المادة الأخيرة – رغم أن كاتبها مجهول- فهي تقدم بالتفصيل حجم هذا النفوذ الذي يهيمن لا على هوليود فحسب، إنما على مختلف وسائل الإعلام والإتصال.
لكن هل الهيمنة اليهودية على هوليود تفرض معها بالضرورة تهويد ثقافي؟ وهل تبعث برسائل سياسية من خلال إنتاجاتها؟.
يرى الباحث علوش أن ثمة تكاملا عضويا بين النفوذ اليهودي و”بنية الرأسمالية الأمريكية، وهوليود بصفتها وسيلة إنتاج للوعي، للقيم والمفاهيم تستخدم بشكل مباشر إلى جانب وسائل الإعلام والثقافة الأخرى التي يسيطر عليها اليهود، ككتلة متماسكة مدركة لذاتها في تهويد العالم ثقافيا ابتداء من الغرب نفسه”. ويحاول علوش أن يقدم دليلا ملموسا على ما ذهب إليه عبر تناول مجموعة كبيرة من الأفلام الهوليودية وغير الهوليودية -لكن المتأثرة بها- في الجزء الثاني من دراسته، محاولا تفكيك المضمون والرسالة السياسية التي تحملها.
في عرض سابق لكتاب “الرسالة السياسية لهوليوود” قدمه الناقد ناجح حسن خالف فيه د. علوش في تقدير حجم الهيمنة اليهودية على هوليود، وفي تحميل الأفلام الهوليودية رسائل سياسية ممنهجة، معتمدا في ذلك على ما سبق وقاله المخرج السوري الأمريكي الراحل مصطفى العقاد:
“لطالما أكد العقاد على خطأ نظرية أن اليهود يسيطرون على عالم السينما ويوجهونها حسب رغباتهم، لأن شركات الإنتاج ظلت على الدوام تتطلع إلى تحقيق أرباح مادية، ولا يهمها الدخول في معركة صراع أفكار أو ايديولوجيات، ويُرجع النظرة السلبية للشخصية الإسلامية العربية في السينما العالمية إلى الفهم القاصر والنظرة النمطية التي تعيش فيها ثقافات عالمية، نتيجة لعجز المثقفين العرب والمسلمين الوصول إلى العالم من خلال وسائل التعبير المتاحة قبل أن يأتي الحادث الذي هز العالم في مدينة نيويورك العام 2001، ويبدأ الغرب ومعه العالم بأسره بقراءة موروث هذه الثقافة والبحث عن أسباب ومسببات ما جرى يوم الحادي عشر من ايلول“.
لا نشارك الزميل حسن في طرحه، لأن الأمر لا يحسمه رأي، إنما حقائق على أرض الواقع تتحدث عن نفسها، لهذا من المفيد العودة للمواد التي سبق وان ذكرنا انتقاء وترجمة الباحث لها في دراسته، وبشكل خاص المادة الرابعة التي تقدم دراسة تفصيلية لحجم الهيمنة اليهودية، اما “الفهم القاصر للغرب والنظرة النمطية…”، حيث يوحي حديث الزميل حسن بأن التنميط كان نتاج جهل فطري لدى الغرب بثقافة وصورة العرب، وفي واقع الأمر أن هذه الصورة النمطية للعرب كانت نتاج شغل ممنهج على مدار سنوات من قبل كل من استديوهات هوليود، والمؤسسات الرسمية الأمريكية، في هذا السياق تعد الدراسة التي قدمها قبل سنوات الباحث الأمريكي جاك شاهين “عرب سيؤون للغاية- كيف تذم هوليود الناس” مهمة في توضيح تلك الحقيقة، ويقدم علوش في الجزء الثاني من دراسته قراءته للرسائل السياسية التي تحملها الأفلام الهوليودية، ويؤكد أن “الحساب التجاري الضيق ليس كل شيء، في النهاية هوليود جزء من المؤسسة الحاكمة”، هذه الفكرة جوهرية ومهمة، فهي ركن أساسي في فهم كيف تعمل الماكينة الرأسمالية، وفي فهم العلاقة المتشابكة بين رأس المال، والنفوذ اليهودي، والمؤسسات الحكومية في واشنطن (البنتاغون، السي اي ايه)، وفي فهم كيف تُصنّع الرسائل السياسية، الأمر الذي يلخصه فالنتي رئيس جمعية الصور المتحركة الأمريكية بأن “واشنطن وهوليود تشتركان بنفس الجينات”، وهذه دلالة صريحة كما يقول جاك شاهين على أن السياسة وصور هوليود أمران مترابطان ويعزز أحدهما الآخر، فالسياسة تعزز الصور الملفقة، والتي بدورها تعزز السياسة.
المعرفة الواعية كطوق نجاة
إزاء سيطرة النموذج السينمائي الهوليودي على العالم، وإزاء تنوع وسائل الإتصال الجماهيري؛ النت، والفضائيات… وحجم انتشارها، أصبح المتلقي العربي أمام سيل من رسائل سياسية سينمائية، تعمل مدار الساعة على إعادة صياغة وعيه وثقافته، وهنا يقدم علوش دراسته هذه كشكل مغاير لمجابهة هذا المد الهوليودية، شكل لا يعتمد نهي المتلقي العربي عن مشاهدة تلك الأفلام، إنما بناء المعرفة والوعي السينمائي النقدي الـ “حذق سياسيا وثقافيا”، وعي يحوّل المتلقي العربي من مجرد مستهلك لهذا الانتاج الثقافي إلى متلقٍ واعٍ قادر على التحليل والنقد.
بطبيعة الحال هذه الدراسة كما جاء في عنوانها “الرسالة السياسية لهوليوود” تساهم في تقديم جزء من المعرفة والمتعلق فقط بمضمون الفيلم الأمريكي، لتفتح الطريق أمام دراسات أخرى أوسع تتناول دراسة الشكل جنبا إلى جنب المضمون.
نقلا عن مجلة راديكال