بانوراما الحراك.. التناقض الرئيسي وعبثيّة المعارك الجانبيّة
كتب تامر خرمه
الخلافات التي تفاقمت مؤخرا بين عدد من الحراكات الشعبيّة والحركة الاسلاميّة، حالت دون مشاركة مدينة إربد في فعاليّات الجمعة، ففي الوقت الذي حاولت فيه بعض مكوّنات تنسيقيّة الحراك في الشمال الدفع باتجاه تنظيم مسيرة الجمعة وتجاوز خلافاتها مع السلاميّين، فضّل البعض الآخر تأجيل الفعاليّة تجنّبا للصدام مع مجموعات البلطجيّة، التي تحاول جرّ الحراك إلى حالة من الفوضى، فيما دفع طرف ثالث باتجاه تنظيم فعاليّة الجمعة بالتنسيق مع الائتلاف الشبابي والشعبي للتغيير، الذي يقوده حزب الوحدة الشعبية، إلا أن الائتلاف رفض انتهاز الخلافات الداخليّة بين مكونات التنسيقيّة، وفضّل عدم اللّعب على التناقضات، تغليباً لمصلحة الحراك.
انسحاب الحركة الاسلاميّة من فعاليّة الجمعة السابقة، استجابة لطلب قوات الأمن التي كانت تفصل بين المشاركين وبين مجموعات البلطجيّة، لم يكن السبب الحقيقي لتفاقم الخلافات بين الحراكات الشعبيّة التي قرّرت الاستمرار في تلك المسيرة وبين نشطاء حزب جبهة العمل الاسلامي.. فما حصل لا يتجاوز كونه القشّة التي قسمت ظهر البعير، حيث يعود الخلاف فيي حقيقته إلى حالة النزق الأيديولوجي التي هيمنت على المشهد في الآونة الأخيرة.
وفي الوقت الذي يتطرّف فيه البعض ويذهب إلى اعتبار أن صراعهم الأساسي لا يحدّده التناقض مع السلطة فحسب، بل أيضاً مع الحركة الاسلاميّة، يجد البعض الآخر صعوبة في محاولة الارتقاء بالتحالفات السياسيّة وتجاوز الخلافات التي بدأت بالتفاقم بين مكوّنات الحراك، بسبب نزق الخطاب فيما يتّصل بالقضايا الخارجيّة من جهة، وعدم وضوح الحركة الإسلاميّة في تعاملها مع القوى الناشئة من جهة أخرى.
ورغم كل شيء، فإن المرونة التي يمتلكها نشطاء الحركة الاسلاميّة في التعامل قوى الحراك، ستمكّنها من تجاوز هذه الحالة مرحليّاً، وغياب إربد -المدينة التي استنهضت الآلاف للمشاركة في فعاليّات الحراك- لن يكون سوى محطة عابرة، في حال تجاوز الاسلاميّون ما تراكم من عثرات.
ومن جهة أخرى، فإن الائتلاف الشبابي والشعبي للتغيير، بدأ بمحاولة الارتقاء بالعمل المشترك، ولكن لا يمكن تجاهل ضرورة التنسيق مع كافة القوى المتواجدة على الأرض -وخاصة الحركة الاسلاميّة- من أجل تحقيق مهمّات التغيير الوطني الديمقراطي.
أمّا في العاصمة عمّان، فقد بدأت القوى الناشئة بمحاولة الخروج من حالة النخبويّة التي هيمنت على الحراك، ونجحت في تغيير وسائل وآليّات عملها من أجل استنهاض الأغلبيّة الصامتة ودفعها إلى المشاركة في الفعاليّات الاحتجاجيّة.. ففي حيّ الطفايلة قام نشطاء الحراك بعقد محاكمة شعبيّة لرموز الفساد، في سياق طرح جديد للخطاب السياسي، بعيداً عن الصيغة الخطابيّة التقليديّة التي حفظها الناس عن ظهر قلب، دون أن تلامس همومهم وقضاياهم.
كما واصل نشطاء "أحرار العاصمة عمان" حملة التوجّه إلى الأحياء الشعبيّة ومحاولة استنهاض الشارع تحت شعار "الصمت يقتل يقظتنا".. ولكن مازالت هذه الخطوة -على أهميّتها- تفتقر إلى ما يمكّنها من تحقيق غايتها، وهو التنسيق مع القوى الأخرى وتوحيد الجهد، بعيدا عن نزعة التفرّد وسياسة العزف المنفرد.
الصمت.. الذي احتلّ صفوف المواجهة الأولى مع قوى الحراك، يمكن له أن يحقّق ما عجزت عنه القبضة الأمنيّة في مناهضة مطالب التغيير الديمقراطي، وهو ما أدركته القوى الناشئة التي قرّرت مواجهته بكلّ ما تمتلك من غيرة على المصلحة الوطنيّة.. فكان شعار "الصمت يقتل يقظتنا" منسجما مع الشعار الذي أطلقته حملة "صمتك بكلفك"، وهو ذات الشعار الذي حدّد بوصلة نشطاء الحراك في مدينة معان.. فجاءت فعالية الجمعة استمرارا للفعاليّة السابقة، التي اتّخذت من القضايا المعيشيّة محوراً للارتقاء بالطرح السياسي.
خبز الناس هو وحده ما يدفعهم إلى إعلان الغضبة الشعبيّة، وليس رغبة هذا أو ذاك الحزب بالوصول إلى السلطة او المشاركة في صنع القرار السياسي.. وخلافاً للقوى التقليديّة فقد أدركت القوى الناشئة أن مشاركة الأغلبيّة الصامتة في فعاليّات الحراك لا يمكن تحقيقه إلا بتقديم شعار "الخبز" على شعار "الديمقراطيّة".. والغريب أن الحركة الاسلاميّة بدأت بإدراك هذه المعادلة قبل القوى اليساريّة التي يشكّل البعد الاقتصادي جوهر خطابها النظري.
ومن هنا جاءت مشاركة الاسلاميين في فعاليّة معان، في ذات الوقت الذي كان فيه البعد الاقتصادي هو الأبرز في فعاليّة فقوع، رغم شعارها السياسي المتعلّق بقضيّة الانتخابات النيابيّة.. أمّا في المزار الجنوبي فقد لازمت القوى القوميّة بين البعدين الاقتصادي والسياسي في كافة فعاليّاتها المستمرّة، رغم تواضع أعداد المشاركين فيها.
وعودة إلى المشهد العمّاني، فلاتزال فوضى الأولويّات -إلى جانب تشتّت الجهود- يشكّلان العائق الأساسي أمام القوى السياسيّة والشبابيّة، التي تحاول تجاوز الحالة النخبويّة إلى حالة شعبيّة حقيقيّة تمكّنها من إنجاز مهمّات المرحلة.. ففي الوقت الذي غابت فيه بعض القوى عن فعاليّات الجمعة، وآثرت التوجّه إلى السفارة الفنزويليّة للتعبير عن تضامنها وتعازيها برحيل الرئيس البوليفاري هوجو تشافيز، اتّخذت قوى أخرى من جزئيّة حقوقيّة أولويّة لخطابها، واكتفت بإصدار بيان يطالب بتجنيس أبناء الأردنيّات، دون المشاركة في فعاليّات الجمعة.
قضيّة المرأة والجدل المتعلّق بالحقوق المدنيّة، وكذلك مشاعر التضامن مع الشعوب الأخرى في نضالها ضدّ الامبرياليّة، لا يمكن إنكار أهميّتها وضرورتها في مرحلة التحوّل الديمقراطي.. ولكنّها لن تكون كافية -بأي حال من الأحوال- لإقناع الفئات الشعبيّة بالمشاركة في فعاليّات الحراك، خاصّة في ظلّ انحسار مشاركة القوى الطليعيّة نفسها بهذه الفعاليّات.. الأمر الذي يفرض على هذه القوى إعادة تحديد أولويّاتها والتحدّث باللغة التي تلامس هموم الناس، عوضاً عن الاكتفاء -في هذا الوقت على الأقل- بقضايا الترف السياسي.