بانوراما الحراك.. عندما يغنّي كلّ على ليلاه في حدود اليافطة والشعار
كتب تامر خرمه
الهتافات التي شهدتها فعاليّات الجمعة تجاوزت كافّة السقوف السياسيّة، ووصلت -مجدّدا- الى المطالبة بالإسقاط، وذلك في سياق ردود الأفعال على ما ورد في المقابلة الملكيّة لصحيفة "الاتلانتك"، إلّا أن المشاركة في تلك الفعاليّات اقتصرت على حدودها الدنيا، سواء من حيث أعداد المشاركين أو درجة التنسيق بين القوى والحراكات المختلفة.
ردّة فعل القوى التي بادرت إلى رفع السقف السياسي في مختلف فعاليّات اربد، والزرقاء، وعمّان، ولواء المزار الجنوبي بمحافظة الكرك، كانت نتيجة متوقّعة لما أثارته مقابلة "الاتلانتك"، حيث بادر بعض الحراكيّين إلى الاحتجاج أمام الديوان الملكي فور نشر ما ورد في تلك المقابلة عبر وسائل الإعلام المحليّة، وذلك قبل أن تنعكس آثارها على الشارع، الذي ما لبث أن تلقّى الصدمة بما قاله الملك، حتى وجد من يتصدّى للموقف بالمطالبة بالإسقاط.
والنتيجة الطبيعيّة أمام هذه المعادلة، أن يلعب الشارع دور المتفرّج، ويترقّب ما ستفضي إليه الأيّام المقبلة، فردّة الفعل استبقت وصول "مباغتة الاتلانتك" إلى إدراك الناس، ليجد المواطن نفسه بين تصريحات ملكيّة تلقي باللّوم على جهاز المخابرات ومراكز القوى التي تعيق الإصلاح، وبين هتافات تحمّل الملك مسؤوليّة ما آلت إليه الأوضاع الاقتصاديّة والسياسيّة.. أمّا القوى المنظّمة فآثرت النأي بنفسها عن هذه المواجهة، ليجد الشارع نفسه في مواجهة مخاوفه وهمومه المعيشيّة، في ظلّ طرح سياسي بلغ أعلى مراحله دون الاستناد إلى أيّة مرتكزات، سواء فيما يتعلّق بالحاضنة الشعبيّة أو فاعليّة القوى القادرة على التنظيم والتأثير.
القوى المنظّمة انشغلت بتوجيه رسائلها إلى أنصارها وإلى القنوات الإعلاميّة، بعيداً عن مواجهة التصريحات الملكيّة وعن أولويّات الناس المعيشيّة على حدّ سواء، فمن جهتها فضّلت الأحزاب اليساريّة استباق فعاليّات الجمعة باعتصام نظّمته يوم الخميس أمام السفارة الأمريكيّة تنديدا بزيارة باراك أوباما، دون طرح الموقف من هذه الزيارة في سياق معركة التغيير السلمي التي يخوضها الحراك منذ أكثر من سنتين، بل جاءت غالبيّة الهتافات التي شهدتها تلك الفعاليّة لتسليط الضوء على الموقف من الأزمة السوريّة، ولإبراز أكبر عدد ممكن من الأعلام الحمراء أمام كاميرات الإعلام، ولسان حال المعتصمين يقول: "نحن هنا.. اليسار موجود.. وهو الذي يناهض الامبرياليّة وليس الاسلاميون" !!
الطريف أن الحركة الإسلاميّة ردّت على هذه الرسالة باستخدام اللغة ذاتها، ففعاليّة "نصرة الأقصى" التي أقامتها الحركة لأنصارها بعد صلاة ظهر الجمعة، ارتكزت أيضاً على التنديد بزيارة أوباما وبالموقف الأمريكي من الأزمة السوريّة، و"الذي يطيل في عمر الأسد على رأس السلطة، ويأتي في سياق التآمر على الثورة السوريّة"، وفقاً للمتحدثين في تلك الفعاليّة.
مؤسف أن تصرّ القوى المنظّمة على ترك الشارع للشباب المندفع، الذي يفتقر إلى الخبرة السياسيّة والقدرة على توجيه وتنظيم الناس، وتواجه مشروع "العم سام" بفعاليّات أشبه ما تكون بالنشاطات الداخليّة التي تقتصر على العضويّة الحزبيّة النخبويّة !!
أمّا المركز الأمني السياسي، فلجأ مجدّدا إلى مواجهة الشباب المتحمّس بالأسلوب الكلاسيكي المستند إلى منطق البلطجة، حيث انطلقت مجموعات ما يسمّى بـ "الولاء والانتماء" لمواجهة كلّ من فعاليّة "الحسيني" في العاصمة عمان، ومسيرة اربد (التي آثرت الحركة الاسلاميّة المشاركة فيها تجنّباً لتفاقم الخلافات داخل تنسيقيّة الحراك).. ولكن أما آن لحكومة الظلّ أن تدرك عبثيّة الاستعانة بالبلطجيّة في التعامل الأزمات ؟!
وفي الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمة المركّبة على كافّة المستويات الاقتصاديّة والسياسيّة والاجتماعيّة، تصرّ حكومة الظلّ على اعتبار أن جوهر المشكلة يتلخّص بالسقف السياسي لهتافات الشباب المتحمّس، فيما تنشغل القوى المنظّمة بمحاولات إبراز الذات، والتمايز في مواقفها من الأزمة السوريّة.. تلك الأزمة التي أثارت مخاوف الشارع الأردني، وتركته يلعب دور المتفرّج بين مطرقة المعاناة من تدهور الأوضاع المعيشيّة وسندان القلق من غد مفتوح على كافّة الاحتمالات.
غياب التنسيق والبرنامج المشترك لدى قوى الحراك، شكّل العامل الرئيس لتراجعه أمام القرارات الرسميّة المنحازة ضد خبز المواطن، ففي الوقت الذي تتّجه فيه الحركة الاسلامية إلى حالة من العزلة السياسيّة، فشلت الأحزاب القوميّة واليساريّة في تشكيل إطارها المشترك، بل إن الأطر الشبابيّة التي شكّلتها هذه الأحزاب في بداية الحراك -كالائتلاف الشبابي والشعبي للتغيير- لم تعد موجودة على أرض الواقع، كما فشلت القوى الناشئة بصياغة أطر بديلة، نتيجة تغليب القضايا الخلافيّة على القواسم المشتركة بين هذه القوى.
وأمام هذا الواقع، بادر التيّار القومي التقدّمي الى طرح فعاليّة تسلّط الضوء على أولويّات الناس تحت شعار "لا لرفع الأسعار"، حيث تقرّر تنظيم هذه الفعاليّة مساء اليوم السبت، في محاولة لتجاوز القضايا الخلافيّة من جهة، والشعارات النخبويّة من جهة أخرى، ولكن مازالت المعضلة الأساسيّة المتمثّلة بغياب العمل المشترك تكرّر نفسها، حيث كان من الأولى -قبل الدعوة إلى هذه الفعاليّة- التقاء مكوّنات الحراك لتبنّي هذا الشعار في فعاليّة مركزيّة، تربط في طرحها ما بين القضايا المطلبيّة ومجمل التطوّرات السياسيّة، ولكن دون الخوض في التفاصيل الخلافيّة.. ففي الوقت الذي يتمكّن فيه الحراك من تنظيم مثل هذه الفعاليّة، يمكن القول بأن التغيير السلمي الديمقراطي تجاوز في إمكانيّة تحقيقه حدود اليافطة والشعار.