بانوراما الحراك.. مغامرة السلطة ورسائل العصر الحجري
كتب تامر خرمه
رسالة المركز الأمني- السياسي لنشطاء الحراك، عبر الاعتداء على مسيرة اربد، تعكس المدى الذي قد تصل إليه مغامرة حكومة الظلّ في مناهضتها للمطالب الشعبيّة المتعلّقة بالإصلاح واجتثاث الفساد، فالفوضى العارمة قد تكون الأنسب لدى بعض مراكز القوى في حال أُجبر أركانها على الاختيار ما بين هذه الفوضى وبين تحقيق الإصلاح.. الأمر الذي يعبّر عن عقليّة تستند إلى منطق العصر الحجري "المتميّز" بعدم التحكّم بردّات الفعل .
هذا أقل ما يمكن استنتاجه من الإصرار على مواجهة الفعاليّات الاحتجاجيّة السلميّة بمجموعات "البلطجيّة" التي تمادت في اعتدائها ليس فقط على المشاركين بهذه الفعاليّات، بل وعلى أصحاب المحال التجاريّة لترويع الناس وتحذيرهم مما قد تؤول إليه الأمور، حيث تكشف هذه الرسالة درجة استعداد حكومة الظلّ للدفع باتجاه الفوضى ومحاولة تحميل مسؤوليّة ذلك للحراكيّين، الذين مازالوا يتمسّكون بسلميّة الحراك الشعبي، كما تكشف أيضاً الإصرار على تصوير الصراع على أنّه معادلة ثنائيّة بين الإسلاميّين والسلطة، وذلك عبر الاعتداءات المتكرّرة على مقرّات حزب جبهة العمل الإسلامي.
ولكن في حال اندلاع الفوضى ووقوع ما ﻻ يحمد عقباه، هل يضمن المتنفّذون الذين يدفعون البلاد إلى الهاوية، بقاءهم بمنأى عن طائلة المحاسبة الشعبيّة ؟! سؤال ربّما لم يطرق بال الكثيرين ممّن أخذتهم العزّة بالإثم، ظنّاً بأن تفجير الأوضاع لن ينعكس عليهم بشكل مباشر، على عكس ما قد يؤول إليه مصيرهم في حال استمرار الضغط الشعبي لحمل النظام على الاستجابة لمطالب الحراك ومحاسبة المسؤولين عن تغوّل الفساد والاستبداد.
"أنا ومن بعدي الطوفان".. عبارة تعكس لسان حال حكومة الظلّ وتلخّص ما جاء في رسائل الاعتداء على الفعاليات الاحتجاجيّة، إلا أن الغريب هو اعتقاد بعض مراكز القوى بقدرة "البلطجة" أو الاعتقال السياسي على تصفية الحراك، تماما كما اعتقدت مراكز القوى في كثير من الدول المجاورة، قبل أن تثبت الأيّام مدى السطحيّة التي تتّسم بها مثل هذه "الحلول" العبثيّة.
كما أن اعتقال النشطاء خلال مسيرة اربد يكشف حالة اليأس التي وصلت إليها السلطة، حيث يصرّ المركز الأمني على اجترار ذات التجربة، التي أدّت إلى ارتفاع السقف السياسي وتجاوز كلّ ما يسمّى ب "الخطوط الحمراء"، عندما شنّت الأجهزة الأمنيّة حملة الاعتقالات اليائسة خلال فترة الخريف.. ولكن يبدو أن هناك من يرفض الاعتراف بالواقع ويراهن حتى الآن على جدوى الاعتقالات في هذه المرحلة التي تجتاح المنطقة برمّتها.
أمّا الرسالة التي حاولت الحركة الاسلاميّة إيصالها إلى النظام عبر رفع سقف الهتافات في فعاليّة وسط البلد، وقبل ذلك عند إحياء ذكرى 24 آذار التي كانت حاضرة في كلمات المتحدّثين في فعاليّة الجمعة، فلن يكون لها ذلك التأثير الذي أرادته الجماعة، حيث أن التلويح بالتصعيد وتوجيه الرسائل "التحذيريّة"، في الوقت الذي تتكرّس فيه ثنائيّة الصراع بين السلطة والاسلاميّين، لن يتجاوز حدود تكريس العزلة التي تعانيها الحركة الإسلاميّة منذ وأد لجنة التنسيق الحزبي باتفاق ضمني في بداية الحراك.
الحركة الاسلاميّة حاولت تشكيل القطب الرئيس لمختلف الفعاليّات والحراكات الشبابيّة والشعبيّة بعد الطلاق البائن بينها وبين القوى المنظّمة الأخرى، وقد نجح الاسلاميّون إلى حدّ ما في تلك المهمّة التي تتوّجت ب "الفعاليّة الكبرى" في الخامس من شهر تشرين الأوّل الماضي، إلا أن حالة من الانكفاء على الذات اجتاحت المشهد نتيجة تفاقم الخلافات بين القوى الناشئة والحركة الاسلاميّة من جهة، وداخل الحركة نفسها من جهة أخرى.
كما أن تفكيك مكوّنات الجبهة الوطنيّة للإصلاح واقتصار تمثيلها على بعض النخب، كرّس عزلة الاسلاميّين التي يحاول النظام الدفع باتجاه تعزيزها ما أمكن، بعد ان أعلن مرارا وعبر مختلف المحطّات السياسيّة رفضه لأيّة شراكة مع الاسلاميّين، الأمر الذي كشفه أيضاً ما ورد في المقابلة الملكيّة لمجلّة "الاتلانتك"، والتي عبّر فيها الملك عن رفضه لتجاوز الملكيّة المطلقة من خلال شراكة سياسيّة مع حلفاء الأمس.
الإعلان الملكي الصريح -في الرسالة التي حملتها مقابلة "الاتلانتك" لواشنطن- عن رفض تلبية طموح الحركة الاسلاميّة في المشاركة بالسلطة، تعاملت معه الحركة بردّة فعل تنسجم تماماً مع مبدأ "فوق الصفر وتحت التوريط"، حيث لوّح الاسلاميّون بالتصعيد وقرّروا رفع السقف السياسي في مختلف الفعاليّات الاحتجاجيّة، دون تحشيد العضويّة الحزبيّة والإطار الصديق للمشاركة في تلك الفعاليّات، التي اقتصرت على نشطاء الإطار الشبابي للحركة وبعض رموز الحراكات الشعبيّة القريبة -إلى حدّ ما- من الاسلاميّين.
هذا التكتيك جاء إثر إدراك الحركة الإسلاميّة لخطورة المغامرة بخوض معركة كسر العظم مع النظام، من خلال الدفع بكلّ عضويّتها للمشاركة في الاحتجاجات، في الوقت الذي تتفاقم فيه أزمة العزلة التي يعانيها الإسلاميّون.. فتكريس "ثنائيّة الصراع" لن يخدم في نهاية الأمر سوى السلطة، التي ترفض بدورها الاعتراف بأيّة قوّة أخرى في الشارع سوى الحركة الإسلاميّة، وتظنّ أن كبح جماح الإسلاميّين من شأنه أن يكون كافيا لتصفية الحراك.
ومن جهة أخرى فإن القوى اليساريّة والقوميّة التي ترفض تكريس "ثنائيّة الصراع" لم تنجح حتى الآن في تشكيل "البديل الثالث".. ومازال من المبكّر الحكم على نتائج الاجتماع الذي عقد مساء الجمعة تحت شعار "وحدة الشيوعيين"، والذي لا يمكن تجاهل أهميّته -من الناحية النظريّة على الأقل- لفرض معادلة جديدة تخرج الشارع من حالة الثنائيّة التي لا تخدم القوى اليساريّة ولا حتى الإسلاميّين أنفسهم.
أمّا في الجنوب فقد شكّلت محاربة الفساد محور الفعاليّات الاحتجاجيّة التي شهدتها مدن معان والطفيلة ولوائيّ فقوع والمزار الجنوبي في محافظة الكرك، إلاّ أن فعاليّة الطفيلة، التي سلّطت الضوء أيضا على مواجهة مشروع "الوطن البديل"، تميّزت بدمج "زفّة العريس مجدي القبالين" في تلك الفعاليّة، التي لها دلالاتها العميقة فيما يتعلّق باستنهاض الحالة الوطنيّة في مواجهة الولاء المزعوم للسلطة.
وفي النهاية.. فإنّ استنهاض الشارع لبلورة الإطار الشعبي الذي يعبّر عن هذه الحالة الوطنيّة، يتطلّب تجاوز التجربة النخبويّة عبر تفعيل العمل المشترك، بعيداً عن محاولات تكريس "ثنائيّة الصراع"، حيث يفرض الواقع هذه المسألة باعتبارها المهمّة الأساسيّة للقوى المنظّّمة والناشئة على حد سواء.. في حين أن ارتفاع السقف السياسي الذي شهدته فعاليّات الجمعة في جرش واربد والعاصمة عمان ومعظم مدن ومحافظات الجنوب -والذي يحمل رسالة واضحة إلى أركان السلطة- لا يمكن له تحقيق غايته أو الضغط على النظام قبل إنجاز هذه المهمّة الأساسيّة.