بانوراما الحراك.. لعبة الاستعراض ولعنة الفشل
كتب تامر خرمه
بعد طول غياب، عادت الأحزاب القوميّة واليساريّة إلى الشارع في لحظة تعتبر هي الأهمّ منذ انطلاق الربيع الأردني، حيث تجاوز شعار فعاليات الجمعة مطالب تحسين شروط اللعبة الديمقراطيّة وتمهيد الطريق نحو البرلمان، إلى قضيّة ترتبط بسيادة ومصير الدولة الأردنيّة.
"عدنا والعود أحمد"، عبارة كان من الممكن أن تصلح لوصف لسان حال القوى التقدميّة في حال تمكّنت من تحمّل مسؤوليّاتها والقيام بدورها الطبيعي، باعتبارها -من الناحية النظريّة على الأقل- طليعة الشارع الأردني وركيزة المشروع النضالي التحرّري، ولكن إلى أيّ مدى ينطبق هذا الوصف على تلك القوى، التي لا يمكن رغم كلّ شيء التشكيك بضرورة نهضتها وقدرتها على تجاوز ما آل إليه حالها بعد نصف قرن من العزلة.
رفض التواجد العسكري الامريكي وطائرات التجسّس "الاسرائيليّة" على أرض الأردن وفي سمائه، ومناهضة كافة المحاولات التي تستهدف زجّه في الشأن السوري الداخلي وفق الرؤية والمصالح الأمريكيّة، قضيّة تتجاوز المصالح التنظيميّة الذاتيّة لأيّة جهة كانت، بصرف النظر عما يتضمّنه خطابها من مفردات ثورجيّة، فالهويّة الأردنيّة في إطارها العروبي مسألة تتعلق بتاريخ وحاضر ومستقبل الشعب، ولا يوجد أيّ مبرّر لرفض القوى الحزبيّة لكافّة المبادرات الهادفة لتوحيد مسيرتيّ وسط البلد.
القوى الناشئة والحراكات الشبابيّة -التي كانت هي المبادرة في الدعوة لهذه الفعاليّة- قرّرت رفع العلم الأردني دون غيره من الرايات الحزبيّة، واتّفقت على أن يتصدّر المتقاعدون العسكريّون قيادة هذه المسيرة إلى الديوان الملكي، الأمر الذي لم يرق للأحزاب السياسيّة، فقامت بالدعوة إلى فعاليّة مماثلة في نفس المكان، مشترطة على الجميع القبول بقيادتها وحدها لهذه المسيرة، بعيداً عن الديوان الملكي، مقابل "توحيد" المسيرتين !!
قبيل هذه الفعاليّة بادرت بعض الشخصيّات الوطنيّة والحزبيّة إلى محاولات التنسيق بين الحراكات الشبابيّة والقوى الحزبيّة لتنظيم مسيرة موحّدة يتقدّم صفوفها قيادات الأحزاب الوطنيّة إلى جانب المتقاعدين العسكريين، غير أن ائتلاف الأحزاب القوميّة واليساريّة، الذي استند إلى منطق "التقاط اللحظة السياسيّة" لإبراز الذات، رفض الاستجابة لهذه المبادرات، وأصرّ على رفع الرايات الحزبيّة وتوجيه المسيرة -التي لم يكن هو المبادر بالدعوة لها- بعيدا عن الديوان الملكي، كما رفض أن يتقدّم المتقاعدون العسكريون هذه المسيرة رغم أن شعارها يعبّر عن هويّة الجيش العربي.
تقديم الخلافات السياسيّة وملاحظات الأحزاب على ما يطرحه المتقاعدون العسكريّون في خطابهم، كان بالنسبة للائتلاف الحزبي فوق أيّ اعتبار آخر، كما كانت الرايات التنظيميّة هي طريقة هذه القوى الوحيدة في إعلان وجودها، وفقا للمنطق النرجسي الذي بات يهيمن على خطابها وادائها.
وكانت النتيجة انطلاق مسيرتين من ذات المكان، وتحت ذات الشعار، وفشلت الأحزاب مرّة أخرى في الاضطلاع بدورها الطبيعي، وقيادة الشارع نحو تجسيد طموحاته الوطنيّة والقوميّة على أرض الواقع.
كان الأمل معقودا على القوى الحزبيّة لتنظيم مسيرة جماهيريّة حاشدة، يتّحد في صفوفها الأولى قيادات الأحزاب السياسيّة والمتقاعدون العسكريون والشخصيات الوطنيّة تحت ظلّ العلم الأردني، انسجاما مع شعار الفعاليّة وأهدافها، ولكن عشق الذات لكاميرات الإعلام، والخوف من التوجّه إلى الديوان، ونزعة التفرّد في صنع وترجمة القرار، والمنطق الإقصائي الذي لا يحتمل أيّ خلاف سياسي، حالت -كالعادة- دون تمكّن الأحزاب من ترجمة غاية وجودها، وتجسيد كينونتها كركيزة للمجتمع المدني ورافعة لمشروع التحرّر الوطني الديمقراطي.
أمّا القوى الإسلاميّة فباتت لا تتقن سوى لعبة العزف المنفرد، متوهّمة أن تكريس ثنائيّة الصراع بين السلطة و"الاخوان" سيحقّق مصلحتها الذاتيّة، مراهنة في ذلك على التطوّرات الإقليميّة التي أوصلت الاسلاميين إلى السلطة في مصر وتونس، ولكن هل حقّا يمكن لمثل هذه الثنائيّة أن تقود الإسلام السياسي إلى أيّ مكان آخر غير العزلة السياسيّة والاجتماعيّة ؟!
تباين المواقف من الأزمة السوريّة كان أحد الأسباب الجوهريّة لإعلان الطلاق البائن بين الحركة الإسلاميّة من جهة والقوى القوميّة واليساريّة من جهة أخرى، ولكن ألا يشكّل رفض التدخل الخارجي في الشان السوري نقطة التقاء بين قطبيّ النخب السياسيّة ؟ تساؤل كان من الممكن أن تجيب عليه الحركة الاسلاميّة بالفعل لا بالقول في حال عدم تخلّيها عن مسؤوليّتها الوطنيّة تجاه فعاليّة وسط البلد.
وباختصار.. كان المشهد الأردني على النحو التالي.. مسيرة لتنسيقيّة الحراك في اربد بقيادة الحركة الاسلاميّة.. ومسيرة للأحزاب القوميّة واليساريّة انعزلت عن مسيرة الحراكات الشبابيّة والشعبيّة في وسط البلد، وفعاليّات شملت معظم المدن والمحافظات تنديدا بالتواجد العسكري المعادي على الأراضي الأردنيّة، دون أن تتمكّن القوى الكلاسيكيّة من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار من التوحّد على هذا الشعار الذي يتجاوز في أهميّته كلّ ما طرحه الحراك منذ انطلاقته من شعارات إصلاحيّة !!