الفاعلية الأنسانية
يقف الأنسان في الحياة عموما, و الأنسان العربي بصفة خاصة حيال القضايا و الأحداث العامة أمام عتبتين هما: العتبة السفلى التي تعبر عن ذاتها ثقافيا من خلال حاجات الطعام و الشراب و اللباس أي يقف فيها الفرد مشغول بتحقيق أكبر قدر ممكن من تلك المكاسب الشخصية. العتبة الثانية هي العتبة العليا و التي تعبر عن ذاتها ثقافيا من خلال انغماس الفرد في العمل الجماعي مشغولا بتحقيق المكسب الجماعي و مغلبا تلك الصفة على مطمعه الشخصي وما بين العتبتين ينتشر الكثير من الناس سواء نكوصا أو ارتقاء. اذ تقر الحقيقة الاجتماعية التاريخية بأن مقدار ابتعاد الفرد عن الهم الشخصي نحو الهم الجمعي بشكل موضوعي يعبر صراحة عن مقدار ابتعاد الفرد عن السطحية و التسطيح.
تكشف عين المتأمل بالواقع الثقافي العيني و بواقع الفاعلين الاجتماعيين أن الناس و خاصة النخبة يدورون في ثلاث دوائر: أولا, دائرة الحقيقة حيث يلتزم فيها المتعلمون او المثقفون بدورهم الطبيعي التاريخي الاخلاقي المنحاز بصفة كاملة للناس مدافعين عن حقوقهم و كاشفين للحقيقة و مشكلين لوعيهم على أساس تلك الحقيقة. ثانيا, دائرة الهجرة حيث تنقسم الى فئتين, فئة تدرك الحقيقة و لكنها تبتعد عن الشارع العام و تتخلى عن دورها في تشكيل الوعي و اذكاء الهمم و تحبس نفسها مكتفية بالقراءة و الكتابة الذاتية و المونولوجي المدفون خوفا مما قد يلحق بها من الاذى او المضايقات. و الفئة الاخرى تضم اشخاص يتركون أوطانهم و يهاجرون الى بلدان اخرى طلبا للعدالة و الحرية و الحياة الكريمة مبتعدة بذلك بالكامل عن أي فاعلية اجتماعية قد تكون مؤثرة. ثالثا, دائرة التظليل حيث تضم أشخاص يسجنون انفسهم في العتبة السفلى من التفكير أي مهتمين بالحصول على المكاسب الشخصية السطحية من خلال استخدامهم لادواتهم و معارفهم لتشويه لضرب الحقيقة و تشويه الوعي العام بذلك يفقدون نبل دورهم الاخلاقي المدافع عن الناس لصالح طبقة لا تجد امكانية لها للديمومتة و النفوذ الا في الفضاءات العفنة..
قد تختلف الأراء و تتضارب نظرا لاختلاف الأطر المرجعية أي التركيبة الثقافية المعقدة للأفراد في تحديد و ضبط مفهوم "السطحية", الا أنني أرى بأنها تأخذ شكلين هما: 1- التسطيح: و هي عملية واعية أو غير واعية تسعى الى صنع الحقيقة ( المشوهه ) و تكثيف الحمولات الفكرية النظرية حولها باستخدام عدة وسائل كاجهزة الاعلام و غيرها الى أن تصبح عقيدة لدى الناس, و يدخل في هذا الجانب الواعي من عملية التسطيح الدائرة الثالثة - المشوهة للوعي - المذكروة سابقا, أما الجانب غير الواعي للتسطيح فيدور في فلكه المهاجرون داخليا و خارجيا مما يتركون للمشوهين و" أنصاف المتعلمين" مهمة تشكيل الوعي. 2- الشكل الأيديولوجي: اذ يعد من أخطر الأشكال تأثيرا في زماننا حيث يسعى المنتسبون له بسجن عقولهم في رؤية محددة و كذلك سعيهم الى تنميط الواقع و نمذجته و خنقه في تلك الرؤية. و بذا فان هذا العقل لا يقبل بالتمدد المعرفي أو كل ما يقع خارج ايديولوجيته, و يرفض أن يسمع الا خطابه الخاص و يطالب الأخرين بضرورة التمسك بما يقدمه من أفكار و رؤى على أساس ايمانه العقدي بأنها الاكثر فاعلية في تفسير الواقع و علاقاته المعقدة و توفير الحياة الأكثر رفاهية و شعورا بقيمة الانسان و كرامته.
تقر التجربة الأنسانية – كما ذكر العديد من الدارسين - بأن ما يقع من أحداث مرهون بالشروط التاريخية المباشرة حيث لا يقع خارج تلك الحتمية التاريخية الا المعجزات الالهية. أي أن الفكرة لكي تظهر على السطح و تصبح ذات فاعلية لابد أن تتوفر لها بئية ثقافية حاضنة لشروطها العينية المباشرة. اذ أن بروز ظاهرة السعي نحو العقلانية لا تكون الا بعد سيطرة الفكر الحرفي, و سطوع نجم المطالبة بالعدل يكون حين تمتد أيدي الظلم و تطال كل شيء, و يكون نهوض الناس في وجه الحاكم حين يشيع فساده و يصبح ظاهرة مدركة. اذ ان الواقع السيء بحد ذاته غير كاف لكي ينهض الناس الى تغييره اذا لم يتوفر وعي بحقيقة هذا الواقع و هذا بالضبط ما يفسر أهمية دور النخبة و المتعلمين في مجتمعاتهم, و يفسر خطورة عمليات تشويه الوعي العام المقصودة و الغير مقصودة. و لابد من الاشارة هنا, أن هذه الرؤية لا تعني أن الانسان بكل ممارساته يمثل انعكاس أو رد فعل سلبي لما يجري في الواقع بحيث لا يكون له دور في تشكيل الواقع و تحويل مساراته مما يعدم أهمية التخطيط للمستقبل و امكانية التنبؤ به. بل أن هذه الرؤية تؤمن صراحة بأن الانسان هو نفسه صانع لذلك الواقع سواء المنتكس أم الواقع المجابه لحالة الانتكاس ضمن الشروط التاريخية المباشرة التي صنعها الانسان ذاته. و من الجدير بالذكر, أن تلك الفاعلية الانسانية لا تتناقض مع ما نؤمن به دينيا بأن الارادة الالهية هي الفاعلة المطلقة في كل ما يجري حيث زودت الانسان بكل ما يلزمه ليكون خليفته في الارض و قررت حتمية الانتصار للحق مرهونا بفاعلية الانسان و قدرته على تحويل الشروط التاريخية المباشرة لصالح ذلك الحق..
ختاما, ان الواقع بكل شروطه المباشرة يلح على ضرورة تبني المنهج العلمي النقدي في محاورة الواقع بكل ما يزخر به من جانب, و التراث العربي الاسلامي الحي بشكل أقرب الى النقدية العلمية منها الى التبجيلية التقليدية من جانب ثان, و الوحي المقدس – القران الكريم و السنة النبوية الصحيحة- الذي يعد أهم مؤثر و فاعل في كل شؤون حياتنا كمسلمين ملة و عرب قومية. و من البديهي, أن هذا النهج في التفكير يقوم على أساس القطيعة الكاملة مع كل صور الحصار على قيم التسامح, و الحوار الهادىء, و الحرية المنضبطة مما سيكون معولا صلبا يهدم أركان السطحية المعرفية بشكليها التسطيحي و الايديولوجي الدوغمائي و يؤسس لمجتمع ينهض على المعرفة تشكل فيه القواعد الضابطة و الناظمة للمسلكيات الشعبية اليومية العامة.
عامر أحمد درادكة