اطلاله على التراث
تلتفت أنظار الأنسان العربي المسلم – سواء بصفة فردية أم بصورة جماعية- نحو التراث الضخم كي يفك اغلال سجن الاغتراب في واقع يجد نفسه فيه متخلفا بكل المجالات و المستويات الحياتية أمام الأخر الذي يتقدم عليه كثيرا, و يسيطر على العالم بأسره مما دفعه الى التخلص من حالته المتردية بايجاد سند تراثي في ثقافته العريقة مستعينا بها لكي يحل مشاكله الراهنة و ينهض على أساس قوي مدعم بتاريخ أصيل زاخر. و بذلك تتركز أهمية التراث العربي الاسلامي و وظيفته في تقويض الشعور بالاغتراب, و ربط الماضي بالحاضر, و بناء مشروع نهضوي فاعل في أداء مهمتي التثوير و التغيير على نحو يحقق التقدم. و تتجلى أهمية العودة الى التراث و استلهامه في الثقافة العربية الاسلامية لما للدين من دور جوهري في تشكله و تشكيله منذ عهد النبوة الى الوقت الحالي.
تختلف – بطبيعة الحال – الية عمل العقل الانساني أي الأسس و القنوات الذهنية الناظرة في الموقف أو الفكرة أو الحالة بقصد الفهم أولا, و استثمار ذاك الفهم لتحقيق غايات معينة ثانيا, و هذا الاختلاف هو الذي يفسر التباينات المتنوعة حيال الفكرة الواحدة. ان هذا القانون الطبيعي في المجتمع البشري أدى تأثيره الى وجود تنوعان في كيفية النظر الى التراث العربي الاسلامي نظرا لتباين الأطر المرجعية- الاجتماعية, و الثقافية, و المعرفية- المكونة لكل منهما. يمثل التنوع الأول "التراث المقدس", و يمثل الأخر "التراث الانساني" المتطرف و الاعتدالي.
يقوم تيار التراث المقدس على وضع التراث بدرجة متساوية في صفة القدسية مع الوحي الالهي ( القران الكريم و السنة الصحيحة ) على اعتبار أن التراث ناتج عنه و متأثرا به هذا من جانب. و من جانب أخر, ان اللغة العربية التي كتب بها التراث أعطته صفة القدسية لما لهذه اللغة من أهمية كبيرة في التعبير عن الوحي, و عن هوية الامة و نفسيتها. فما قام به علماء المسلمون من اسهامات في كافة جوانب الحياة – العقدية, و السياسية, و الاجتماعية, و الاقتصادية و غيرها – هو ناتج من الوحي المقدس و مكتوبا بلغته لذلك يتساوى معه في صفة القدسية التي تعطيه الأهلية بأن يعاد تطبيقه في كل زمان و مكان دون أي تغيير أو تبديل.
ان النظرة المقدسة للتراث العربي الاسلامي – كما الوحي –قادت و ما زالت تقود الى انتاج أنماط ذهنية متعددة تتمثل أولا, بالذهنية السكونية اللاتاريخية حيث ترى التاريخ على أنه صيرورة واحدة لا تطالها أيدي التغيير اذ ان القرن الأول الهجري بكل ظروفه التاريخية لا تختلف عن القرن الواحد و العشرين مما يجعل قانون ذاك الزمن بكل تفاصيله صالحا لضبط الحياة في هذا الزمن. و تقود هذه الذهنية الى الذهنية الأبدية أي اضفاء صفة الاستمرارية الابدية بصيغة مقدسة تبجيلية على الاحكام و القواعد النسبية المتغيرة. و قد لا يخفى أن الذهنيتين السابقتين تقودان بلا أدنى شك الى اللانسانية أي تعطيل فاعلية الأنسان و عقله في التفاعل مع الواقع و النص من جهة, و سجنه بصورة أبدية سلبية في الذهنية النقلية التكرارية المحضة من جهة أخرى.
لعل من أوضح الأمثلة الشاهدة على رؤية التراث المقدس و الياتها الذهنية الفاعلة ظهور تيار – داخل المجتمعات العربية و الاسلامية خاصة بعد انشاء أتاورك دولة تركيا الحديثة – مؤمنا أن فكرة الخلافة الماثلة في التاريخ الاسلامي فكرة مقدسة تدخل في قلب النظام الاسلامي السياسي بحيث تعد صالحة لكل زمان مما يجعلها عصية على التغيير أو التبديل. و ليس للانسان المسلم الا أن يطبقها و لا ينحرف الى غيرها فيكون بذلك قد انحرف عن ما أقره الوحي و عمل به الأوائل. اعتقد ان هذه الرؤية ممثلة بلاتاريخيتها, و لا انسانيتها, و أبديتها – رؤية متطرفة أدت عمليا الى انتعاش ما أسميه التراث الانساني" بشكليه المتطرف و المعتدل كفكر يقف على الطرف الأخر.
تقوم رؤية التراث الأنساني على الفاعلية الانسانية في انتاج الأفكار و صنع المواقف و الأحداث من خلال تفاعل الانسان مع شروط الزمان و المكان الديناميكية. أي أن ما قام به العرب المسلمون – سواء علماء أم حكاما أم عامة – بحيث شكل منظومة معقدة مركبة من العلوم باختلافها, و الصناعات و الحرف بتنوعاتها, و شبكة القيم و العادات و التقاليد الموجهة للحياة الاجتماعية – يعد حصيلة افهامات بشرية تشكلت ضمن معطيات الواقع المعاش و بذلك فان التراث منجز تاريخي لا يحمل كما الوحي الالهي صفة القدسية و ما يترتب عليها من ذهنيات حيث يقر هذا التوجه صراحة بدور الانسان الفاعل فيه, و بتأثير التاريخ في تشكيله و بخضوعه لمنطق الزمن القابل للتغيير المستمر. و لا شك أن أن هذه الرؤية تدعو الى فتح الابواب واسعة لاجراء الحفريات المعرفية و النقدية في التراث و اخراجه بشكل حي في الواقع المعاصر و ليس الاكتفاء فقط باحياءه عن طريق اظهاره بشكله الاصلي – دون تفكيك بيئته التاريخية - عبر أدوات النشر الحديثة المختلفة.
يتضح من المواقف الحديثة و المعاصرة تجاه التراث و طريقة فهمه أن التراث الانساني ينقسم الى شكلين أولا, التراث الانساني المتطرف أو السكوني الذي لا يظهر بشكل علني صريح انما يمكن استنباطه من خلال مواقفه من التراث و طريقة استعانته به في فهم الواقع و حل القضايا المعاصرة. يرى هذا التيار أن التراث العربي الاسلامي تراث انساني بالكامل نتج عن صراع و فهم الانسان المسلم مع الواقع الذي يعيش فيه و ليس لغير الواقع كالوحي الالهي مثلا أي سلطان بارز في تشكيله مما يكمن موقفهم بالقطيعة الكاملة بين الحاضر و ذاك التراث الذي انتج في زمان غير زماننا و لا يلعب أي دور في تشكيل واقعنا أو المساهمة في حل مشاكله. يتجلى ذلك بشكل بارز في عدة مواقف من أهمها الرفض المطلق لفكرة أن الاسلام قدم تعليمات أو قواعد تخص أصول الحكم و شؤون سياسة الأمة و حصره – أي الدين - فقط في دائرة العقائد و العبادات. و تأسيسا على ذلك, فان هذا التوجه المتطرف لا يرى أي علاقة أو تأثير للوحي في بناء النظام السياسي التراثي في عصور الخلافة الاسلامية المختلفة, و ما النظام السياسي التراثي ألا منجز انساني تاريخي محض يشكله الانسان استجابة لتجربته و حاجات واقعه و متطلباته.
أما الشكل الأخر فيمثل التراث الأنساني الاعتدالي الذي يقر بدور الانسان و التاريخ الفاعل ضمن الكليات الكبرى التي حددها الوحي الالهي في بناء التراث. ان التراث – حسب هذه الرؤية – يكون حصيلة تفاعل بين ثلاثة أطراف هي : الوحي المقدس, و الانسان, و الواقع بكل ظروفه حيث يعترف بتأثير الوحي و شموله على الجوانب الدينية و الدنيوية هذا من جهة, و يعترف من جهة أخرى بارادة الانسان و تفاعله مع واقعه التاريخي. ان هذا التيار أكثر التيارات الناظرة في التراث اتزانا و اعتدالا في تفسيراته و مواقفه حيث يقف في نقطة جامعة بين الماضي و الحاضر, و بين المقدس و الانساني. و قد تتضح فلسفته بصورة جلية في اعتقاده بأن الاسلام يمثل الدين و الدولة معا حيث يمثل الجانب الديني بتقديمه التصور الروحي من عقائد و عبادات و غيرها, و يمثل الجانب الدنيوي بتقديمه المخطط المعياري العام و يترك فراغا يغطيه الانسان من تجاربه و خبراته المتغيرة وفقا للمعطيات المباشرة للواقع – الاجتماعية و الثقافية و المعرفية – في الازمنة و الاماكن المختلفة.
ختاما, يقوم التراث المقدس على أساس الوحدة الكاملة و المطابقة بشكل دائم بين الوجود و نظرية المعرفة, و ان الوجود هو المصدر الأوحد للمعرفة و ما دور الانسان الا في التلقي و حسن التطبيق. بينما يؤمن التراث الانساني المتطرف أن الوجود محدد بنظرية المعرفة التي تشكله بكامله و تطبعه بطابعها. أما النهج الاعتدالي في النظر للتراث, يرى أن نظرية المعرفة محددة وجوديا بحيث أن الوجود يقدم القواعد الكلية التي تضبط نظرية المعرفة و تحددها. و بذلك تضمن التوازن بين الوجود و ضوابطه, و بين الانسان و متغيراته مما يوجد حالة أكثر انسجاما مع الواقع و التراث و الوحي المقدس.