شمول أعضاء مجلس الأمة بالضمان: السلامة الدستورية مقابل الغايات السياسية
د. خالد العدوان
جو 24 :
بعيدا عن التجاذبات بشتى أنواعها والتي رافقت مسألة احتساب عضوية أعضاء مجلس الأمة وخضوعها للضمان الاجتماعي، أود ان ابين في هذا السياق مسألة هامة، وهي أن هذا الموضوع بعيدا عن موقف الحكومة والنواب، او موقف مجلس الأعيان منه، فهو يخضع لمسألتين حاكمتين لاتخاذ أي موقف تشريعي بإضافة هذه المادة إلى مشروع القانون المعدل لقانون الضمان الاجتماعي، وهما:
الأولى: فلسفة الانحراف التشريعي
الثانية: قرارات المجلس العالي لتفسير الدستور بخصوص صلاحية مجلس الامة في التعديلات على مشاريع القوانين المحالة من الحكومة.
ويمكنني ان أتناول الموضوع على النحو التالي:
إن بواعث المشرّع ومدى ملاءمة التشريع مسألة سياسية بامتياز ولا تخضع لرقابة القضاء أو المحكمة الدستورية بإجماع الفقه، حيث إن مرامي التشريع وبواعثه وملاءمته تخرج عن نطاق رقابة القضاء، بينما غايات التشريع (المصلحة العامة) تخضع للرقابة القضائية جنبا إلى جنب مع الرقابة البرلمانية، لأنها تتعلق بالمصلحة العامة، الأمر الذي يتيح حيزًا خصبًا لإعمال الرقابة البرلمانية ومساءلة الحكومة في هذا السياق، وهذه النقطة من الممكن أن تعزّز من رقابة البرلمان السياسية على أعمال الحكومة لخروجها حكمًا من نطاق رقابة القضاء، وهنا يكمن البعد السياسي لرقابة البرلمان دون التأثر بالشكل القانوني الذي يُغلِّف القانون المؤقت.
ويشير الفقيه الدستوري يحي الجمل – رحمه الله - ( في كتابه : القضاء الدستوري في مصر، القاهرة، دار النهضة العربية ، 2000) .حيث إن البواعث تعتبر من الملاءمات المتروكة للمشرِّع والتي لا يمكن أن تخضع للرقابة القضائية على اختلاف أنواعها، وقصارى الأمر أنه يتعلق بالجانب السياسي في الحكم وبأهداف الأحزاب أو التنظيمات السياسية وفلسفتها واتجاهاتها، ومثل ذلك يدخل في باب المواءمات والملاءمات التي لا تخضع للرقابة الدستورية. وإذا كان هذا شأن البواعث فإنه ليس من شأن الغايات التي يجب أن تكون دائمًا تحقيق المصلحة العامة للجماعة، ومن ثم فإنه إذا كان من المتفق عليه أن ملاءمة التشريع وبواعثه لا تخضع لأية رقابة قضائية فإن غاية التشريع على العكس من ذلك تخضع لرقابة القضاء الدستوري، فإن انحرف المشرع عن هذه الغاية – المصلحة العامة للجماعة – إلى غايات أخرى تجانب هذه المصلحة فإن تصرف ذلك يسمه بوسم الانحراف بسلطة التشريع لغير ما وضعت له. ولا شبهة في أن البواعث تؤثر على الغايات ولكن الرقابة الدستورية تنصرف إلى الغايات دون البواعث، ذلك أن البحث في البواعث ينصرف إلى النوايا وهي أمر يخرج عن إمكانية التقدير الموضوعي. وقد اجتهد الفقه في محاولة إيجاد معيار موضوعي يقيس عليه الغاية من التشريع، وهذا المعيار على الرغم من عموميته وما قد يثور حوله من اختلاف في الاجتهاد هو معيار المصلحة العامة للجماعة في وقت معين.
وترتيبا على ما تقدم، فإن إضافة بند شمول أعضاء مجلس الأمة بالضمان الاجتماعي يُخشى معه الوقوع في أتون هذه الفكرة، ولا بد بالتالي من البحث عن مخرج حتى لا يُفهم أن التشريع خاص لا عام.
أما المسألة الثانية وهي حدود صلاحيات مجلس الامة في التعديل على مشاريع القوانين المحالة اليها من الحكومة، فيمكن الاتكاء على العديد من قرارات المجلس العالي لتفسير الدستور التي تناولت الموضوع واستقرت فقهيا على أن: التعديل الذي يحق لمجلس النواب ممارسته ينحصر في حدود احكام مشروع القانون واهدافه ومراميه، وهو ذلك التعديل الذي لا يتضمن اضافة احكام جديدة لا صلة لها بموضوع المشروع او الهدف الذي وُضع من اجله، وهذا هو المدلول المحدد لمعنى التعديل الذي يحق لمجلس النواب ادخاله على المشروع. وربما هو الأمر الذي أثاره معالي عبد الكريم الدغمي في جلسة الاحد واعتبره غير دستوري. لإن إضافة هذا البند الذي لم يكن في مشروع القانون أصلا عندما ارسلته الحكومة، وهذه الإضافة تعني خروجا عن حدود احكام مشروع القانون.
ومن أهم هذه القرارات:
أولا/ قرار رقم (1) لسنة 1999 والصادر عن المجلس العالي لتفسير الدستور(قرار رقم 1 لسنة 1999 ( بالاجماع) والمنشور في عدد الجريدة الرسمية رقم 4342 )
وكان موضوعه بيان صلاحية مجلس النواب في تقديم اقتراحات جديدة على المواد المختلف عليها عند اعادتها من مجلس الاعيان، من حيث الاصرار على موقفه، أو تأييد قرار مجلس الاعيان.
لقد حدد هذا القرار مسألتين : الاولى، والتي تكررت مع القرارين التفسيريين رقم 1 لسنة 1974 ورقم 1 لسنة 1955 والباحثة في حدود صلاحية مجلس النواب في تعديل مشاريع القوانين بشكل عام، حيث أشار القرار الى ان التعديل الذي يحق لمجلس النواب ممارسته ينحصر في حدود احكام مشروع القانون واهدافه ومراميه، وهو ذلك التعديل الذي لا يتضمن اضافة احكاما جديدة لا صلة لها بموضوع المشروع او الهدف الذي وُضع من اجله، وهذا هو المدلول المحدد لمعنى التعديل الذي يحق لمجلس النواب ادخاله على المشروع.
والثانية، ان القرار قّيد صلاحية مجلس النواب في حالة اعادة مشروع القانون اليه معدلا من مجلس الاعيان، حيث لا يجوز لمجلس النواب ان يقوم باجراء تعديلات جديدة على مشروع القانون الذي سبق وان وافق عليه وأبدى رأيه فيها، وذلك بعد اعادته من مجلس الاعيان، وانما يقتصر دوره اما الموافقة على ما ورد من مجلس الاعيان، أو الاصرار على قراره الاول، وفي حالة اصرار مجلس النواب على رأيه يُعاد المشروع الى مجلس الاعيان الذي له حق الموافقة على ما ورد بقرار مجلس النواب، أو الاصرار على قراره السابق، وفي هذه الحالة تطبق المادة 92 من الدستور( الجلسة المشتركة). ومن ثم فان المادتين 91 و 92 من الدستور لا تجيزان لمجلس النواب عند اعادة مشروع القانون اليه معدلا من مجلس الاعيان ان يُقدم اقتراحات جديدة على المواد المختلف عليها، وبالضرورة غيرها(مشاريع القوانين الاخرى)،وينحصر حقه اما بالموافقة على ما ورد بقرار مجلس الاعيان او الاصرار على رأيه السابق.
ثانيا/ قرار رقم (1) لسنة 1974 والصادر عن المجلس العالي لتفسير الدستور (قرار رقم 1 لسنة 1974 ( بالاجماع) والمنشور في عدد الجريدة الرسمية رقم 2486 تاريخ 16/4/1974.)
وموضوعه بيان حدود صلاحيات مجلس النواب في تعديل مشروع القانون الوارد اليه من الحكومة. إذ قرر المجلس العالي أن التعديل الذي يحق لمجلس النواب ادخاله على مشروع اي قانون يعرض عليه من الحكومة هو التعديل الذي ينحصر في حدود احكام المشروع وفي نطاق اهدافه ومراميه سواء اكان ذلك بالزيادة او النقصان، وانه لا يجوز أن يتناول التعديل احكاما جديدة لا صلة لها بالغايات التي وضع المشروع من اجلها، ومن ذلك يتضح ان التعديل الذي يملك مجلس النواب ادخاله على مشروع اي قانون تعرضه الحكومة عليه يجب أن ينحصر في حدود احكام المشروع ومراميه.
ثالثا/ قرار المجلس العالي لتفسير الدستور رقم 1 لسنة 1955 (والمنشور في عدد الجريدة الرسمية رقم 1211 تاريخ 1/2/1955) والذي اكد على انه لا يحق لمجلس النواب في تعديل مشروع القانون أن يضع احكام قانونية جديدة وان التعديل ينحصر في النواحي والغايات التي وضع المشروع من اجلها، والا اصبح تجاوزا على حق السلطة التنفيذية في وضع مشروع القانون، وهذا هو المقصود بالتعديل المنصوص عليه في المادة 91 من الدستور.
وعلى هدي ما تقدم، فإن مسألة احتساب العضوية في الضمان الاجتماعي، وإن كنا نقدر ونحترم موقف مجلس النواب والحكومة من غايات هذا الطرح ومراميه السياسية، إلا أن السلامة الدستورية لا بد أن تكون هي الفيصل في هذه الحالة، وكان اجدر على الحكومة ان تقدم المشروع المعدل متضمنا هذا البند، لا أن يقوم مجلس النواب بهذا الدور ويظهر بهذا الشكل أمام الرأي العام. فالسلامة الدستورية والاتساق في المشروعية هي الأساس الصلب الذي يتوجب ان يكون عليها التشريع. وعلى الجانب الآخر، يمكن إضافة ما يجري من عبارة النائب المحترم الأستاذ حازم المجالي التي لخصت المشهد برمته حينما قال أن النظرة السلبية لأداء المجلس هي التي تحكم نظرة المواطنين للمجلس وما يصدر عنه. ولو كان هنالك حالة رضى عن الأداء النيابي لما حدث مثل هذا الجدل وبهذا الشكل.
اعتقد ختاما ان الموضوع كان بحاجة إلى إخراج سياسي ودستوري؛ أي يراعي الشكل الدستوري من ناحية، ويحافظ على صورة المجلس أمام الرأي العام والتي تعاني أصلا من مشكله من ناحية أخرى. وهنا تكمن البراعة السياسية. فلا خلاف حول أهمية الاعتبارات السياسية إلا أن الاتساق مع الدستورية إلى جانب الغايات السياسية هي المخرج الذي يوفر عناء الاشتباك سواء بين غرفتي التشريع أو مع الرأي العام.