حفلة تنكريّة سقيمة !
كتب د. حسن البراري - وكأننا في حفلة تنكرية إذ من الصعوبة بمكان أن تتعرف على أي شخص إلا بعد عملية تمحيص مضنية وبخاصة إذا كان المتنكرون ماهرين. لكن ثمة متعة عندما يتمكن الواحد من كشف الشخصيات رغم مهارتها في التنكر والاختباء ، احيانا لا يحصل ذلك إلا عند نهاية الحفلة التنكرية . في الأردن الأمر مختلف تماما ، فلا حاجة للتنكر فوجوه البعض تخفي ما لا قبل لنا بكشفه ابدا ، وعيونهم يسبح بها مليون تعبير وتعبير لا يسمح لك تداخلها وتشابكها بقراءة سطر واحد او موقف واحد او رد فعل واحد. اما البعض الاخر فمكشوف حد الفضيحة ، ولن تنجح معه كل اساليب التنكر والتقمص والتمثيل . فهو اوضح للناس واكثر قالبية للقراءة من اي شئ آخر .
عدد من النواب (87) نائبا وقعوا يوم الأحد على مذكرة حجب الثقة عن حكومة الدكتور عبدالله النسور بحجة أن الحكومة تتلكأ في ترجمة اجماع مجلس النواب القاضي بضرورة طرد السفير الاسرائيلي واستدعاء السفير الاردني في تل أبيب،نعرف ان عددا محدودا جدا من الموقعين مستعد للذهاب بعيدا حد اسقاط الحكومة، ولكن نظن ان الغالبية وقعت تحت وطأة الحماس او الغضب وهذا سرعان ما يزول، لذلك تابعنا عمليات سحب التواقيع التي حدثت والتي تعكس حالة الانكشاف الكبيرة التي يعاني منها اعضاء في مجلس النواب ناهيك عن تيار المستوزرين في المجلس، وهؤلاء هم اول المنكشفين في الحفلة التنكرية اياها.
هناك رأيان سائدان في الاردن بخصوص الدوافع الحقيقية لمحاولة اسقاط حكومة النسور. فالتيار الأول يرى أن النسور مستهدف من قبل قوى الحرس القديم الذين فقدوا دورهم في هذا المجلس وهم غير مستعدين للتواري في الظل. فموقف هؤلاء شخصي يأتي في سياق لعبة تصفية الحسابات مع شخصيات داخل "السيستم". ويرى اصحاب هذا الموقف أن المرحلة لا تحتمل مناكفات وخاصة أن الحكومة على وشك التعامل مع تحديات جسيمة منها داخلية مثل رفع اسعار الكهرباء واخرى خارجية متعلقة بالازمة السورية. ويطالب عدد من اصحاب هذا التيار أن يتم التدخل على أعلى مستوى لحماية الحكومة وفريقها لنهاية العام حتى تنجلي الأمور وعندها لكل حادث حديث. باختصار، هذا الرأي يذهب إلى القول بأن موضوع طرد السفير ما هو إلا حصان طروادة لاسقاط الحكومة بأي شكل من الاشكال وبصرف النظر عن العواقب والمآلات من قبل تيار تقليدي يراد له ان يترجل مرة وللأبد.
الفريق الثاني يضع الأمور باطار مختلف، فهذه حكومة ضعيفة، تسعى لتنفيذ برامج غير وطنية منها التجنيس توطئة للوطن البديل، وهي حكومة لا تمتلك برنامجا اقتصاديا واجتماعيا يمكن له اخراج البلد من عنق الزجاجة، ولا تمتلك رؤية سياسية او اصلاحية. وأكثر من ذلك هناك من يتحدث عن فزاعات لها أول وليس لها آخر، لكن الاهم ان هذه الحكومة تمثل استمرارا لنهج سيعجل من نهاية الاردن الذي نعرف، ليتحول الى شكل آخر وبخاصة في حالة انضاج الشروط الاقليمية لتسوية على حساب الاردن. هذا التيار له فكر مستقل ويرى أن القضية ابعد من مناورة نيابية وتمس جوهر الدولة الاردنية.
الاصطفافات النيابية بشأن موضوع الثقة أو سحبها معقدة ومركبة وتنطوي على ما هو شخصي وما هو وطني وما هو سياسي حتى داخل الفريق الواحد، وظهر ذلك جليا بفشل الكتل النيابية في خلق انسجام أو حتى موقف سياسي موحد حيال القضايا الكبرى التي تهم المواطن. وعود على بدء نقول أنه من الصعب التعرف على موقف النواب حتى اللحظة الاخيرة لأن هذا العدد الذي وقع على مذكرة حجب الثقة كفيل باسقاط الحكومة باريحية ومن دون معاناة. ومع ذلك يمكن ان يحدث انزال رسمي في هذه الاثناء ليضعف تيار الحجب ويصبح غير كاف لاسقاط الحكومة، ويرى الكثيرون أن الرسميين قادرين مرة أخرى على مساعدة النسور في تجاوز مطب حجب الثقة حتى لو بقي بطة عرجاء.
بقي أن نقول أن العملية الديمقراطية لا تشيطن من يريد الحجب ولا يمكن التقليل من أثر الاحباط العام الذي ينعكس على مواقف النواب. فالذين يقللون من شأن محاولة حجب الثقة على اعتبار ان ثمة توظيف لقصة السفير وكأنها قميص عثمان لا يعرفون أن هذا الأمر يحدث في الديمقراطيات إن كان ذلك يخدم برنامجا آخرا لا يمكن تأطير اغلبية لصالحه.
ما من شك أن النسور سيدفع ثمنا باهظا لقبوله الاشتراك في لعبة "اصلاحات" غير مكتملة وناقصة ومشوهة، وهذا هو مربط الفرس ولا يجوز أن نقزم الاشياء على اعتبار ان ما يجري ما هو الا عدد من رجالات الدولة الذين فقدوا مواقعهم والان يناكفون. المستهدف ليس النسور كشخص، فلعبة شد الحبل بين الحكومة وجزء من مجلس النواب ما هي الا سحابة دخان تخفي خلفها فشل الدولة الذريع في ايجاد مقاربة اصلاحية شاملة لا تقصي احدا.