مقاومة النكبة المستمرة
كيف تكتب عن ذكرى هي ليست بذكرى بل واقع مستمر؟ ذكرى تأبى أن تكون ذكرى، بل تهددنا أن تكون المستقبل؛ لأن التحدي أن تبقى ذكرى، وأن لا تصبح خنوعاً للهزيمة بل تجديداً للمقاومة والأمل.
حفظ الذاكرة الفردية والجماعية، بكل تفاصيلها الكبيرة والصغيرة، هي بداية الفكر المقاوم واستفزاز للفعل المقاوم، ليس غرقاً في ندب المأساة- وإن كان يحق للفلسطيني أن يذرف دموع وجع الفقدان، فالجرح لا يندمل بل يزداد عمقاً؛ لأن الحفاظ على الرواية التاريخية هي نقطة البدء والنهاية للصراع.
الفكرة الصهيونية، لا تعتمد فقط على احتلال الأرض واقتلاع شعب، بل على اقتلاع الذاكرة ومصادرة الرواية، أو كما يقول المؤرخ إيلان بابيه، الذي نبذ الهوية الصهيونية التي فُرِضت عليه بحكم كونه نما يهودياً على أرض فلسطين، أن نجاح الصهيونية يعتمد على "مجزرة إبادة للذاكرة الفلسطينية".
مؤسسو الحركة الصهيونية من قبل وبعد ثيودور هيرتزل، أيقنوا أهمية خلق رواية تمهد وتشرع لتأسيس "دولة يهودية" على ارض فلسطين التاريخية، بدءا من مقولة "ارض بلا شعب لشعب بلا أرض"؛ فالسكان الأصليون ، من عرب مسلمين ومسيحيين، بمن في ذلك اليهود، كان لا بد أن يبقوا غير مرئيين للعالم- لا وجود فيه لتاريخ أو بشر خارج إطار أسطورة "الوطن الموعود لشعب الله المختار".
الرواية الصهيونية تخللتها تعديلات طفيفة في "إنكار الآخر " ، الذي يصبح "كائناً همجيا " ، تم العثور عليه بالصدفة، ويجب تنظيف الأرض الموعودة منه،أو إرهابياً يجب احتواؤه ومحاصرته وقتله عندما يجرؤ على الظهور والمقاومة – ففكرة الاستعمار لا تختلف كثيراً من استعمار لآخر، فباسم الحضارة جرت محاولة إبادة الهنود الحمر إلى محاولة رمي الفلسطيني خارج التاريخ.
مقاومة الشعب الفلسطيني، بكل تراجعاتها وانتكاساتها، أجبرت الصهيوني، على ابتكار أدوات متجددة من حصار واجتياح إلى اغتيال وأسر وعقاب جماعي وتدمير، وحتى إلى مفاوضات وتوقيع معاهدات، ولكن إن كانت حرباً أو سلماً، فان الأهداف لم تتغير ، فالاحتلال والتوسع يتطلب قتل الرواية، لأن في قتل الرواية إخفاء للجريمة وقتلا للحقوق.
إن إصرار بنيامين نتنياهو، على الاعتراف الفلسطيني والعربي "بيهودية الدولة" هو ليس مطلباً تكتيكياً أو مناورة للتهرب من استحقاقات ، مهما كانت هامشية، الدخول في مفاوضات عبثية، بل هو مطلب يصب في جوهر شروط إنهاء الصراع - إذ أن الاعتراف بيهودية الدولة هو تحقيق للنصر النهائي لا تستطيع القوة العسكرية وحدها، مهما كان حجمها، تحقيقه.
الاعتراف بيهودية الدولة يعني تحويل أساطير الصهيونية إلى حقيقة يتبناها الفلسطيني، يلغي من خلالها تاريخه، وجذوره في الأرض و امتداده العربي، وينكر حقوقه وإنسانيته، و يقبل بوجوده "كغريب" مستجد لبقائه على أرض ليست له، ضمن سيناريو قد يسمى تزييفاً "دولة فلسطينية"، فتوصيف فلسطيني، يتوقف عن كونه تحديا لشرعية الصهيونية، بل خدمة لها بعد أن يُجرى تفريغه من مضمونه، وكأنه عنوان لجناح فصيلة منقرضة، في متنزه تسلية، يأتيه السياح والفضوليون.
فالمعركة ليست مسألة موجهة عسكرية ، ولا حتى مقاومة مسلحة- وإن كانت المقاومة المسلحة حقا للفلسطيني-وإنما صراع مميت حول الرواية التاريخية وأساسها حفظ الذاكرة.
فلماذا تشترط إسرائيل تغيير المناهج الفلسطينية والعربية؟ ولِمَ يتم حذف مادة القضية الفلسطينية كجزء من معاهدات واتفاقات السلام؟ ولِم َتتم السطوة الإسرائيلية على كل شيء من الحُمص والزعتر إلى الثوب الفلسطيني، ولا يُجرى الاكتفاء في سرقة الأرض؟
لِم َتشترط إسرائيل وبكل عنجهيتها على الفلسطينيين والعرب التطبيع ؟فالتطبيع يعني قبول الاستعمار الإسرائيلي كحالة طبيعية، جغرافيا وتاريخياً، ولذا يُجرى تغييب ممنهج بالقضية الفلسطينية في الوعي العربي.
هذه شروط النصر النهائي للفكرة الصهيونية والهزيمة النهائية للقضية : وإلى من يستخف بكل ذلك، فإن قتل الرواية الفلسطينية لا يبقي لأية حقوق عربية ، غير فلسطينية، ومن سيادة شيئاً يذكر، لأن الرواية الصهيونية تتعدى حقوقا مزعومة في ارض فلسطين ، من مياه وثروات، فهي لا تعترف بأية رواية عربية رسمية أو شعبية.
فإضعاف الذاكرة تمهيدا لوأدها، هو بالنهاية ضرورة لاستمرار النكبة ، واقعا ومستقبلاً، لكن أهمية الذاكرة تكمن في قدرتها على تشكيل الوعي المقاوم، وما الهزيمة، إلا بالتخلي عن المقاومة وبالتالي عن الحقوق، لأن لا نجاح للمشروع الصهيوني إلا بإنهاء حق العودة، ولا يمكن إنهاء حق العودة إلا بإبادة الذاكرة وقتل الرواية- فنقاوم معاً قتل الذاكرة ولتكن ذكرى النكبة إحياء للرواية ليس تأبيناً لها.العرب اليوم