مدارس الصّبر
د. محمد الزغول
جو 24 :
في خريف عام 1996، عُيِّنتُ مُعلمًا في وزارة التربية والتعليم الأردنية. اختلطت مشاعر الفرح والخوف والترقب في رأسي مثل زوبعة مفاجئة عندما قرأت اسمي في "جريدة الرأي" في قائمة التعيينات بعد انتظار دام أكثر من سنتين. كيف لا، وقد صار لي عملٌ، ووظيفةٌ رسمية، ودورٌ أمارسه في حياتي مثل الرجال الحقيقيين؟ لم أنتظر حتى صبيحة اليوم التالي. ذهبت مسرعًا إلى البيت، أخبرت الجميع بالخبر القنبلة. ومثل الرجال المشغولين، المزدحمة جداول مواعيدهم باللقاءات والبرامج والأعمال، وزّعْتُ تعليماتي في البيت على الإخوة والأخوات؛ فهذه تكوي القميص، وذلك يلمّع الحذاء، وآخر يلحقني بالماء الساخن كي أحلق ذقني. كان صوتي هدّارًا مُزمجرًا، ولم يفكر أحد في التلكؤ أو التباطؤ في تنفيذ المهمة. الأمر جللٌ؛ في بيتنا موظفٌ جديد، رجلٌ جديدٌ، أو قل راتبٌ جديدٌ بعد سنين طويلة من اتكاء أحد عشر فردًا على تقاعد والدي البسيط. حملت كل ما في البيت من أوراق رسمية، حتى "قوشان أرض الساخنة" التي أخذها جدي "مغارسة" من ابن عمه، ولا تزال باسم صاحبها، إنما نعرف، ويعرف صاحبها أنها لنا، أخذته معي. قلت قد يطلبون مني أي شيء، لا أريد أن أعود دون "مباشرة عمل"، وليكن اليوم أول يوم لي بأجر وراتب معلوم.
لم يكن الحال كذلك في مديرية التربية والتعليم التي وصلتها بعد أقل من ساعة في كامل قيافتي. لا أحد هنا يُعير اهتمامًا للحدث الكبير، ولا للجريدة التي أحملها مفتوحة على صفحة التعيينات مع دائرة حمراء حول اسمي، ولا لرزمة الأوراق التي أحملها في "الشنتة الدبلوماسية السوداء" الوحيدة في الحي ربما، والتي تخلّى أخي الكبير لنا عنها بعد أن تزوج وانتقل إلى بيته الجديد. قبلها كانت أوراق البيت الرسمية موضوعة في "تنكة نيدو" قديمة صدئة.
- "استريح برّا استاذ"... ببرود أعصاب غير عادي، وصوت متثاقل لا يكاد يُسمع، قال لي موظف بلا صفة معروفة لي، يجلس على مكتب بلا عنوان. فهمت أنه عليّ أن أتحكّم قليلاً في منسوب الأدرينالين المرتفع جدًا.
مرّت السويعات بطيئة مملّة قبل أن تنطلق لعبة الأوراق صعودًا ونزولًا، حتى وجدت نفسي مع ثلّة من المُعيَّنين معي في مكتب مدير التربية لأداء القسم. لم يعجبني تواجد العديد من ضيوف المدير، بسجائرهم، وقهقهاتهم، وأحاديثهم المتصنعة. ولم أستسغ التفاتة المدير العرَضية لنا، أثناء أداء القسم، بينما كان تركيزه مع الضيوف. كنت منتصبًا مستعدًا لأداءٍ يشبه المراسم العسكرية. لكنّ شيئًا من ذلك لم يحدث. لا يمكن الحصول على "مباشرة عمل" اليوم.
صدر كتاب تعييني في مدرسة "ثغرة زبيد"؛ وهي قرية أردنية وادعة، في منطقة شفا غورية، تطل على الأغوار من حافة جبل عظيمٍ، شاهق الارتفاع قرب وادي راجب. لم أكن قد سمعت بالقرية مطلقًا. كان المنظر مهيبًا من أعلى الجبل الذي تتربع القرية على قمته، وعلى حافة تلك القمة تلتصق المدرسة ببناءين متجاورين، بدا لي أحدهما أشبه ببيت صغير، عرفت لاحقًا أنه سكنٌ للمعلمين.
عند وصولي في اليوم التالي قيل لي إن المعلم الذي جئت بديلًا عنه اعتُقل في محاولةٍ لتنفيذِ عملية إرهابية. وأنه محبوبُ أهل القرية كلها، ومُقرِؤها، وإمام مسجدها الصغير. كان عليّ أن أكون بديلًا ثقيل الظل عن محبوبٍ مُفارِقٍ، يذكرُه الجميعُ بخير، مُلمحين إلى أن (غزلان المعلمين تبدّلوا بقرود).
وكان في الثغرة آنذاك حوالي 15 أسرةً كريمةً فقط، والباص الوحيد الذي يصل القرية، يحمل الركاب في رحلتين؛ واحدة صباحًا، والثانية مساءً، لعدم توفر العدد الكافي من المسافرين. وكثيرًا ما كان الباص يلغي رحلة العودة، نظرا لعدم توفر الركاب، فنضطر إلى النوم في السكن الصغير الجميل الذي أُعِدَّ للمعلمين بمكرمة من سمو ولي العهد آنذاك الأمير الحسن بن طلال الذي رعى في التسعينيات مؤتمر التطوير التربوي في الأردن، وقيل لي إنه مرّ بالقرية في رحلة صيد واستجمام، وإنه استجاب لبعض مطالب أهلها، ومنها سكن المعلمين هذا.
كان أحد المعلمين يبيت في السكن بشكل دائم، لأنه من قرية بعيدة في أقصى الشمال، ومواصلاته صعبة ومكلفة. وكان أحيانًا يُمضي فصلًا دراسيًا كاملًا في القرية لا يفارقها. أما نحن القادمين من القرى المجاورة، فكنا نفضل العودة إلى بيوتنا في الغالب. بدا لي أنه يُعاني من مشكلة نفسية صعبة، هذا المعلم انطوائي قليل الكلام، كثير الرجفان. حركاته مُفاجِئة لا يمكن توقُّعها، ونظراته تائهةٌ، لا تصل إلى عينيك مطلقًا.
في باص العودة الأوحد، كنا ننتظر أحيانا بضع سويعات بعد عملنا لحين الانطلاق في رحلة الرجوع، لأن السائق قرّر مثلًا أن ينتظر راكبًا أو اثنين يريدان الذهاب إلى عجلون بعد العودة من المراعي، أو انتظار ضيوفٍ على القرية يريدون العودة معنا حين ينتهي "المعزب" من واجب ضيافتهم. طبعًا في الغالب كان "المعزب" يدعو المعلمين أيضًا (للتفضل على المقسوم) بعد أن يعتذر لهم عن التأخير، لكننا كنا نعتذر عن الدعوة بكثير من الإصرار واللباقة. لم يكن أحد يعترض على تأخر الباص، فالوقت في "الثغرة" مفهوم واسعٌ فَسَاحٌ براح، والصبر عنوان الحياة كلها، والعجلة من الشيطان.
لم يستغرقني زمن طويل حتى أعتاد على القرية، وأهلها. أساسًا لا شيء جديد فيها يتطلب الاعتياد عليه سوى "طولة البال" والصبر، لا يلزمك حتى الكثير من مهارات الاتصال؛ فهم يعرفون جيدًا كل من يدخل إلى قريتهم، وبالاسم. ويخاطبونه كأنهم يعرفونه منذ دهر.
- "هلا يا ستاد محمد.. شو مروحين بدري اليوم؟"، بادرني شاب لم أره قبل ذلك أبدًا في حياتي.
- "هلا فيك .. آه والله، بس مين انت بلا صغره والله مني عارفك".
- "شو بدك بهالمعرفة .. ملحق عليها.. أني حمزة ابن الطواف، جيرة الله حول ع المعزبين خنّكسبك".
كنت أدخل الشعبة الصفية الواحدة لأدرّس ثلاث صفوف مُجمّعة (السابع والثامن والتاسع) ذكورًا وإناثًا، أعطي "الشِّقَّة" الأولى من الصف المجمع مثلًا تربية دينية، و"الشِّقَّة" الثانية لغة عربية، والثالثة تاريخًا، أو جغرافيا، أو تربيةً وطنية. وكلُّ ذلك في الحصة الواحدة. وكنت أطلب أحيانا من "الشِّقة اليمنى" مثلًا أن تنام لحين إتمام الشرح للشقة الثانية (الوسطى)، وقيام "الشقة" الثالثة (اليسرى) بحلِّ واجبٍ أو تمرين. وأحرصُ على توزيع النوم بعدالة بين "الشِّقق" حتى لا يثور عليّ الطلاب مطالبين بحقهم في النوم. وكان في بعض الصفوف "الشِّقق" طالب واحد أو اثنين، ومع ذلك كنّا نضع له برنامجًا، كأنه صفٌّ كاملُ النِّصاب.
بعد بضعة أيام تعطل الباص. فكرنا في البداية بالمشي إلى راجب، و"من هناك ربنا بيسرها"، لكنّ مُقترَحًا مُفاجئًا صدر عن أحد الزملاء، بنبرةٍ متحمّسة جدًا، كانت سببًا في حصوله على الموافقة بالإجماع. سنبيت اليوم هنا. آذن المدرسة وعد بتحضير عشاء مفتخر. والأجواء تشي باحتفال وشيك. لكنّ المعلم المقيم في السكن بدا غير مُرحِّب بالمتطفلين الجدُد، وغير متحمّس للسهرة المرتقبة.
عشنا يومًا كأنه شهر. أكلنا وشربنا الشاي، والشنينة، والقهوة، واستنفدنا كل مخزوننا من "النكات، والحزازير"، وألعاب "الحارس والجلاد" و"إنسان نبات حيوان جماد"، وغيرها. لكن الوقت لا ينقضي في هذه القرية. الكل يتحسر على عدم وجود "الشدّة".
- "آخ لو فيه شدّة".
- " لو كنا عارفين إنا رح نبيّت كان جبت الشدة والأرجيلة معي"
- "هو إسال بلكي لقيت حدا من هالقرية عنده شدة"، يقول زميل مخاطبًا الآذن.
- "قلنالك إحنا ما عندناش الشغلات هاي"، يُجيب الآذن بحزم، وشيء من الغضب.
بعد العشاء، غرقت القرية ومعها الجبال والأودية الرهيبة المحيطة في ظلام دامس. نام الزملاء جميعًا إلا صاحبنا غريب الأطوار، ظل جالساً على كرسيه خارج السكن يتمتم بأشياء تشبه التسبيح. خرجت لتفقد المكان. صمت رهيب يلف القرية. حتى الكلاب توقفت عن النباح. لا تسمع غير حفيف الأوراق التي تحركها هبّات الهواء الممتدة كأنها زفير الجبال الشاهقة. ظننت أننا في منتصف الليل لكن الساعة كانت لا تزال تشير إلى العاشرة والنصف.
قدّرت بما لدي من بصيرة محدودة آنذاك أن المعلم الذي حاول تنفيذ العملية الإرهابية (الاستشهادية حسب تعبير أهل القرية) ربما كان يعاني من اكتئاب حادّ سببه في الغالب هذا الصمت الرهيب، والظلام الدامس، والفقر المدقع الذي كان يلف القرية. أسرّ لنا آذن المدرسة بصوت خافت حذر بأن هناك أنباء عن احتمال تلقيه حكمًا بالإعدام، أو المؤبد على الأقل. لكنّ ما زادني حيرة، هو أن زميلنا غريب الأطوار لا يتحدث مطلقًا عن صديقه المعتقل، على الرغم من أنهما عاشا معًا في هذا السكن لأكثر من عامين.
كان آذنُ المدرسة "وجيه القرية"، وصاحبُ الكلمة المسموعة فيها، وهو عينُ الآباء على المعلمين؛ يكرمُ المعلمين بـ "طراقيع الشنينة"، ولفائف "الزحليقة"، و"قلايات" العكوب، والبندورة أحيانا، ويراقب أداءهم كأنه هو المدير الفعليّ أحيانا أخرى. إذْ كان مديرنا -رحمه الله- يثق بالآذن، فيوكل إليه مهمة التلصُّص على الشبابيك، خشية أن ينام معلمٌ في ظل وجود ذكورٍ وإناثٍ داخل الصف، وهو ما لم يكن أهل القرية يستسيغونه، لكّنهم كانوا مُكرَهين عليه، وحدث أن كان بعضهم يمنع ابنته من مواصلة التعليم، خشية هذا الاختلاط، فكنا "نقود جاهة" إلى بيته لإعادتها، متعهدين له بالمراقبة والحرص عليها، مثل بناتنا وأكثر. وكذلك كنا نفعل.
لم تطل خدمتي في التربية والتعليم أكثر من سنة ونصف السنة. كان منها سنة دراسية كاملة في "الثغرة". وإلى اليوم لا أزور الأردن، إلّا وأمرّ بـ "الثغرة"، أتجول بالسيارة دون أن أكلم أحدًا في الغالب. لا أظن أن أيًّا من أهلها يذكرني أو سيعرفني إذا رآني، ربما واحد أو اثنين الطلاب الذين درّستهم فقط، وربما لا أحد.
- لم يتغير الكثير في الثغرة.
- لا لا، أنت تتخيل بل تغير كل شيء.
بحزن عميق أتجول ببصري حول القرية، أراقب من خلالها كيف تغيرت الحياة في الأردن، وكيف كبرنا نحن، وتغيرنا معها.
ما استدعى هذه الذكريات في خاطري بعد كل هذه السنين، أن أحدهم أمس تحدى المعلمين بطول النَّفس، مسكين أنت يا سيدي، حقًّا مسكين. من عجنته الثغرة وأشباهها بالصَّبر عجْنًا، يصعُب الفوز عليه في معركةٍ، معيارُ النّصر فيها طولُ النَّفَس.