الأردن حين يغادر اليأس
د. محمد الزغول
جو 24 :
هناك الكثير ممّا يدعو للاعتقاد بأن إضراب المعلمين، وما رافقه من نقاش عام، وتضامن شعبي منقطع النظير، كان في جوهره مقاربةً ذكيةً، ومختلفةً للتغيير السياسي من مداخيلَ غير سياسية. وليس من شكّ في أن التغيير السياسي كان حاضرًا تمامًا في الوعي الشعبي الأردني الذي هبّ لمساندة المعلمين، على الرغم من أن الحراك كان مطلبيًا، وعبر نقابةٍ مهنيةٍ.
إن عدالة قضية المعلمين، ومُطالبَاتهم المشروعة، شكّلت الأساس لطرح مسألة العدالة الاجتماعية برمّتها في المشهد الداخلي الأردني. لكنّ أعين الأردنيين لم تخطئ التغيير السياسي الذي يعني في الأردن حصرًا، الذهاب باتجاه الملكية الدستورية، بخطواتٍ مُتدرّجة، وعقلانيّة، ولكنْ ثابتة. هذه الحقيقة لفتت انتباه الصديق الكاتب والخبير الاستراتيجي العربي السوري غازي دحمان الذي علّق على الأحداث قائلًا: "أطلق معلمو الأردن نمطاً جديداً من "الحراكات المطلبية"، سنرى صداها قريباً في قطاعات وساحات عربية عديدة، إنها رافدٌ جديدٌ للربيع العربي. تابَعْتُ الحراك، ورصدت البُعد السياسي فيه بوضوح. لقد ارتكز الالتفاف الشعبي حول المعلم على هذا الأساس. انتصار المعلم الأردني نصر سياسي للأردنيين في زمن التراجعات".
سبقت إضرابَ المعلمين حالةٌ مُحبِطَة من الجمود، والكسل السياسي في الأردن، بعد أن نجحت السلطة في "تخريب" الحراك الشبابي الذي يبدو أنه كان موجّها بالأساس إلى "تغيير النهج" الحكومي، ولذلك اتخذ من "الدوار الرابع" رمزيةً خاصة. وبعد انسحاب الشُّبان الغاضبين من المشهد "مؤقّتًا ربما" تحت وطأة اليأس والشعور بالخذلان من ضعف التأييد الشعبي، وضعف أو انعدام مساندة النخب السياسية والثقافية التي أظهرت نزوعًا مُفرطًا باتجاه السلبيّة، وظلّت أسيرةً للمخاوف التقليدية، باحثةً عن الخلاص الفردي. وهو ما أطلق العنان لحالة من صعود العبثية، وانفلات الشعبَويّة في المجتمع، فبِتْنا نشهد انسياقًا اجتماعيًا جارفًا خلف رموزٍ مُغرِقةٍ في العَبَثية، واللامبالاة، والسخرية المرّة. وتصدّر المشهد على مواقع التواصل الاجتماعي بعض "الحشّاشين"، والمضطربين نفسيًا. وكلُّ ذلك كان يُنذر بخطر جسيم.
وحتى لا نضع اللومَ كلّه على النخب، لا بدّ من الإشارة إلى التأثير السلبي الكبير الذي تركته محاولات السلطة الزمنة، والمتكرّرة لتعويم الفساد، أو تكريس حالة العجز المجتمعي، وتجاهل، أو إضعاف الهوية الجامعة للأردنيين، عبر التركيز على الانتماءات الأولية؛ العشائرية، والمناطقية، والإثنية-الدينية. هناك من أراد دائمًا أن يقول للأردنيين بأن "العلّة" فيكم، وليس في السلطة القائمة؛ فأنتم من تختارون برلمانات ضعيفة، وتُصعّدون قيادات مشغولة بإثراء نفسها على حساب الصالح العام، وأن الفساد ليس حِكرًا على الطبقة السياسية الحاكمة، بل هو حالة اجتماعية، و"إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ [الرعد:11] ". وهو ما نجم عنه حالةٌ من اليأس، وانعدام الأمل، والرغبة في المشاركة أو الإصلاح أو العمل الجماعي. وليس هناك أخطر على المجتمعات والدول، من هذه الحالة.
بقليل من التفاؤل، وكثير من الواقعية، يمكن القول إن الإضراب أسهم في إبطال مفاعيل كل هذه المحاولات. مثّل المعلمون لوحةً وطنيةً واحدةً، متكاملةَ العناصر، والمنابِت، والاتجاهات. لاحظ الخبير الاستراتيجي الأردني عمر الرداد أن بيانات نقابة المعلمين، تتسرّب إليها "اصطلاحات يسارية، وأخرى ذات جذور إسلامية"، وكلما اقتربنا من الحل المنشود، كانت الاصطلاحات اليمينية أيضًا تجد طريقها إلى بيانات النقابة بشكل مضطرد. أي أننا أمام "اتجاهات سياسية" متنوعة انصهرت في اتجاه واحد، هو اتجاه الوطن. ولا ننسى أن المعلمين يمثلون قطاعًا أردنيًا شاملًا، لا "أفضلية" فيه لطيف على آخر، ولا لمنبت دون آخر، ولا حتى لجنس دون آخر. إنه قطاع "متكافئ التمثيل" -إن صح التعبير- لكل الوطن، كما هي أغلب قطاعاتنا العامة.
إن إشاعة شعور بالانتصار بين الأردنيين اليوم، من شأنه إعادة الكثير من الاختلالات الاجتماعية والسياسية إلى نصابها؛ فالنصر والهزيمة بالأساس هو شعور أكثر منه حقائق وحسابات. والشعور بالانتصار اليوم ستكون له استحقاقات مهمة قادمة، علمًا بأنه انتصار له ما يبرره فعليًا، فهو ليس وهمًا، أو دعايةً جوفاء. كما أنه انتصارٌ للجميع، والخاسرُ الوحيد فيه، هم أرباب "الأنا المتضخّمة"، و"الجيوب المُنتفِخة"، من عرّابي "الخلاص الفردي"، وهؤلاء هم "أعداء الجميع". تحوَّل المعلمون اليوم إلى أبطال مُلْهِمين. بات لدينا قادةُ رأيٍ عقلاءَ، وشجعان، نعوِّل عليهم في بناء قواعد نهضة تربوية وعلمية شاملة، تكون قاعدة للنهوض الوطني الحقيقي، الذي يستند إلى الشعب، لا إلى سحابة الحكومات العابرة.
ما يحدث اليوم بعد عودة الطلبة إلى مدارسهم، وعودة المعلمين إلى طلابهم "مرفوعي الرأس"، كما أراد لهم الجميع، يشِي بتبلور نتائجَ سياسيةٍ أبعدَ وأعمق؛ لقد بدأ المجتمع بطريقة آلية، ودون توجيه من أحد، بمحاسبة الأفراد، والأحزاب، والمؤسسات الذين سقطوا في الامتحان الشعبي. ولعل مظاهر المقاطعة الواسعة لبعض المواقع الإلكترونية، والأقلام، والصحف، والمحطات التلفزيونية، والانتقادات واسعة النطاق التي يواجهها أفرادٌ، ومؤسساتٌ ممن خذلوا الجماهير، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، تعدُّ شكلًا من أشكال المحاسبة، والتقويم بأدوات مشروعة، وقانونية. خاصةً في ظل "عجز" المؤسسات الدستورية المعنيّة (البرلمان) عن القيام بواجب المساءلة، والمحاسبة، والتقويم. ما يجري اليوم، هو تكريس للقاعدة الدستورية: "الشعب مصدر السلطات"، وتكريس للتغيير السلمي المتدرج، وطويل النفس الذي يعالج مواطن الخلل، دون التفريط بالثوابت الوطنية، أو تهديد الأمن والاستقرار.
مطلبٌ وطنيٌ واحدٌ بسيطٌ، وبدون "بهارات"، وتعبيرات "سياسية" كبيرة، أو "أدلَجات" "طنانة"، أو "رنانة"، جمعَ الأردنيين معًا، وأذاقهم حلاوة الإنجاز، والانتصار. هل يشكل مثالًا جيدًا لما يمكن أن نحقّقه عندما نعملُ معًا؟