انتصر لزملائه الأطبّاء فكان مصيره "الكعب الدوار".. قضيّة القرالّة ووزارة الصحّة
جو 24 :
أحمد عكور -
في بلادنا تصوّر غريب يحول دون التقدّم أو التطوّر، وهو لا يتعلّق بانتشار الفساد أو السياسات الاقتصادية التي تسير عليها الحكومات فحسب، بل وبنظرة المسؤول إلى المنصب أو السلطة والصلاحيّات الممنوحة له، إذ يعتقد كثيرون أن جلوسهم على الكرسي يمنحهم قدرة مطلقة تمكّنهم من فعل كلّ ما يحلو لهم، وكأن أحدهم الحاكم المطلق بأمر منصبه، وليس على الآخرين غير السمع والطاعة!
وهكذا يبدأ المسؤول بالتصرّف انطلاقا من نزعة فرعونيّة نزقة، تعبّر عن عوالم سيكولوجيّة غارقة في الظلمة، فيمعن في الإيذاء والتنكيل بكلّ من يعارضه، ليتمادى في قراراته وإجراءاته التعسّفيّة، فيعلي من شأن "المقرّبين" ويمعن في إقصاء وتهميش ومحاولة تركيع غير المنسجمين مع نزواته، التي يعتبر تلبيتها حتماَ مقضيّا، وأن حكمه سلطة مطلقة، لا ينازعه فيها أحد. وينظر المسؤول الذي جبل على هذه الشاكلة إلى الآخر على أنّه مجرّد من كلّ حول أو قوّة.
ومن البديهي أن مثل هذه الشخصيّات السيكوباثيّة، التي تتميّز بالعدائيّة، والغطرسة، وحب التلاعب بالآخرين، دون أيّ شعور بالذنب أو التعاطف، تتّخذ قراراتها بجرّة قلم، ودون أن يرفّ لها جفن، من أجل إنزال العقاب بكلّ من يعارضها، انطلاقا من تضخّم الأنا، الذي يعميها عن التفكير في ما وراء ما قد تتّخذه من قرارات مجحفة، تلحق الأذى بالآخرين، دون أيّ مبرّرات أو ضرورات منطقيّة، إشباعا لرغباتها المرضيّة في تركيع كلّ من ليس على هواها، وانطلاقا من النزعة الفرعونيّة لوهم القدرة المطلقة.
وبعيدا عن هذا التوصيف النظري، دعنا نلقي نظرة على الواقع الذي نعيشه في بعض مؤسساتنا العامة..
من الأمثلة الكثيرة التي لا مجال لحصرها هنا ما تعرّض له طبيب يعمل في وزارة الصحّة، وهو حازم القرالّة، الذي تمّ نقله إلى أكثر من موقع، في أماكن جغرافيّة متباعدة، خلال أقلّ من ستّة أشهر؟ هل هناك فعلا ما قد يبرّر مثل هذه الإجراءات التي فرضت على القرالة الانتقال من منطقة الأغوار، إلى معان، والطفيلة، والكرك، والزرقاء؟
اللافت أن قرارات نقل القرالّة صدرت بشكل استثنائي، حيث تمّ نقله عبر كلّ تلك المواقع المتباعدة جغرافيّا، خلال شهور معدودة، بما يتجاوز المدّة المفترضة وفقا لتعليمات وزارة الصحّة.. ترى ما هو سرّ هذا الإصرار على إرغام طبيب على الترحال بين محافظات الوطن، وكأنّ صاحب هذا القرار في سباق مع الزمن!
من المفهوم نقل طبيب أو مختص إلى أيّة منطقة تحتاج وجوده، أو وفقا لما تقتضيه سياسات التعيين وإجراءات التنقّلات المستندة إلى ضرورات وحاجات، ولكن عندما يكون التركيز على شخص بعينه لتدويره على أكثر من موقع، ونقله شمالا وجنوبا وشرقا وغربا في فترة زمنيّة قياسيّة، فهذا يستوجب الإيضاح والتفسير.
وزارة الصحّة تقول إن قرارات جديدة قد صدرت لتدوير كافّة الأطبّاء المقيمين على كلّ المستشفيات، نظرا لأنّها مستشفيات تعليميّة، دون أخذ المدّة الزمنيّة بعين الإعتبار.. ولكن كيف يمكن لطبيب أن يتنقّل مع أسرته من محافظة إلى أخرى كلّ بضعة أسابيع؟ وكأنّه رحالة فرض عليه عدم الإستقرار، دون أيّة مراعاة لظروفه؟!
معروف أن القرالّة طبيب كفؤ تولّى مسؤوليّة ملف الأطبّاء للدفاع عنهم وعن حقوقهم، وهو ما دفع كثيرا من المقرّبين منه إلى اعتبار تلك الإجراءات بمثابة العقاب الذي أنزل عليه نتيجة مواقفه المناصرة لزملائه.
وجود ضرورة تقتضي بقاء طبيب مختصّ مقيم في كلّ مستشفى، لا يجب أن يعني اللجوء إلى قرارات تعجيزيّة، وإجراءات يتمّ اتّخاذها دون أيّ اعتبار لاحتياجات الطبيب وإنسانيّته.. الأردن بلد يفاخر العالم بعدد أطبّائه وكفاءتهم، وليس أسهل من إلقاء نظرة -ولو عابرة- على الأرقام المتعلّقة بالسياحة العلاجيّة في الأردن، لمعرفة درجة التقدّم الذي حقّقه بهذا الصدد.. فلماذا يتمّ التعامل مع الطبيب وكأنّه الوحيد المسؤول المطالب بتغطية كلّ المواقع، بعيدا عن كلّ حسابات الجغرافيا والمكان، وضرورات الإستقرار المعيشي؟!
ترى.. هل هي صدفة أن يتمّ إرغام طبيب على الترحال من مكان إلى آخر كلّ بضعة أشهر أو أسابيع، في ذات الوقت الذي يطالب فيه بتحقيق العدالة للعاملين في القطاع، وتلبية مطالبهم المشروعة؟! أم أن ذلك مجرّد عبث إجرائيّ تمّ فرضه بمزاجيّة، دون أيّ مراعاة لحياة الناس وظروفهم؟