ماذا عن الجمعة الخضراء ؟
جو 24 :
كتب تامر خورما - ثقافة اليانكيز لا تحتاج اليوم إلى كثير من الإبداع لتسويق ذاتها كثقافة مهيمنة، ومحور تدور في فلك قيمها ومفاهيمها كافّة الأنماط السلوكيّة الإجتماعيّة لشتّى شعوب الأرض. الانحطاط القيمي وصل إلى أبعد من ذلك عبر الهوس البشريّ بالانسياق خلف تعاليم العم سام، حيث بات الخاضعون لعرف "حضارة" الإستغلال والإبادة، هم ذاتهم من يسوّقون مفاهيم اليانكيز، ويحترفون ترجمتها حرفيّاً، في كلّ القارّات السبع.
عيد الشكر.. والجمعة السوداء.. لوثة كرنفاليّة نزقة، فرضت نفسها على السلوك البشري، رغم خلفيّتها الدمويّة البشعة، ونزعتها الإستهلاكيّة المستندة إلى مبادئ تكريس العبوديّة للسوق وأربابه. يحتفل كثيرون بهذا العيد الغريب الذي لم يتعمّد إلاّ بدماء السكّان الأصليين للأمريكتين، دون حتّى معرفة الطريق الذي مهّد لهذا العرف عبر آلام المعذّبين.
ويستمرّ اجترار حقبة تاريخيّة دمويّة، تجاوزت في رجعيّتها كثيرا من محطّات التاريخ السابقة، لترتدّ البشريّة إلى بدائيّة التشكيلات الإجتماعيّة العبوديّة بأقبح صورها، حيث شيّدت أسس خرافة "التفوّق العرقي" على أشلاء السكّان الأصليين ودمائهم.. في هذا الإطار جاء "عيد الشكر" لإقامة الولائم على أنقاض المذابح الوحشيّة.
أمّا الجمعة السوداء، الضاربة جذورها في عمق مفاهيم المجتمع القائم على الاستعباد، فقد امتدّت تفرّعاتها في محطّات الكساد، الناجمة عن نمط الإنتاج الرأسمالي. ويستمرّ اجترار ذات الأزمة المتجدّدة للرأسماليّة، التي تعيد تجديد نفسها عند كلّ منعطف عبر بعض الإصلاحات الشكليّة، لإطالة عمر هذا النظام الذي طال احتضاره.
كلّما تكدّست البضائع في الأسواق، نتيجة تراجع القوّة الشرائيّة للفقراء، وزيادة العرض على الطلب، تلجأ شركات الإستغلال إلى تفعيل النزعة الإستهلاكيّة للمجتمعات التي تربّت في كنف هذا النظام، فيتمّ "حرق" الأسعار، وتبدأ عمليّة التسويق المبرمجة على "كود" إقناع المستهلك بشراء ما لا يحتاجه، فقط لأن سعره قد هبط قليلا نحو قيمته الحقيقيّة، التي تحدّدها الضرورة، وليس أرقام الإقتصاد الإفتراضي.
المجتمعات الإستهلاكيّة التي تبرمجت على لوغاريتميّات ثقافة الولايات المتّحدة الرأسماليّة، لا تحتاج اليوم إلى من يسوّق لها منتجات "الجمعة السوداء". التشوّهات العصابيّة في نمط السلوك البشري بلغت نقطة حرجة، تحوّل فيها المستهلك الخاضع للاستغلال، هو ذاته مسوّق ومروّج "مخدّرات" تنشيط الغدّة الإستهلاكيّة، وإدمان شراء ما لا تقتضيه الحاجة، لا لشيء إلاّ للعثور على موطئ قدم، تجعله ملائما للإنسجام في قطيع التهافت على السلع، تعزيزا لفصام الإغتراب، وتلبية لـ "حاجة" وهميّة مختلقة.
ولكن هناك من لايزال يناضل من أجل مجتمع غير استهلاكي.. مجتمع متحرّر من عبوديّة السوق، ورجعيّة القيم الرأسماليّة.. في إطار هذا النضال للانعتاق من قطيع الزومبي الإستهلاكي، جاء طرح الجمعة الخضراء، لتكون بديلا متمرّدا على سوداويّة جمعة التنميط والتسليع.
في الجمعة الخضراء يتخلّص الإنسان من كلّ المقتنيات التي مازال يمتلكها رغم عدم حاجته لها، ويأخذ مقابل ذلك ما يحتاجه حقّا، وليس ما يحاول "البائع" إقناعه بضرورة اقتنائه.. عبر هذا السلوك تتعزّز قيم ومفاهيم المشاركة، التي تعيد الإعتبار للعلاقات الإنسانيّة البينيّة، عوضا عن تسليع الإنسان، وتكريس اغترابه.
الفكرة في غاية البساطة والثوريّة أيضا.. لا تحتاج حقّا إلى الارتماء على ما تطرحه الأسواق فقط لأن شركة ما قامت بتخفيض أسعار منتجاتها، التي تكدّست بفعل الأزمات المتكرّرة التي ينتجها هذا النظام.. إذا كنت تحتاج فعلا إلى أيّ شيء، فما عليك إلاّ التخلّص من ما لا تحتاجه من مقتنيات غير ضروريّة بالنسبة لك، ومنحها لمن يحتاجها حقّا، لتحصل مقابل ذلك على ما يلبّي احتياجاتك الحقيقيّة.
هذه المقايضة القائمة على مبدأ التشارك، وقيم المسؤوليّة التي يفرضها وجودك الإنساني، وتطوّرك البيولوجي إلى كائن مدرك لوجوده، وبالتالي لمسؤوليّته تجاه هذا الكوكب، الذي يواجه كوارث بيئيّة خطيرة، بسبب نمط الإنتاج الرأسمالي، هي ما يفرض ضرورة الجمعة الخضراء، حيث يتبادل الناس مقتنياتهم لتلبية الإحتياجات، بعيدا عن الهدر والتبذير، ودون الإسهام في تدمير هذا الكوكب الوحيد الذي يمكننا العيش عليه.