الموازنة والفلافل
جو 24 :
محرّر الشؤون الإقتصاديّة - بعيدا عن أرقام الموازنة المرتقبة للعام 2020، والحديث الرسمي حول حزم التحفيز الإقتصادي، والتعهّد بعدم فرض المزيد من الضرائب، وحكاية المؤسّسات المستقلّة، ومحاولة تجاوز تحذيرات "ممنوع اللمس" في إجراءات الدمج.. بعيدا عن كلّ هذه الإسطوانة لاحتراف لعبة سحر الأرقام، لغايات الإقناع وتسويق السياسات، دعنا نسألك سؤالا بسيطا ومباشراً، كم يبلغ سعر قرص الفلافل في الحيّ الذي تعيش فيه؟
"زمان" كانت العشرة قروش تشتري عشر حبّات فلافل، وفوقها قرص أو اثنين ضيافة.. حتّى صحن الحمّص الذي تحضره من منزل كان يمتلء ذات زمن جميل مقابل 10- 15 قرشا، وإذا كنت مترفا فيمكنك بشلن إضافة بعض الفول لتحصل على وجبة قدسيّة شهيّة، ومع زيت الزيتون أيضا.
واليوم، لا يكفيك دينار بأكمله لشراء حبّات فلافل تكفي عشاء أسرتك من ساندويشات منزليّة التحضير.. السؤال الإستراتيجي يفرض نفسه هنا.. تحديدا في هذه المعادلة بالغة الحساسيّة، من سرق بركة قرص الفلافل؟
أيّام الزمن الجميل كان هناك مؤسّسة سحريّة تدعى بوزارة التموين.. هذه المؤسّسة كانت تحرس الفلافل من دجل لعبة السوق وطلاسمه.. لم يكن أيّ مشعوذ جشع يمتلك الجرأة للتلاعب بالأسعار التي تحدّدها تلك المؤسّسة، وكان الفلافل يتربّع عرش المائدة، دون الحاجة إلى وظيفة ثانية، أو الإنتحار في ساعات العمل الإضافي، لتأمين هذه الوجبة القريبة من القلب، قرب الوتين من سرّ البقاء.
في ذلك الزمن كان هنالك شرطيّ حاسم لا يعرف أيّ خطّ أحمر، ولا يرحم أيّ سارق لقوت الفقراء.. هذا الشرطيّ كان اسمه الدولة، التي تحدّد ضوابطها الصارمة حركة السوق وغيره، ولا تسمح على الإطلاق بترك الأسعار تنفلت من عقال العدالة الإجتماعيّة.
هذا هو أصل المشكلة.. تغييب الدولة وإقصائها عن قوانين السوق، التي باتت تحدّدها لعنة الجشع، ولغة الإستغلال.. بدء بقرص الفلافل، وليس انتهاء ببورصة الأوراق الماليّة الإفتراضيّة، ومزاجيّة رأس المال التي تنافس جهنّم على ابتلاع المزيد في المحرقة الأبديّة.
تنصّل الدولة من مسؤوليّاتها، وترك علاقات الإنتاج رهينة لمزاجيّة رأس المال ومصالحه، والانحياز إلى الأغنياء عبر ضريبة المبيعات وغيرها من ضرائب غير مباشرة، لا تعترف إلاّ بجيوب أصحاب الدخل المحدود كرافد رئيسي للخزينة، هو جوهر المشكلة والأزمة الإقتصاديّة الخانقة.
ويا ليت الأمور وقفت عند هذا الحدّ! الدولة لم تتخلّ عن دورها في حماية قوت الفقراء، عبر القضاء على رمزيّة وزارة التموين بل وجوهر العقد الإجتماعي فحسب، بل أصبحت شريكة لرأس المال الذي بات هو الآمر الناهي، ليعيّن من يشتهيه من ساسة، ويختار ولون وشكل ورائحة من يريد، لتشكيل طيف الطبقة الجاثمة على صدور المستضعفين، عبر معادلة تحالف السلطة ورأس المال.
ذات يوم كانت الدولة هي الحارس الملزم بتوفير خبزنا كفاف يومنا.. أمّا اليوم، فالمواطن مجرّد رقم إضافي ضمن جدول الإيرادات الجبائيّة، لا تكترث الطبقة المخمليّة المهيمنة على مفاصل صنع القرار بأي حقّ يصون إنسانيّته.. كل ما هو منتظر منك أيّها المواطن فقط أن تدفع المزيد في سبيل إثراء غيرك من حيتان رأس المال.. ولا مقابل أو أيّ اعتبار لوجودك، يصون حقّك في تعليم لائق، أو تأمين صحّي مناسب، أو حتّى مواصلات ترتقي إلى أدنى شروط الضرورة.
نتيجة لهذا التحوّل الجذري لدور الدولة.. من خندق الرعاية والحماية الإجتماعيّة، إلى معسكر رأس المال المتوحّش، أعلنت الحرب على قرص الفلافل في معارك طبقيّة طاحنة، تفاقمت خلالها الفجوة بين الناس وصنّاع القرار، وامتدّت ظلال التهميش لتشميل السواد الأعظم من الشعب المغلوب على أمره.
الرسميّون يقولون أن صندوق النقد الدولي لا يلقي بإملاءاته على الفريق الإقتصادي الأردني.. فهل هذا صحيح؟ دعونا من اسطوانة التحفيز والنمو، أعيدوا لنا قرص الفلافل المسلوب.. عندها فقط، يمكن الثقة بالسياسة الإقتصاديّة، التي لم تحقّق حتّى الآن سوى عجز بنحو 1.3 مليار دينار، ومديونيّة مرشّحة لتجاوز كلّ سقوف التوقّعات.