jo24_banner
jo24_banner

ماذا يريد الأردنيون؟

ماذا يريد الأردنيون؟
جو 24 :
تامر خورما - مطالب الشارع الأردني طيلة العقد الأخير، لاتزال عصيّة على التحقّق عمليّا على أرض الواقع، بسبب تمترس صنّاع القرار في خانة العهد القديم، لمفاهيم ما قبل الدولة الحديثة.. فما هو جوهر هذه المطالب؟

في عصر الإمبراطوريّات العتيقة، التي شهدتها حقبة العصور الوسطى، كانت الإقطاعيّة هي النمط الإقتصادي الإجتماعي الذي تنبثق عنه مفاهيم البنية الفوقيّة للمجتمعات، فتكوّنت قيم محدّدة بعصرها، كالمنح والعطاءات، التي يغدق بها الإمبراطور "ظلّ الله على الأرض" على شعبه، فيرفع من يشاء إلى طبقة "النبلاء"، ويبقي من يشاء في دائرة "العوام"، التي "تنعم" أحيانا بشيء من السخاء، لإطفاء جوعها الدائم ببعض العطايا.

طبعا التاريخ لا يقف عند نمط إنتاج محدّد، ولا يتجمّد على تشكيلات إجتماعيّة بعينها.. حركة التاريخ لا نهاية لها، ولا يمكن العودة إلى الماضي السحيق قبل اختراع آلة للسفر عبر الزمن.. اليوم تعيش المجتمعات البشريّة عقدها الثالث للألفيّة الثالثة، ومن غير المعقول فرض شكل اجتماعي لمرحلة ما قبل الدولة، لتنظيم علاقة الناس في أيّ من المجتمعات البشريّة المترامية على القارّات السبع.

انطلاقا من هذه الحقيقة، كان من الطبيعي أن يكون جوهر مطالب الأردنيين هو الارتقاء بشكل العلاقة التي تجمعهم بمختلف مؤسّسات الدولة، ومن بينها القصر.. المطالبة بالانسلاخ عن مفاهيم المكارم والأعطيات، للارتقاء إلى ما تفرضه الدولة الحديثة من مفاهيم، كالحقوق والواجبات، لم تكن قفزة جيفاريّة في ثورة حالمة، أو طرحا راديكاليّا تحت راية حمراء، بل جاءت باختصار لوضع النقاط على حروف المرحلة، في محاولة للّحاق بركب التطوّر التاريخيّ، الذي تجاوزنا بالمناسبة.

ليس الغريب أن يصرّ الناس على هذا الطرح كجوهر لمختلف مطالبهم الإقتصاديّة والإجتماعيّة والسياسيّة، بل الغريب هو بقاء النمط الراهن الذي يحكم علاقة القصر بالشعب.. الديوان الملكي يفترض أن يتفرّغ لدوره البروتوكولي، أمّا فيما يتعلّق بتفاصيل إدراة شؤون البلاد، فمكانها هو الدوّار الرابع، حيث يفترض أن يتجسّد مبدأ الولاية العامّة.

أمين عام الديوان الملكي، محمد الكركي، تحدّث لأعضاء اللجنة الماليّة في مجلس النوّاب عن المخصّصات التي تمّ رصدها لنفقات الديوان، حيث رصد مبلغ 26.897 مليون دينار لإنفاقه في حقل "الحماية الإجتماعيّة"، بحيث يشمل "مساعدات للجمهور". ولكن المبلغ لم يكن كافيا على حدّ تعبير الكركي، الذي قال إن الديوان لايزال بحاجة إلى 28.838 مليون دينار، نظرا لأن "حجم المساعدات الاجتماعية يكبر".

وعندما جاء على ذكر التفاصيل، بيّن أمين عام الديوان الملكي أن المبالغ المطلوبة تشمل: معونات محافظات بقيمة (6.5) مليون دينار، ومساعدات جمهور بقيمة ثمانية ملايين دينار، بالإضافة إلى الزيارات الملكية التي رصد لها أربعة ملايين دينار، ومساعدات طبيّة بقيمة مليون و(60) ألف دينار، ونصف مليون دينار للجمعيّات الخيريّة، ناهيك بمساعدات تقرّر منحها عن طريق الأعيان بقيمة مليونيّ دينار، وتمويل جزء من المبادرات الملكية بخمسة ملايين دينار.

هذه الملايين ينفقها الديوان الملكي كلّ سنة لمعالجة حالات فرديّة، أو حلّ قضايا ومشاكل جزئيا، دون الإقتراب من أي إجراء جذري يسهم في تحقيق التنمية والدفع قدما باتّجاه التطور والتحديث. هذه نتيجة طبيعيّة لمقاربة "المكارم"، التي تقحم الديوان الملكي في ما هو غير مطلوب منه، ليتصرّف على أساس منح هذا، والإغداق على ذاك، وحلّ المشاكل الجزئيّة، وفق رؤية موظّفي القصر.

تخيّل لو تراكمت هذه الملايين كلّ عام، على مدى السنوات العشر الأخيرة فقط، ورصدت لدعم وتطوير القطاع الصحّي، مثلا، بالتوازي مع التأمين الشامل، فهل سيحتاج أيّ مريض للاصطفاف في طوابير الإستعطاف، على أبواب الديوان الملكي؟!

في الأردن توجد حكومة، ومن بين الحقائب الوزاريّة هناك وزارة الصحّة، والأصل أن تكون هي المسؤولة بشكل كامل ومباشر عن تطوير القطاع الصحّي، والارتقاء بواقع المستشفيات، التي يموت الأطفال على أبوابها بسبب عدم وجود أسرّة كافية، ويمون أصحاب الأمراض المزمنة ألف مرّة بين ردهاتها، المفتقرة لأدنى شروط حفظ الكرامة الإنسانيّة.

لماذا تقحم الديوان الملكي في ممارسة هذا الدور، عبر معالجة حالات فرديّة، عوضا عن تحمّل الحكومة لمسؤوليّاتها، وممارسة دورها عبر الولاية العامّة، لمحاسبتها على أي تقصير، سواء في قطاع الصحّة أو التعليم أو أيّ من القطاعات الأخرى؟!

ولا يقلّ غرابة عن هذا المبالغ التي رصدت لتقديم مساعدات عن طريق الأعيان! ما علاقة مجلس الأعيان، الذي يفترض أنّه سلطة تشريعيّة لا أكثر ولا أقلّ، بهذه الأمور، ووفقا لأي منطق يقوم عين أو نائب بتقديم شيكات المساعدات في دائرة انتخابيّة أو حيّ شعبي؟ أليس سكّان تلك المناطق مواطنون يتحمّلون حصّة الأسد، في تزويد خزينة الدولة بالإيرادات المحليّة، عبر مختلف أنواع الضرائب وأشكالها؟ متى وكيف تمّ تحويلهم بقدرة قادر إلى طلاّب هبات ومساعدات؟!

هذه الأعطيات التي تمنح تحت عناوين من قبيل مساعدات الجمهور ومعونات المحافظات، يفترض أن ترصد وفق رؤية شموليّة للتنمية، عبر المضي باللامركزية مثلا، وتمكين البلديّات من تحديد أولويّات الإنفاق، أوليس الملك نفسه هو من تبنّى اللامركزيّة كأساس للتنمية؟!

المواطن هو المصدر الرئيسي لإيرادات الدولة المحليّة، لذا من الطبيعي أن يكون له دور في تحديد أولويّات الإنفاق وأوجهها، من خلال المجالس البلديّة، ويسهم في تطوير وتنمية مختلف القطاعات من خلال البرلمان، فبأيّ شرع وبأي منطق يكون مرغما على استجداء معونة لتعليم أطفاله أو علاجهم؟

الارتقاء بعلاقة القصر بالشعب إلى ما تفرضه متطلّبات بناء الدولة الحديثة، هي المقاربة التي يصرّ عليها الشعب الأردني، للحصول على كامل حقوقه مقابل التزامه بأداء ما عليه من واجبات.. الملايين التي يتمّ رصدها لنفقات الديوان الملكي يفترض أن تتولّى الحكومة مسؤوليّة إنفاقها، دون تهميش دور المجالس المحليّة، وتحت رقابة البرلمان، في إطار خطّة تنمويّة شاملة، وبخلاف هذا لا يمكن الحديث عن دولة حديثة، تحترم مواطنيها وكرامتهم الإنسانيّة.
 
تابعو الأردن 24 على google news