معان وهيبة الدولة
لميس أندوني
جو 24 : من اللافت للنظر في نقاش أحداث معان مفاهيم معينة؛ أبرزها أهمية إعادة فرض هيبة الدولة، وأن الانتقال من نظام اقتصادي ريعي إلى الاقتصاد الإنتاجي أدى إلى تهميش فئات واسعة من الأردنيين كانوا يعتمدون على القطاع العام لتأمين معيشتهم.
هناك إشكالية في مثل هذه التحليلات؛ أولاً أن مفهوم هيبة الدولة يعني عادة اللجوء إلى/ وتبرير الحلول الأمنية القمعية على حساب هيبة المواطن وكرامته. ثانياً؛ لم تكن هناك عملية انتقال من المرحلة " الريعية" إلى النظام الإنتاجي، لا في عام 1989، عندما بدأت اللبرلة تمهيدا "لبرنامج التحول الاقتصادي"، ولا في الحاضر.
يتم تمرير هذه المقولات، بحسن أو سوء نية، تجنباً لاستحقاقات سياسية اقتصادية، تؤسس لدولة المشاركة والرقابة والمساءلة، وسيادة القانون، وأسس العدالة الاجتماعية ولو في الحد الأدنى، أي دولة المواطنة والحقوق.
لذا نرى تخبطا يراوح بين السماح بالفلتان الأمني وحمل السلاح إلى تقييد الحريات وتجريم المعارضة السياسية، بل واستعمال حالات الفوضى، لتوسيع الحلول الأمنية إلى درجة يحق لنا الشك بأنها كلها خطوات تمهيدية لفرض حالة طوارئ، ليس بالضرورة معلنة، لتمرير إجراءات رفع الأسعار، وأي التزامات إقليمية يتم فرضها على الأردن سواء تجاه سورية والتسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي.
أما مقولة ان جوهر الأزمة من جراء عملية انتقال اقتصادي، من نظام "اتكالي إلى "انتاجي" فهذه مغالطة كبرى على أقل تقدير؛ نعم تم انتقال بداية عام 1989، من نظام يعتمد الترضية بالوظائف، "والرعاية الأبوية" التي تضمن الولاء من خلال الأعطيات والمكارم إلى لبرلة غير منضبطة، ترافقها عمليات خصخصة تفتقر إلى معايير النزاهة والسيادة لمقدرات الوطن، أدت في النهاية إلى نشوء فروقات اجتماعية وطبقية واسعة، تحولت إلى غضب شعبي خاصة عندما أفاق الأردنيون على أن الأغلبية ستدفع ثمن أخطاء مرحلة كاملة من الاستهتار والخديعة.
انتفضت معان في نيسان 1989 لأنها أحست أن الدولة تخلت عنها، نتيجة انخفاض قيمة الدينار ورفع الدعم عن المحروقات، لأن أغلب سكانها هم من موظفي الدولة:أجهزة الأمن والجيش، أي من ذوي الرواتب المحدودة التي تضررت بشكل صادم ومباشر وأحست بخطر فقدانها أمانها واستقرارها.
كان الحل حينها بالعودة إلى الحياة البرلمانية أي باعتماد المشاركة الشعبية والتمثيل، لتحمل أعباء الخسارة الاقتصادية؛ وكانت هناك فرصة بتأسيس التعددية وبناء اقتصاد إنتاجي وتوزيع دخل عادل للحفاظ على توازن اجتماعي وسياسي.
لكننا دخلنا في برنامج تحول اقتصادي يتطلب انسحاباً للدولة من الرعاية الاجتماعية والسياسية للمجتمع؛ فإنهاء المكارم والعطايا يتطلب الاعتراف بالحقوق الاقتصادية للمواطن، من ضمان فرص العمل والتوظيف والتعليم والصحة، لا انسحابا للدولة وتغييبا للحقوق.
ما تم عندنا هو تعميق التشويه للبنية الاجتماعية، من جراء تطبيق جوانب من "الرأسمالية المتوحشة"، مع استمرار سياسة ثقافة العطايا والمكارم، ليس فقط لضمان الولاء لكن عملياً كترضية تشغل الناس عن حقيقة ما يحدث من تغييب الرقابة الشعبية، لعملية الانقلاب التدريجي على الحريات والتمثيل، ولإبعاد الأنظار عن نشوء مركز أمني سياسي اقتصادي، إقصائي في طبيعته ونفوذه.
ما يحدث في معان يثير أسئلة إذا كانت حالة الفلتان من سماح بالتهريب واقتناء أسلحة والتسلح، تندرج تحت عنوان خلق حالة فوضى "مدارة"، للتلهية عن الأزمة الاقتصادية السياسية، ولمنع نشوء تيارات سياسية فعالة؟ فخلق حالات فلتان امني هو تكتيك متبع من الدول الكبرى لتبرير التدخلات العسكرية وفي داخل الدول صغيرة وكبيرة لتبرير الحلول الأمنية.
غياب الرؤية التنموية لم يكن صدفة، فاللبرلة "غير المنضبطة"، كما تطبق خاصة في الدول "النامية" تعتمد على فتح الأسواق والنمو، بدلا من التنمية، لتعميق تبعية هذه الدول اقتصادياً وسياسياً للغرب، فما بك إذا كانت من دون رقيب وحسيب؟
فما أن تقلصت ميزانية الدولة بسبب العجز والمديونية، تقلصت المكارم والأعطيات،من دون أن تحل مكانها حقوق، لا مفهوما ولا ممارسة، فاختلطت المفاهيم، فالإنسان المهمش يريد فرصة في العيش والمستقبل فلا تلوموه إذا تمسك بالمكارم، أما الانتهازي المستفيد فيرى فرصه في نظام العطايا والرعايا تضيع، فالنظام لم يؤسس لقيم بديلة.
لكن من الظلم تلخيص غضب الناس بأنه نابع من ثقافة "اتكالية"، خاصة في غياب حماية للحقوق و لشبكة أمان اجتماعي، كل ما يعرفه المسحوق خوفه أن يطحن تحت عجلات الغلاء المستمر في وضع غير مستقر.
وجد أبناء معان أنفسهم ليسوا فقط مهمشين ومعزولين، ولا غرابة في انتشار التيارات السلفية في المدينة، بل يعاملون بلغة التخويف والحصار كأنهم خطر أمني دائم، وكأن تم قذفهم خارج الوطن مكانياً ونفسانياً، إلى أن صورت معان على أنها "مشكلة أمنية"، تتطلب فرض "هيبة الدولة، فيما قد يكون اختبارا مصغرا، لمرحلة بدأت من تكميم الأفواه بحجب المواقع، وقمع احتجاجات ضد ضيق اقتصادي مقبل. (العرب اليوم)
l.andony@alarabalyawm.net
رؤية جميع المقالات
هناك إشكالية في مثل هذه التحليلات؛ أولاً أن مفهوم هيبة الدولة يعني عادة اللجوء إلى/ وتبرير الحلول الأمنية القمعية على حساب هيبة المواطن وكرامته. ثانياً؛ لم تكن هناك عملية انتقال من المرحلة " الريعية" إلى النظام الإنتاجي، لا في عام 1989، عندما بدأت اللبرلة تمهيدا "لبرنامج التحول الاقتصادي"، ولا في الحاضر.
يتم تمرير هذه المقولات، بحسن أو سوء نية، تجنباً لاستحقاقات سياسية اقتصادية، تؤسس لدولة المشاركة والرقابة والمساءلة، وسيادة القانون، وأسس العدالة الاجتماعية ولو في الحد الأدنى، أي دولة المواطنة والحقوق.
لذا نرى تخبطا يراوح بين السماح بالفلتان الأمني وحمل السلاح إلى تقييد الحريات وتجريم المعارضة السياسية، بل واستعمال حالات الفوضى، لتوسيع الحلول الأمنية إلى درجة يحق لنا الشك بأنها كلها خطوات تمهيدية لفرض حالة طوارئ، ليس بالضرورة معلنة، لتمرير إجراءات رفع الأسعار، وأي التزامات إقليمية يتم فرضها على الأردن سواء تجاه سورية والتسوية السياسية للصراع العربي- الإسرائيلي.
أما مقولة ان جوهر الأزمة من جراء عملية انتقال اقتصادي، من نظام "اتكالي إلى "انتاجي" فهذه مغالطة كبرى على أقل تقدير؛ نعم تم انتقال بداية عام 1989، من نظام يعتمد الترضية بالوظائف، "والرعاية الأبوية" التي تضمن الولاء من خلال الأعطيات والمكارم إلى لبرلة غير منضبطة، ترافقها عمليات خصخصة تفتقر إلى معايير النزاهة والسيادة لمقدرات الوطن، أدت في النهاية إلى نشوء فروقات اجتماعية وطبقية واسعة، تحولت إلى غضب شعبي خاصة عندما أفاق الأردنيون على أن الأغلبية ستدفع ثمن أخطاء مرحلة كاملة من الاستهتار والخديعة.
انتفضت معان في نيسان 1989 لأنها أحست أن الدولة تخلت عنها، نتيجة انخفاض قيمة الدينار ورفع الدعم عن المحروقات، لأن أغلب سكانها هم من موظفي الدولة:أجهزة الأمن والجيش، أي من ذوي الرواتب المحدودة التي تضررت بشكل صادم ومباشر وأحست بخطر فقدانها أمانها واستقرارها.
كان الحل حينها بالعودة إلى الحياة البرلمانية أي باعتماد المشاركة الشعبية والتمثيل، لتحمل أعباء الخسارة الاقتصادية؛ وكانت هناك فرصة بتأسيس التعددية وبناء اقتصاد إنتاجي وتوزيع دخل عادل للحفاظ على توازن اجتماعي وسياسي.
لكننا دخلنا في برنامج تحول اقتصادي يتطلب انسحاباً للدولة من الرعاية الاجتماعية والسياسية للمجتمع؛ فإنهاء المكارم والعطايا يتطلب الاعتراف بالحقوق الاقتصادية للمواطن، من ضمان فرص العمل والتوظيف والتعليم والصحة، لا انسحابا للدولة وتغييبا للحقوق.
ما تم عندنا هو تعميق التشويه للبنية الاجتماعية، من جراء تطبيق جوانب من "الرأسمالية المتوحشة"، مع استمرار سياسة ثقافة العطايا والمكارم، ليس فقط لضمان الولاء لكن عملياً كترضية تشغل الناس عن حقيقة ما يحدث من تغييب الرقابة الشعبية، لعملية الانقلاب التدريجي على الحريات والتمثيل، ولإبعاد الأنظار عن نشوء مركز أمني سياسي اقتصادي، إقصائي في طبيعته ونفوذه.
ما يحدث في معان يثير أسئلة إذا كانت حالة الفلتان من سماح بالتهريب واقتناء أسلحة والتسلح، تندرج تحت عنوان خلق حالة فوضى "مدارة"، للتلهية عن الأزمة الاقتصادية السياسية، ولمنع نشوء تيارات سياسية فعالة؟ فخلق حالات فلتان امني هو تكتيك متبع من الدول الكبرى لتبرير التدخلات العسكرية وفي داخل الدول صغيرة وكبيرة لتبرير الحلول الأمنية.
غياب الرؤية التنموية لم يكن صدفة، فاللبرلة "غير المنضبطة"، كما تطبق خاصة في الدول "النامية" تعتمد على فتح الأسواق والنمو، بدلا من التنمية، لتعميق تبعية هذه الدول اقتصادياً وسياسياً للغرب، فما بك إذا كانت من دون رقيب وحسيب؟
فما أن تقلصت ميزانية الدولة بسبب العجز والمديونية، تقلصت المكارم والأعطيات،من دون أن تحل مكانها حقوق، لا مفهوما ولا ممارسة، فاختلطت المفاهيم، فالإنسان المهمش يريد فرصة في العيش والمستقبل فلا تلوموه إذا تمسك بالمكارم، أما الانتهازي المستفيد فيرى فرصه في نظام العطايا والرعايا تضيع، فالنظام لم يؤسس لقيم بديلة.
لكن من الظلم تلخيص غضب الناس بأنه نابع من ثقافة "اتكالية"، خاصة في غياب حماية للحقوق و لشبكة أمان اجتماعي، كل ما يعرفه المسحوق خوفه أن يطحن تحت عجلات الغلاء المستمر في وضع غير مستقر.
وجد أبناء معان أنفسهم ليسوا فقط مهمشين ومعزولين، ولا غرابة في انتشار التيارات السلفية في المدينة، بل يعاملون بلغة التخويف والحصار كأنهم خطر أمني دائم، وكأن تم قذفهم خارج الوطن مكانياً ونفسانياً، إلى أن صورت معان على أنها "مشكلة أمنية"، تتطلب فرض "هيبة الدولة، فيما قد يكون اختبارا مصغرا، لمرحلة بدأت من تكميم الأفواه بحجب المواقع، وقمع احتجاجات ضد ضيق اقتصادي مقبل. (العرب اليوم)
l.andony@alarabalyawm.net
رؤية جميع المقالات