من البترا إلى عمّان.. استثمار الذاكرة ومستقبل الدولة الأردنيّة
جو 24 :
تامر خورما - في قصص "الفانتازيا" وحكايات "السحرة" و"الجان"، يكون محور الحبكة ماثلا في قدرات "البطل" الخارقة، وما يمتلكه من "تعويذات" يلقي بها عبر "عصا سحريّة"، تفجّر الحلول من بطن المستحيل، وتصنع المعجزات من اللاشيء، لإعادة ترتيب الأحداث بما يمكّن من حلّ أيّة معضلة قد تواجه هذا "الخارق".. في الأردن لا يختلف الأمر كثيرا، فهنالك من لا يؤمن سوى بحلول مثل هذه "العصا السحريّة"، التي ندعوها في عالم الواقع بفلسفة "البيع"!
في الأمس القريب كان الأردن يشكو من ضائقة اقتصاديّة، أفضت إلى تشكّل ملامح أزمة قد يصعب تحمّلها أو التعامل معها.. أسباب متعدّدة ومتداخلة كانت وراء ذلك، ابتداء بسوء الإدارة والتخطيط، وليس انتهاء باستشراء الفساد، ولكن عوضا عن تشخيص الوضع وأخذ تلك الأسباب بعين الإعتبار، تقرّر اللجوء إلى حلّ سحري، تمثّل في عمليّة "بتر" جذريّة، بدأت ببيع وتصفية مؤسّسات الدولة.. فماذا كانت نتيجة هذه "التعويذة" على الواقع الاقتصادي- الإجتماعي؟ السحر انقلب على الساحر، وملامح الأزمة نضجت وتطوّرت إلى مديونيّة مسكونة بسعار يأكل الأخضر واليابس!
بعد هذه التجربة المريرة، هنالك من لايزال يحاول إيقاظ غول "البيع" لمعالجة ما تسبّبت به هذه المقاربة أساسا، وكأن لا حلّ لأية معضلة أو مشكلة سوى بتلك التعويذة، التي يريد البعض إلقائها على كلّ مؤسّسة، بل وكلّ شبر ضمن حدود الدولة الأردنيّة، وكأن الدولة غير قادرة على إدارة ما تملك، ليطرح منطق "البتر" كحلّ وحيد وشامل، لكافّة المشاكل والأزمات!
ترى، هل هنالك من يستطيع تفسير هذه النزعة الجارفة لاختزال الوطن في فلسفة "بيع" كلّ شيء للمستثمر الأجنبي، وتمكينه تماما من الإمساك بناصية الإقتصاد الوطني، عبر تملّك كافّة القطاعات الحيويّة، لتكون البلاد وما عليها رهنا لإرادته ورأس ماله الذي كلّما ابتلع أرضا، تساءل هل من مزيد؟!
يدور الحديث هذه الأيّام حول مشاريع اقتصاديّة قادمة، وتعديلات قانونيّة مقترحة، من شأنها تمكين رأس المال الأجنبي من كلّ شاردة وواردة.. حتّى مدينة البترا باتت في مرمى فلسفة البيع، وكأن الدولة الأردنيّة عاجزة عن استثمار هذه البوّابة السياحيّة، الضاربة جذورها في التاريخ، وفي أعماق الهويّة الوطنيّة!
رئيس سلطة اقليم البترا، سليمان الفرجات، لجأ إلى حسابه على موقع التواصل الاجتماعي "الفيسبوك" ليعبّر عن موقفه فيما يتعلّق بمشروع القانون المقترح لهذه المدينة التاريخيّة. الرجل تخندق خلف احتفاظ السلطة "بحقها في الردّ" و"مقاضاة" الأشخاص الذين ينشرون ما وصفه بـ "الإشاعات المسيئة"، حول إمكانيّة بيع أراضي الأنباط لمستثمرين أجانب، في حال تمرير القانون المذكور.
الفرجات اعتبر أن كلّ الحديث الذي أثير حول وجود ميل للاستثمار في منطقة البترا مجرّد "وهم"، مبرّرا ذلك بحقيقة أن القانون لا يتيح بيع الأراضي المحميّة، حيث قال: ".. انتشرت في الآونة الاخيرة العديد من الإشاعات بخصوص مشاريع وهمية وبيع لأراضي البترا، وهذه المعلومات غير صحيحة، حيث أن أراضي المحمية لا يجوز التصرف بها بموجب القانون".
لكن من قال إن المقصود من إثارة المخاوف المشروعة، حول احتمال تمكين رأس المال الأجنبي من الاستثمار في البترا، هو إتاحة بيع أراضي المحميّة؟! طبعا القانون لا يجيز ذلك، ولكن ليس هنا مربط الفرس. البترا ليست "المحميّة" فقط، بل هي كلّ شبر تحتضنه هذه المدينة الورديّة، التي تعدّ بوّابة التاريخ والإرث الحضاري.. هذه الأيقونة النبطيّة ليست مجرّد "خزنة" و"سيق"!
الآثار التي تمّ اكتشافها حتّى الآن في المدينة الورديّة، ليست بالضرورة هي كلّ الكنوز التاريخيّة الضاربة بأعماق كلّ شبر من أراضيها.. عبق التاريخ يسود بسحره فوق كلّ ذرّة تراب في المنطقة، واقتصار منع التملّك على أراضي المحميّة فقط، لا يعني أبدا حماية المدينة بأسرها، من أطماع ما اتّفق على تسميته بـ "المستثمر الأجنبي"..
هذا المستثمر، الذي يحاول المروّجون لمقترح تعديلات قانون سلطة إقليم البترا تمكينه في التملّك والاستثمار في المدينة -حتّى وإن لم تشمل الملكيّة الآثار أو "المحميّة"- سيكون قادرا على فرض سطوته وهيمنته على بقعة في إحدى أبرز المدن التاريخيّة، وقد يكون هذا "الأجنبي" من أيّة جنسيّة، حتّى لو كانت "اسرائيليّة".. لا يخفى على أحد الأطماع الصهيونيّة المعلنة في البترا، ابتداء من محاولات بعض "السيّاح" دفن آثار مزعومة في أراضيها، وليس انتهاء بمحاولة الكيان الصهيوني الترويج للمدينة الورديّة على أنّها "جزء" من "تاريخه" المزعوم في المنطقة.
المصيبة، أنّه في مواجهة هذه الأطماع مازال هناك من يفكّر بعقليّة تجاريّة بحتة، لا تتجاوز مدركاتها حدود استجداء الربح السريع، عبر "استثمار" اعتباطيّ! حالة من عدم الاكتراث واللامبالاة القاتلة، تسكن بعض من يسعون لتمرير قانون يجعل لـ "الاستثمار الأجنبي" موطئ قدم في مهد الأنباط.. وكأن الوطن وتاريخه وحضارته محض "فرجة" مطروحة للبيع!
والمصيبة الأكبر تكمن في هذا الحديث الذي يحاول تصوير المشكلة وكأنّها تقتصر فقط على الآثار المكتشفة، بالتوازي مع التلويح بمقاضاة من يعبّر عن مخاوفه، وتمسّكه بموقف الدفاع عن الأردن -تاريخا ووجودا- في مواجهة صفقة القرن، والأطماع الصهيونيّة التوسّعيّة.
صفقة نتنياهو_ ترمب التي وصفت بأنّها "صفقة القرن"، ليست مجرّد محاولة إبرام اتّفاق سياسيّ، حول ترسيم حدود كيان العدو، وتحديد موقع عاصمته المزعومة.. هذا الكيان لا يعرف حدودا، ولن تكون له أيّة حدود مستقبليّة تشكّل عائقا أمام أطماعه السرطانيّة.. ما يهمّ العدو فعلا من هذه "الصفقة" هو شقّها الإقتصادي، الذي يمكّنه من المضي في مشروعه كمهيمن اقتصادي مركزي، تلحق به كافّة "دول الجوار" عبر مشاريع تقوّض استقلاليّتها وسيادتها، كصفقة الغاز، وغيرها من مشاريع الطاقة والمياه، وسكك الحديد، وكافّة ملحقات مشروع كوشنر.
في مواجهة هذا المشروع الإقتصادي لتحقيق الهيمنة الصهيونيّة المطلقة، تحضرنا مبادئ الشهيد وصفي التلّ، التي تتمحور حول حقيقة أن "من لا يزرع قمحه، لا يملك قراره السياسي".. لذا، من البديهي أن يكون خندق الدفاع الأوّل عن الوجود الأردني هو مناهضة مثل هذه المشاريع "الاستثماريّة"، التي تهدف إلى تمكين "الأجنبي".. وكأن الدولة الأردنيّة غير قادرة على إدارة مواردها، والارتقاء اقتصاديّا وبالتالي سياسيّا.
هل الأردن عاجز عن الاستثمار في أراضيه، سواء بالبترا أو غيرها؟ وهل هنالك أيّ مبرّر لهذا التهافت على رأس المال الأجنبي، ودون حتّى وجود قيود واضحة تحدّد جنسيّة وهويّة هذا "المستثمر"؟ ثمّ ما الذي جناه الأردن منذ بدء نهج الخصخصة؟ كيف كانت المديونيّة وإلى أين وصلت بعد بيع الفوسفات والبوتاس والاتّصالات (و...)..
تخيّل مثلا أن نضطرّ، وفقا لفلسفة البيع تلك، إلى رهن العاصمة عمّان، بكافّة موجوداتها، بذريعة أنّها ترزح تحت وطأة ماليّة صعبة، فنقوم باللجوء إلى صندوق النقد الدولي، عبر أيّ طرف ثالث، لنقترض منه ما يلزم ولا يلزم، لإكمال الباص السريع، وإنشاء ميناء برّي، وشقّ الطرق وسبل العيش.. الخ.. هذا الافتراض طريق مختصر للتخلّي عن المسؤوليّة، بل والعاصمة نفسها، عبر الإختباء خلف ستار وهم عجز الأردنيّين عن إدارة بلادهم، وبالتالي خسارتها.. إذا كان هذا هو "الحل" في ذهن البعض، فماذا يعني لهم مفهوم الدولة!
حماية البترا هي ملخّص الموقف الرافض لإلحاق الأردن وطنا ودولة بأي كيان اقتصادي أجنبي.. التهافت على بيع كلّ شيء وطرحه على طاولة المستثمر الخارجي بذريعة الفقر أو الافتقار إلى رأس المال، قد يقود إلى بيع وتصفية كافّة المدن الأردنيّة، بلا استثناء..