بدنا سوس وسلفانا
لميس أندوني
جو 24 : بحثت عن قصة لأكسر تشاؤمية الكتابة عن الوضع الداخلي، وحتى الإقليمي، حيث أجد موطن جمال أكثر إنسانية: وبدأت ذكريات مترابطة وغير مترابطة تتوالى أمامي.
رأيت سِيدي بقمبازه وطربوشه- وستِّي بثوبها على عتبة الباب- وفي يده كيس الورق البني على أحر من الجمر، مع أن ما بداخله لم يكن أبدًا مفاجئا، فالحلوى، أو"الحاجة" كما كنّا نسمّيها، كانت محصورة في خيارين: حبّات السوس، والسّكر الفضي.
مذاق حلوى السوس ما زال مستلقيًا على لساني، أحاول استرجاعه في حبات عرق سوس أراها معلبة جذابة المظهر تدعوك إليها بكل إغراء ونزق؛ خلال سنوات إقامتي في أمريكا، كنت دائمة الانتباه إليها في أي مكان أكون، اشتريت الأسود والأحمر منها، على شكل ملبس مسطح أو مدور، وعلى شكل عصي ملونة، تذوب في الفم فور التهامها.
لكن بحثي باء بالفشل، ولم أعثر على طعم حلوى سوس "سِيدي"، أعتقد أنها كانت يابسة وليست فيها أية من ليونة حفيداتها العربيات أو الأجنبيات، وممكن أن لا تكون بالحلاوة التي أتذكرها، ولكن كل فخر الصناعات الأمريكية والأوروبية، لم تكن بطعمها ولا إحساسها.
أما السلفانا، فكانت أول قطعة شوكولاتا عرفتها وعرفها جيلي، اعتبرتها هدية غالية وعزيزة، تدخل السعادة إلى القلب، لسبب لم أفهمه حينها، ولم يكن فقط في السكر، بل كما اكتشف الباحثون بعد حين، ففي الشوكولاتا مادة ترفع منسوب الفرح في النفس وتحارب الاكتئاب.
بلغني أن السلفانا، لا تزال موجودة في الأسواق، لكن لم أجرؤ على البحث عنها، فلا أريد أن افسد طعمها في فمي وفي روحي، وأغار عليها من لوائح الشوكولاتا السويسرية والبلجيكية المتعالية في أناقتها وزخرفتها.
أذكر أول لعبة لي لفتاة طفلة، بشعرها البني القصير، اعتقدت أنها تشبهني، وكنت شديدة العناية بها، وأتقاتل مع أخي حتى لا يمسها أو يخرب تسريحتها أو يعبث بها عندما كان يجاكرني، ولم تحل مكانها جيوش لعب الباربي الشقراء، كما كانت كلها في البدء، التي صدمتني أول مرة رأيتها عند صديقة لي، واعتقدت أنها ربما من صنع مخلوقات فضائية، تحدد مقاييس جمال لن أستطيع الوصول إليها أو الحلم بها.
في الصباح الباكر كنت أصحو وأذهب مباشرة إلى قفص "الأرانب "، التي كان يحضرها جدّي للعب معها، كنت أعرف كل واحد وواحدة منها معرفة "شخصية" ممتنة لوجود رفاق لعب تسرح في فروها الأبيض والسكني والبني، وأذكر كم هالني عندما استقيظت ذات يوم ووجدتها ناقصة، فبكيت طويلا ورفضت أن أتناول طعام الغداء يومها.
أرى اليوم رحلة إلى وادي شعيب، كان أبي يبحث عن خرير المياه الذي يبعث السكينة في النفوس، وإلى أشجار البرتقال وعبيرها في أريحا في الشتاء، وأتخيل أحيانا أنني ما زلت متمددة تحت شجرة بلوط باسقة في الرصيفة، رصيفة الطفولة الخضراء، كنت واثقة حينها أن شجرتي المفضلة تستطيع أن تغطي كل العالم بظلها.
عشت في خيال الذكريات، تزينها عيون الطفولة التي لا تبارحها بل تزين كل ما حولها الدهشة الدائمة فيها، ثم انتبهت أنني أحاول الهروب، فربما تختفي كل الأخبار والأحداث، من رفع للأسعار، إلى حمامات الدم، إلى البغض الطائفي والإقليمي، الهروب في السنوات الضوئية إلى حيث الأمان.
اكتشفت أن طعم عرق السوس "سيدي" والسلفانا كان يعيش في مخيلتي، أفضل من المهدئات ومضادات الإكتئاب، وكنت أود أن أقترح على الرئيس عبدالله النسور، توزيع السوس والسلفانا، فربما نتحمل ما هو آت، لكن كيف يمكن أن نستعيد طعم الحلاوة البريئة بعد أن تعمقت المرارة في دواخلنا؟ (العرب اليوم)
l.andony@alarabalyawm.net
رأيت سِيدي بقمبازه وطربوشه- وستِّي بثوبها على عتبة الباب- وفي يده كيس الورق البني على أحر من الجمر، مع أن ما بداخله لم يكن أبدًا مفاجئا، فالحلوى، أو"الحاجة" كما كنّا نسمّيها، كانت محصورة في خيارين: حبّات السوس، والسّكر الفضي.
مذاق حلوى السوس ما زال مستلقيًا على لساني، أحاول استرجاعه في حبات عرق سوس أراها معلبة جذابة المظهر تدعوك إليها بكل إغراء ونزق؛ خلال سنوات إقامتي في أمريكا، كنت دائمة الانتباه إليها في أي مكان أكون، اشتريت الأسود والأحمر منها، على شكل ملبس مسطح أو مدور، وعلى شكل عصي ملونة، تذوب في الفم فور التهامها.
لكن بحثي باء بالفشل، ولم أعثر على طعم حلوى سوس "سِيدي"، أعتقد أنها كانت يابسة وليست فيها أية من ليونة حفيداتها العربيات أو الأجنبيات، وممكن أن لا تكون بالحلاوة التي أتذكرها، ولكن كل فخر الصناعات الأمريكية والأوروبية، لم تكن بطعمها ولا إحساسها.
أما السلفانا، فكانت أول قطعة شوكولاتا عرفتها وعرفها جيلي، اعتبرتها هدية غالية وعزيزة، تدخل السعادة إلى القلب، لسبب لم أفهمه حينها، ولم يكن فقط في السكر، بل كما اكتشف الباحثون بعد حين، ففي الشوكولاتا مادة ترفع منسوب الفرح في النفس وتحارب الاكتئاب.
بلغني أن السلفانا، لا تزال موجودة في الأسواق، لكن لم أجرؤ على البحث عنها، فلا أريد أن افسد طعمها في فمي وفي روحي، وأغار عليها من لوائح الشوكولاتا السويسرية والبلجيكية المتعالية في أناقتها وزخرفتها.
أذكر أول لعبة لي لفتاة طفلة، بشعرها البني القصير، اعتقدت أنها تشبهني، وكنت شديدة العناية بها، وأتقاتل مع أخي حتى لا يمسها أو يخرب تسريحتها أو يعبث بها عندما كان يجاكرني، ولم تحل مكانها جيوش لعب الباربي الشقراء، كما كانت كلها في البدء، التي صدمتني أول مرة رأيتها عند صديقة لي، واعتقدت أنها ربما من صنع مخلوقات فضائية، تحدد مقاييس جمال لن أستطيع الوصول إليها أو الحلم بها.
في الصباح الباكر كنت أصحو وأذهب مباشرة إلى قفص "الأرانب "، التي كان يحضرها جدّي للعب معها، كنت أعرف كل واحد وواحدة منها معرفة "شخصية" ممتنة لوجود رفاق لعب تسرح في فروها الأبيض والسكني والبني، وأذكر كم هالني عندما استقيظت ذات يوم ووجدتها ناقصة، فبكيت طويلا ورفضت أن أتناول طعام الغداء يومها.
أرى اليوم رحلة إلى وادي شعيب، كان أبي يبحث عن خرير المياه الذي يبعث السكينة في النفوس، وإلى أشجار البرتقال وعبيرها في أريحا في الشتاء، وأتخيل أحيانا أنني ما زلت متمددة تحت شجرة بلوط باسقة في الرصيفة، رصيفة الطفولة الخضراء، كنت واثقة حينها أن شجرتي المفضلة تستطيع أن تغطي كل العالم بظلها.
عشت في خيال الذكريات، تزينها عيون الطفولة التي لا تبارحها بل تزين كل ما حولها الدهشة الدائمة فيها، ثم انتبهت أنني أحاول الهروب، فربما تختفي كل الأخبار والأحداث، من رفع للأسعار، إلى حمامات الدم، إلى البغض الطائفي والإقليمي، الهروب في السنوات الضوئية إلى حيث الأمان.
اكتشفت أن طعم عرق السوس "سيدي" والسلفانا كان يعيش في مخيلتي، أفضل من المهدئات ومضادات الإكتئاب، وكنت أود أن أقترح على الرئيس عبدالله النسور، توزيع السوس والسلفانا، فربما نتحمل ما هو آت، لكن كيف يمكن أن نستعيد طعم الحلاوة البريئة بعد أن تعمقت المرارة في دواخلنا؟ (العرب اليوم)
l.andony@alarabalyawm.net