من سيتحمل مسؤولية التفقير؟
لميس أندوني
جو 24 : موافقة مجلس النواب على إجراءات التقشف القادمة، تجعله يتحمل مسؤولية كاملة عن التداعيات الاقتصادية والاجتماعية لرفع الأسعار- فلم تعد سياسة حكومية أو إملاءات لصندوق النقد الدولي، بل أخذت شرعية نيابية، وبالنسبة للغرب شعبية.
كل الأطراف تعاملت مع مسألة تحدد مرحلة قادمة باستخفاف، أو على الأقل بعدم جدية كاملة: الدولة تريد أن توفي مستحقاتها للدول المانحة والدائنة، الحكومة تريد أن تنجح في مهمتها المحددة سلفاً، ومعظم أعضاء مجلس النواب، مع وجود استثناءات، اهتمت بالمناكفة وتصفية حسابات عوضاً عن تقديم برامج بديلة.
منذ البداية لم يكن هناك استعداد لسماع أية وجهة نظر مخالفة، سواء من داخل "السيستم" أو "خارجه"، سواء من تحت القبة أو من صفوف المعارضة: فالجميع لا يفهم ولا يفقه شيئاً إلا إذا اتفق مع الرؤية نفسها، ويا ليتها رؤية، بل حزمة إجراءات تمت تجربتها في بلدان كثيرة، "نتائجها" السياسية والاجتماعية ملأت صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون.
كريسيتين لاغارد، رئيسة الصندوق الدولي، نفسها أقرت بأن الصندوق بالغ في فرض إجراءات التقشف على اليونان، لكن الخبر مرّ دون أن يحدث صدى يُذكر: السيدة لاغارد لن تتحمل مسؤولية اعترافها، فليجد اليونانيون عزاءهم في إحدى أساطير الأجداد، فمن يهتم.
الأسوأ بالنسبة للأردن، إذا كان هذا أداء مجلس النواب مع أنه غير مفاجئ، فكيف سنعتمد عليه بإقرار قوانين مفصلية تحد من الهدر وتؤسس لحقوق اقتصادية للمواطن وتساهم في إعادة توزيع الدخل بشكل يخفف من معاناة قطاعات واسعة من الغلاء المتصاعد؟
أجزم، من تجربتي السابقة كمراسلة صحافية، أن الحكومات الغربية والسفراء وممثلي الصندوق والبنك الدولي، كانوا أول المتصلين برئيس الوزراء لتهنئته، على موافقة مجلس النواب- فهذه الدول معنية وقلقة على الديمقراطية ولا تتحمل "تهمة" فرض السياسات، وبرلماننا برأيها من مثل هذه "التهم المغرضة".
أريد أن أهنئ الرئيس، واعترف أنني كنت مخطئة، فقد نجح في حملة العلاقات العامة، فكسب سياسيين، أبدوا تحفظهم في البداية، وكتابا وصحافيين، كانت كتاباتهم عن رفع الأسعار، تدل إما أنهم انتقلوا إلى صفوف المعارضة، أو أنهم قرأوا أدبيات مناهضة عولمة الفقر، وفجأة تغيروا إلى درجة السخرية المبطنة من النواب الذين عارضوا رفع الأسعار، ومن البدائل المطروحة: فالأردن كله عاجز عن تفكير بديل، غير الاستسلام لمعادلة واحدة لا مثيل لها.
الغريب أنه في الفترة الأخيرة زار الأردن اقتصاديان هامان؛ الأول جون ستغيلتز، الفائز بجائزة نوبل، هو ليبرالي التوجه لكنه اشتهر بانتقاداته الحادة لسياسات مؤسسات الإقراض الدولي، والدكتور أحمد سيد النجار، واحد من أبرز اقتصاديي التنمية، الذي برع بوضع برامج بديلة، تؤسس للانتقال إلى مجتمعات إنتاجية.
ستيغلتز، في لقاء حضرته مع مجموعة من المهتمين، كرّر نصيحته أنه على الدول المقترضة أن ترضى بما يناسبها فقط، لكن يجب أن يكون لها خطة تتحاور على أساسها مع الغرب، أما النجار، الذي يعارض قروض صندوق النقد الدولي، لكنه يقول إذا تم التوقيع فيجب الإصرار على أن تذهب الأموال إلى مشاريع انتاجية، تؤمن التخلص من المديونية وتكون جزءا من بناء اقتصاد وطني.
كان هناك اهتمام كبير بالأول واهتمام أقل بالثاني، مع أن النجار، يدافع بقوة وعلمية عملية، عن الحقوق الاقتصادية للشعوب ضد النهب والسياسات التي تشوه البنية الاقتصادية الاجتماعية، وتصادر مقدرات أوطان.
المهم لم يسمع لهذا أو ذاك: فهناك رؤية محجوبة، تجعل موقف من يعتقد أنه الضعيف أضعف، فلا مجال للمقاومة بل إن الموقف "الحضاري" يتطلب المهادنة لنكون في نادي المقبولين حتى لو دفعنا الثمن لاحقاً.
لكن أسال في النهاية كل من كان له دور في تمرير السياسات أو الترويج لها، أين ستكونون عندما يبدأ الوجع؟ هل ستواجهون عيون أب يعصر دم قلبه وروحه ليجد أنها لا تكفي لسد رمق أطفاله، أم في ردهة فندق تتباحثون في أزمة الفقر، أو في صالون سياسي تتسلون بالنميمة عن الوزراء والنواب؟ فأنتم من تواطئكم تسترزقون وتتمتعون. (العرب اليوم)
l.andony@alarabalyawm.net
كل الأطراف تعاملت مع مسألة تحدد مرحلة قادمة باستخفاف، أو على الأقل بعدم جدية كاملة: الدولة تريد أن توفي مستحقاتها للدول المانحة والدائنة، الحكومة تريد أن تنجح في مهمتها المحددة سلفاً، ومعظم أعضاء مجلس النواب، مع وجود استثناءات، اهتمت بالمناكفة وتصفية حسابات عوضاً عن تقديم برامج بديلة.
منذ البداية لم يكن هناك استعداد لسماع أية وجهة نظر مخالفة، سواء من داخل "السيستم" أو "خارجه"، سواء من تحت القبة أو من صفوف المعارضة: فالجميع لا يفهم ولا يفقه شيئاً إلا إذا اتفق مع الرؤية نفسها، ويا ليتها رؤية، بل حزمة إجراءات تمت تجربتها في بلدان كثيرة، "نتائجها" السياسية والاجتماعية ملأت صفحات الجرائد وشاشات التلفزيون.
كريسيتين لاغارد، رئيسة الصندوق الدولي، نفسها أقرت بأن الصندوق بالغ في فرض إجراءات التقشف على اليونان، لكن الخبر مرّ دون أن يحدث صدى يُذكر: السيدة لاغارد لن تتحمل مسؤولية اعترافها، فليجد اليونانيون عزاءهم في إحدى أساطير الأجداد، فمن يهتم.
الأسوأ بالنسبة للأردن، إذا كان هذا أداء مجلس النواب مع أنه غير مفاجئ، فكيف سنعتمد عليه بإقرار قوانين مفصلية تحد من الهدر وتؤسس لحقوق اقتصادية للمواطن وتساهم في إعادة توزيع الدخل بشكل يخفف من معاناة قطاعات واسعة من الغلاء المتصاعد؟
أجزم، من تجربتي السابقة كمراسلة صحافية، أن الحكومات الغربية والسفراء وممثلي الصندوق والبنك الدولي، كانوا أول المتصلين برئيس الوزراء لتهنئته، على موافقة مجلس النواب- فهذه الدول معنية وقلقة على الديمقراطية ولا تتحمل "تهمة" فرض السياسات، وبرلماننا برأيها من مثل هذه "التهم المغرضة".
أريد أن أهنئ الرئيس، واعترف أنني كنت مخطئة، فقد نجح في حملة العلاقات العامة، فكسب سياسيين، أبدوا تحفظهم في البداية، وكتابا وصحافيين، كانت كتاباتهم عن رفع الأسعار، تدل إما أنهم انتقلوا إلى صفوف المعارضة، أو أنهم قرأوا أدبيات مناهضة عولمة الفقر، وفجأة تغيروا إلى درجة السخرية المبطنة من النواب الذين عارضوا رفع الأسعار، ومن البدائل المطروحة: فالأردن كله عاجز عن تفكير بديل، غير الاستسلام لمعادلة واحدة لا مثيل لها.
الغريب أنه في الفترة الأخيرة زار الأردن اقتصاديان هامان؛ الأول جون ستغيلتز، الفائز بجائزة نوبل، هو ليبرالي التوجه لكنه اشتهر بانتقاداته الحادة لسياسات مؤسسات الإقراض الدولي، والدكتور أحمد سيد النجار، واحد من أبرز اقتصاديي التنمية، الذي برع بوضع برامج بديلة، تؤسس للانتقال إلى مجتمعات إنتاجية.
ستيغلتز، في لقاء حضرته مع مجموعة من المهتمين، كرّر نصيحته أنه على الدول المقترضة أن ترضى بما يناسبها فقط، لكن يجب أن يكون لها خطة تتحاور على أساسها مع الغرب، أما النجار، الذي يعارض قروض صندوق النقد الدولي، لكنه يقول إذا تم التوقيع فيجب الإصرار على أن تذهب الأموال إلى مشاريع انتاجية، تؤمن التخلص من المديونية وتكون جزءا من بناء اقتصاد وطني.
كان هناك اهتمام كبير بالأول واهتمام أقل بالثاني، مع أن النجار، يدافع بقوة وعلمية عملية، عن الحقوق الاقتصادية للشعوب ضد النهب والسياسات التي تشوه البنية الاقتصادية الاجتماعية، وتصادر مقدرات أوطان.
المهم لم يسمع لهذا أو ذاك: فهناك رؤية محجوبة، تجعل موقف من يعتقد أنه الضعيف أضعف، فلا مجال للمقاومة بل إن الموقف "الحضاري" يتطلب المهادنة لنكون في نادي المقبولين حتى لو دفعنا الثمن لاحقاً.
لكن أسال في النهاية كل من كان له دور في تمرير السياسات أو الترويج لها، أين ستكونون عندما يبدأ الوجع؟ هل ستواجهون عيون أب يعصر دم قلبه وروحه ليجد أنها لا تكفي لسد رمق أطفاله، أم في ردهة فندق تتباحثون في أزمة الفقر، أو في صالون سياسي تتسلون بالنميمة عن الوزراء والنواب؟ فأنتم من تواطئكم تسترزقون وتتمتعون. (العرب اليوم)
l.andony@alarabalyawm.net