التعليم الالكتروني بين الجدل والعمل
عمار البوايزة
جو 24 :
بصراحةٍ تامَّة، وبكلِّ وضوحٍ وصدق، فإنَّ ما يأتي على لسان الكثير من المسؤولين في وزارة التربية والتعليم، وما يُنشرُ ويُبثُّ من تصريحاتٍ وحواراتٍ ومقابلاتٍ تلفزيونية حول جودة التعليم الالكتروني، ليسَ إلا خُزعبلاتٍ وغزلياتٍ هامشية منضودةٍ على الرفِّ حيال الواقع الحقيقي للتعليم، ولا يتعدَّى كونه محضَ جُرعاتٍ مهدئة لأبناء المجتمع عامة والطلبة، وفتورٍ وعجزٍ وإخفاقٍ في صياغة الحلول الفعّالة لملف التعليم، الذي يواجه اليوم جُنوحاً خطيراً عن مساره الطبيعي بعـد الهيكل الجديد الذي فرضته آفة "كورونا"؛ فما لا يعلمهُ هؤلاء أنَّ التعليم الالكتروني أصبحَ مرضاً عُضالاً، أشدَّ فتكاً وأكثرَ ضرراً على مجتمع الطلبة وأهلهم من وباء "كورونا"، فكورونا سببٌ يُميتُ الإنسانَ مرةً، فينتهي بعدها إلى الأزل، أما التعليم الالكتروني فإنه الموتُ البطيء الذي يُداهم حياة أجيالنا القادمة، ويلوِّحُ بظهور جيلٍ مُفرغ من العلم والقيم والثقافة والفكر والثَّوابت، فيعدمُ كل شيء في الطالب، وكأنَّ الطالب يموتُ فيه كُلُّ شيء إلكترونياً مراتٍ ومرات، تماماً كما قال المتنبي: "أماتكم من قبلِ موتكم الجهلُ"؛ وكأنَّ هؤلاء المسؤولون خُلِقوا ليفكِّرون لزمانٍ غير زماننا، يحرثونَ في وادٍ، ويزرعونَ في وادٍ آخر، وغاية اهتمامهم فقط هو عدد زائري تلك المنصَّات الالكترونية، دون أن يلتفتوا إلى الجَوهر، حتى غـدا الطالب في حساباتهم وفضاءاتهم مجردَ رقمٍ فقط.
ما يُثير الدَّهشة، ويُفقِـدُ الواعي وعيه، هو ما تسمعه من تصريحات وحوارياتٍ رسمية على وسائل الاعلام بخصوص هذا الملف، إذْ لا يتعدَّى حديثُ المسؤولين النسب المئوية للطلبة الدَّاخلين إلى المنصَّات الالكترونية التعليمية، والاستشهاد بهذه الأرقام في تقييم نجاح تجربة التعلم عن بعد، وهم يعلمون تمام العلم أنَّ الطالب يدخلُ ملزماً وليس باختياره خوفاً من احتسابه غائباً، ثم فقدانه الفصل الدراسي والسنة الدراسية؛ ولا أدري كيف يُصَرِّح هؤلاء التربويون بنجاح التجربة، وهي لا تزال ضمن مرحلة التطبيق؟! فالتقييم عادةً ما يكون ختامياً، أي بعد الانتهاء من كافة المراحل (انتهاء العام أو الفصل الدراسي)؛ وإذا ما اعتبرنا فرضيتهم المسبقة للنجاح تقييماً مرحلياً ، فهل أخذوا كافة عناصر التقييم بعين الاعتبار؟! هل يستطيعون قياس الحصيلة العلمية التفاعلية للطلبة؟! وهل المنصَّات الالكترونية قادرة على تحديد مستوى الفهم والاستيعاب للطلبة؟! ففي الجانب الآخر ، لِمَ لا تكون نتائج الاختبارات الالكترونية ناتجةً عن تعلم ذاتي من قبل الطالب خارج المنصَّة؟! أو مساعدة وإعانة من قبل معلمٍ أو متخصص مثلاً؟! لذلك فإنَّ صحة ما يقالُ وقربه من الحقيقة والواقع يبقى مثار جدل.
هذا إضافةً إلى الإحراج ومحاولة التَّهرب وغضِّ النظر -من قبل البعض- عن إجابة العديد من التساؤلات المتعلقة بهذا الجانب، والتي ترد في أغلبها من أولياء الأمور والطلبة، وإن تمت إجابتها تكونُ طحناً نظرياً فلسفياً بلا طحين؛ ولا أُعزي ذلك إلا لسببٍ واحد، هو عدم امتلاك هؤلاء الجواب العلمي المُقنع، أو إقرارهم بفشلٍ التجربة وعدم قناعتهم بها؛ الذي يُفسِّر بدوره عدم وجود خطط استراتيجية بنائية تحيط بكل الجزئيات؛ فالتَّعليم عندما يقومُ على مبادراتٍ قصيرة الأمد واجتهاداتٍ فردية، بالتأكيد سيكون غير قادر على استيعاب الزَّمن وتهيئة النشء؛ فالواقع الذي يجري خارج أسوار الوزارة واقعٌ مختلفٌ جداً عمَّا تُصوِّرهُ آراء المسؤولين، وما يدور في أذهانهم؛ والذي يتضح في إعلان معالي وزير التربية والتعليم عن إمكانية عودة التعليم الوجاهي في مطلع الفصل الدراسي الثاني، والوطنُ غارقٌ حتى أذنيه في إصاباتِ ووفيات "كورونا"، وكأنَّه يستنهضُ الأحلام، ويستدعي حافظ ابراهيم من سُباته: "يبيتُ ينسجُ أحلاماً مُذَهَّبةً .. تُغنِّي تفاسيرها عن ابنِ سيرينِ"؛ والسؤال المطروح هنا على معالي الوزير: ما درجة الثقة التي تنطلق منها بعودة التعليم الوجاهي؟! وأنت ترى "كورونا" تجتاح المجتمع كالجراد، وما رِهانُك على إعادة الأمل وانتصار الناس على القلق ، لإعادة أبنائهم إلى المدارس؟! بعدما أصبح مستشارهم الرئيس هو الخوف.
لعلَّها دعوة لكل مهتمٍ ومسؤول، أنْ يدقِّق النظر ويقرأ بعين المسؤولية والاهتمام بعضاً من الصُّعوبات، التي تجاوزت كل أبعاد التقنية والتكنولوجيا الممثَّلة حالياً بالتعليم الالكتروني المفروض جرَّاء هذا الوباء، هذه الصُّعوبات والتحديات التي لا تزالَ تبحثُ عن مُخرجٍ فنانٍ يديرها بعين العناية والرعاية والواجب، لا من خلال عمليات كلاسيكية قائمة على كُتبٍ رسمية نظرية، تطيرُ لتغرِّد على مديريات التربية والتعليم في المملكة؛ ويكفينا تغاضٍ وتجاهلٍ وتسويفٍ وتكتيفٍ وتجريفٍ للتَّعليم ، فقد بلغت لقمة الجهلِ الحلقوم ، فلنَردَّها إنْ كنَّا نريدُ مصلحة الوطن ونهضته وحضارته؛ وإليكم بعضاً من هذه المشاكل والصُّعوبات:
أولاً: مصيرُ الطلبة الذين لا يتمكنون من دخول المنصَّات الالكترونية، إما لأسباب مالية أو لعدم توفر النت في مناطقهم أو عدم توفر أجهزة الكمبيوتر ، موضوعٌ لا يزالُ يؤرقهم ويؤرّق أهاليهم ، حتى وإنْ استطاعوا حضور الدُّروس عبر الحصص التلفزيونية ؛ فلا شكَّ أنهم يُظلمون بهذا الحل ، فمن حقِّهم أنْ توفَّر لهم الوزارة خدمة الدخول الى المنصة الالكترونية ، أسوةً بأقرانهم من الطلبة الآخرين ، حتى يكون لديهم فرصة الاطلاع على أنماط الواجبات والأسئلة التي تقدِّمها المنصة ؛ فكيف لوزارة التربية متابعة حضور وغياب هؤلاء الطلبة للحصص التلفزيونية؟! وهل ستضعُ رقيباً على كلِّ بيت؟! وكيف يتقدَّم هؤلاء الطلبة للاختبارات الشهرية والنهائية؟ وكيف ستُحسب درجاتهم النهائية؟
ثانياً: تدنِّي الحصيلة العلمية والمعلوماتية التي ينهلها الطالب من خلال التعلم الالكتروني ، نظراً لاتباع أسلوب السَّرد والتلقين في شرح موضوعات الدُّروس ولغالبية الصفوف.
ثالثاً: غياب العلاقة التفاعلية المباشرة بين المعلم والطالب ، لكون الدُّروس مسجَّلة مُسبقاً ، يخلقُ حاجزاً يمنع الطالب من الاستفسار وتوجيه السؤال وتلقِّي الإيضاح اللازم لأي جزئية أو موضوع ، مما لا يُضيفُ إلى الطالبِ شيئاً ؛ خاصةً وأن بعضاً ممن يقدِّمون الحصص يشرحونها بطريقة أبعد ما تكون عن الطالب ، وكأنَّهم يشرحون لأنفسهم أو لمتخصِّصين ؛ وبالتالي فإنَّ العملية لا تختلف كثيراً عن الأقراص التعليمية المرنة التي تُباع في الأسواق ، أو تلك الحصص التي تُنشر عبر قنوات (يوتيوب).
رابعاً: اختلاف الأسلوب في طرح المعلومات وشرح الدُّروس ، بتنوع المدرسين ، يُوسع الهوَّة بين الطالب والمعلومة ، وربَّما يجرُّهُ إلى التَّوهان ، فلماذا لا تعتمد المنصَّات الالكترونية كادراً محدداً من المعلمين لكل مادة ، وتتيح المجال للطالب مع بمشاهدة حصص المعلم الذي يرغب به ، ويشعر بأنه الأنسب لمستوى فهمه ، ويُلبي حاجته من حيث الطريقة والأسلوب؟ بحيث يكون هذا معياراً يعطي المعلمين دافعاً للتَّميز والابداع وتقديم الأفضل ، ويجعل المنصَّات عامل جذبٍ كبير للطلبة ، ولماذا يُفرض المعلم والحصة على الطالب رُغماً عنه؟ طالما أمكن ذلك.
خامساً: الملل والضَّجر الذي يشعرُ به أغلب الطلبة من الحصص ، نظراً لعدم ملاءمة تلك الحصص لمستوى تفكيرهم وطموحهم ؛ وإنصافاً للتعليم الالكتروني ، فهناك نخبة مقدَّرة من كادر المنصّة ؛ ومن جانبٍ آخر فإنَّه ليسَ صعباً أن يقدم معلماً حصةً الكترونية نموذجيةً متكاملة العناصر ، ويأخذ بالطالب بعيداً عن الاحساس بالملل والضَّيق والنُّفور ، بشرط اختيار ذوي الخبرة والتَّمكن والجدارة من المعلمين بشكلٍ دقيقٍ يعتمد الجانب الأكاديمي والأسلوب التربوي ، ثم رفع سويَّة كادر العاملين حالياً بمواصلة التدريب والتأهيل أكاديمياً وتربوياً وفنياً ؛ ولكن لكوننا في قلب العاصفة الآن ، فلا وقتَ لدينا ولا سَعة إلا بالاستعانة بالخبراء من الأكاديميين ، القادرون على إيصال المعلومة بأسلوبٍ مقبول ، يشجِّعُ الطالب ويلهمه الحماس على تلقي المزيد.
سادساً: المشاكل الفنية المتمثّلة في ضعف شبكة النت وانقطاع الخدمة المتكرر ، بسبب الضَّغط الهائل من قبل مستخدمي المنصَّات التعليمية ، يؤدي إلى ضياع كثيرٍ من الوقت على الطالب أثناء حضور الدُّروس ، وخاصة في حالات الاختبارات المحددة بزمنٍ معين ، فعندما يحدث عطل في الخادم يُجبر الطالب على إعادة الدخول للمنصَّة ، والتعامل مع نموذج اختبار جديد ، والذي بدوره يكون قد أضاع وقت الامتحان ، وجعل الطلبة ضحية لهذه الأعطال الالكترونية ، والتي حدثت في اختبار الشهر الأول من هذا العام ؛ فما الدور الذي يمكن أن تلعبه الوزارة في هذا الشأن؟ وهل من خطة ناجعة للتعامل مع هذه المشكلة من قبل وزارة الاتصال الرقمي؟
سابعاً: مجانية التعليم التي انتهجها الأردن على طول مسيرة التعليم ، تختزلها الوزارة في التعليم الالكتروني من الساعة السَّادسة صباحاً وحتى الساعة الرابعة عصراً ، بينما الفترة التالية تكون عبارة عن حزم انترنت مدفوعة ؛ مع العلم أنَّ أقل ما يمكن أن تُقدِّمه الوزارة هو إبقاء تلك المواقع مفتوحة مجاناً أمام الطلبة على مدار السَّاعة ، في ظل تردِّي الظروف المالية للأسر ، وما تعيشه من فقر وأوضاع قاهرة في ظروف جائحة "كورونا" ، مما يحرم الطلاب غير القادرين مالياً من نيل فرص المراجعة والمتابعة المسائية ؛ فهل تكون الوزارة هنا عوناً للطالب أم عبئاً عليه؟! ولماذا – مثلاً - لا تطلق مبادرة لدعم المنصّات من قبل الشركات ومؤسسات القطاع الخاص والبنوك ورجال الأعمال والمستثمرين والمقتدرين بدلاً من إلقاء الحمل المالي على ولي الأمر فيما بعد الساعة الرابعة؟!
ثامناً: الإجحاف بحق الطالب في زمن الحصة الالكترونية ، الذي يتراوح ما بين (7 – 30) دقيقة ، ، وذلك بهدف عدم إشعار الطالب بالملل ، باستثناء الصفوف العليا التي تصل فيها الحصة أحياناً إلى 40 دقيقة على حد تصريحات الوزارة ؛ فكما ذكرت سابقاً لو كانت الحصة تُقدّم بصورة مشوِّقة ، وأسلوب محفِّز للطالب ، لما كان الملل ، وإلا فما الذي يجعل أحدهم يقضي السَّاعات في متابعة مسلسل أو لعبة الكترونية دونما ضجر! مع أنَّ الوزارة كان لديها متّسعاً من الوقت منذ بدء الجائحة ، لتُعيد كثيرٍ من حساباتها وتحل العديد من المشاكل ، التي على رأسها إنتقاء الكوادر المتميزة للمنصّات الالكترونية ؛ لأن إعطاء الطالب حقَّه الكامل من ساعات التعليم أمرٌ ضروري ومُلح ؛ فلماذا لا تعمل الوزارة على توحيد وقت الحصص المصوَّرة للصفوف ليكون 35 دقيقة؟ بحيث تكون الحصة أكثر مرونة من حيث التأني في الشرح ، وتكثيف الأمثلة وعدم الاقتصار على ما داخل الكتاب ، وتوقُّف المدرس عند النقاط الهامة والمفصلية في كل موضوع ، وما إلى ذلك ، بشكل يتقارب فيه مع الحصة المدرسية المباشرة بنسبةٍ عالية ، وذلك وفق خطة زمنية لكل منهاج.
تاسعاً: إهمال جانب تفاوت الأعمار بين الطلبة لدى الأسرة الواحدة واختلاف صفوفهم ، يخلق بينهم مشكلة التَّضارب في متابعة المنصَّات الالكترونية ومشاهدة الحصص ، خاصة في الأسر التي لا يوجد فيها أجهزة كمبيوتر ، أو لا تملك إلا جهازاً واحداً فقط ؛ ورغم أنَّ الوزارة عملت على وضع برنامج للدروس ، يضمن عدم البث لكل الصفوف مرة واحدة ، إلا أن المشكلة تبقى قائمة ، فهنالك أُسر فيها ما يزيد عن سبعة طلاب من الذكور والإناث ، وهناك ما يزيد في بعض الأُسر ، كالأسر المجمَّعة التي يقيم فيها إبنة مطلقة وأولادها مثلاً ، وما إلى ذلك من الحالات في المجتمع.
عاشراً: عدم الوضوح في موضوع الحضور والغياب لحصص المنصّات ، ومما يُحسبُ للوزارة أنها وبالتعاون مع الشركة المسؤولة عن المنصّة ؛ ومما يُحسب للوزارة أنَّها استطاعت أن تُضيف خاصية رصد زمن مشاهدة الحصَّة لكل طالب ، بعد أن كان الطالب يكتفي بتسجيل الحضور على المنصة دون مشاهدة الدَّرس ؛ لكنَّ ذلك يفتح المجال لتساؤلاتٍ عدَّة ، فما مقدار زمن المشاهدة الذي ستعتمدهُ الوزارة لتأهيل الطالب للنجاح في المادة الواحدة والصف الواحد؟ وإنْ كان من رؤية لذلك ، فلماذا لا تعلن الوزارة ذلك صراحةً على وسائل الإعلام وعلى المنصَّة ذاتها ليتنبَّه الطلبة؟ وكيف يُعامل مثل هؤلاء الطلبة بطريقة حضور وغياب بهذا الشكل ، في حين لا يمكن متابعة حضور وغياب الطلبة الذين يتابعون المحطات التعليمية التلفزيونية؟
إلى هنا أكتفي بهذا القَدر من المشكلات المحورية والتساؤلات المنطقية ، التي حتماً تحتاج حُلولاً عاجلة بلا تهاون أو تباطؤ ، بحيث يتركَّز العمل فيها على إعادة هيكلة المنصَّة من جديد وتطوير خدماتها وزيادة سعة الخادم تلافياً للأعطال الفنية ، ووضع خطة درسية ممنهجة من قبل وزارة التربية تحتكم إلى العدل والمساواة في حق التعليم لجميع الطلبة ، وتزويد الطلبة غير القادرين بأجهزة "لاب توب" ، واتساع نطاق النت ليشمل المناطق المحروم طلابها من استخدام المنصة ، والعمل على تجديد المحتوى التعليمي حتى يحقق نسبةً مرضية من الفائدة للطلبة ، لأنَّ استمرار هذه التحديات لن يجلبَ إلا مزيداً من الغرق لمركب التعليم ، ولن يجني إلا على الأجيال التي هي معقِدُ الأمل ورجاء نهضة الوطن.