كلام في الثورة
مع بداية 2011 كان أحرار تونس يزأرون في ميادين الياسمين, من تونس إلى قرطاج, ومن قرطاج إلى طنجة, كانوا يزأرون في وجه الطاغية, ولأول مرة منذ سنين تعلموا أن يقولوا لا .
لا للظلم, لا للتمييز, لا للعنصرية, لا للسرقة, لا للنصب, لا للقتل, لا للتنكيل, تبعتها دول عدة, فلها من الغيرة نصيب, وتعلمت أن قول لا سيؤدي إلى تحرير الشعوب من فكرة الملك الذي لا يُعصى .
والدارج بين الناس أن ما حدث هو ثورة, ولا أدري هل هو طبيعة العقل العربي الذي أقنع الناس أن مجرد خلع الرأس يُعتبر ثورة, أم هو نتيجة العبودية للإله الجديد المسمى بالإعلام, والذي انتشرت قنواته بعناوين عدة, مثل: ثورة الياسمين, ثورة التحرير, ... الخ.
ما هي الثورة التي بلا قائد حقيقي, وما هي الثورة التي لا تقتلع النظام من جذوره, وما هي الثورة التي يتفرق رفقاء الميدان قبل تحقيق أهدافها, وما هي الثورة التي يُدافع بعض ثوارها عن بعض أركان النظام "السابق", وما هي الثورة التي يُحاكَم الرئيس المخلوع بنفس سلطاته التي كانت تركع له, وما هي الثورة التي يغدو فجأة أعداء الثورة في أيامها, رفقاء وثوارً بزوال الرئيس .
في الثورة الفرنسية سيق "لويس السادس عشر" إلى المقصلة أمام جموع الثائرين, وسيق الآلاف من نظامه إلى إعدامات ميدانية بتهمة معاداة الثورة, فنجحت ثورتها, وفاز شعبها, ونهضت فرنسا .
إن تصديق فكرة أن رأس الدولة هو الورم, فإذا استأصلناه زال بأكمله, ناتج عن تشخيص خاطىء للمرض, ولم يعي الطبيب جيدا فقه سرطان الدول, فإن الورم لو استُئْصِلَ رأسه فما تحتُ أخطر .
دعونا نُعَرِّج إلى الحالة المصرية, والتي أصبحت حديث الصالونات, وحديث المقاهي الفيسبوكية والنوادي التويترية .
ففي عام 1954 أصبح عبد الناصر زعيما خالدا, ولا أدري ما هو الزعيم الذي يأتي على ظهر دبابة منقلبا على محمد نجيب, ومن إنجازات الراحل: تفقير الشعب المصري, الألوف من المصريين سُفكت دمائهم في السجون, قمع الحريات, إعدام قادة الفكر الإسلامي مثل سيد قطب, وعبد القادر عودة, وغيرهم, ولا يهمني كثيرا انتمائهم وأيدلوجيتهم بقدر ما يهمني الظلم الواقع عليهم, لمجرد كلمة حق في وجه أبي خالد, ولا يهمني الفلسفة القائلة أن الملايين من العرب بَكَوْا لفراق عبد الناصر, مما يدل "في نظرهم" على عظمة الرجل, فالملايين بكت وندبت يوم وفاة أم كلثوم, فنحن شعوب لا نعشق إلى التعري السياسي والتعري الجسدي, ولا نعشق سوى الطرب .
ولْنأتي إلى مصر يناير, مصر التي أذهلت العالم بشعبها الذي اجتمع في يناير على كلمة واحدة, ارحل , ولكن الشعب المصري أخطأ وجهته فقال: "ارحل يا مبارك", وكان الأجدر أن يوجهوا هذا إلى "نظام مبارك" .
لقد رحل مبارك في فبراير. ورحلت معه جموع الشعب المصري من ميادينها, دون أن تعي أن تدخل الجيش كان تضحيةً بمبارك ليحيا نظام مبارك, لا كي يحيا شعب التحرير .
ما يجري حاليا يُوضح أن تنحية مبارك لم يُنحي نظامه, فما زال القضاء يُحسن إخراج مسلسل البراءة للجميع, وما زال الإعلام يُتقن فن تغيير العقول, وما زالت فئة من الشعب المصري مضحوك عليها بقصة ثورة 30 يونيو, التي كذبها الإعلام حتى صدّقها .
تذكرني هذه الثورة المجيدة, بقصة الرجل الذي أراد أن يبيع سيارته من نوع "كيا" فلم يجد مشتري, فجاءه صديقه وقال له: "أزل شعار كيا وضع شعار المرسيدس, وقل للبيع سيارة مرسيدس", وستجد مشتري بسهولة .
فجاءه صديقه بعد أسبوع, وافتتح كلامه بقوله: "بعت السيارة؟" قال الرجل: "وهل هناك عاقل يبيع مرسيدس" ! .
لا أدري ما هي الثورة التي لا يُعارضها جيش ولا شرطة, ولا قضاء ولا إعلام, ولا تَسقط فيها قطرة دم, فما هي هذه الثورة إن لم تكن ثورة مضادة لمنع جعل يناير ثورة حقيقية .
لا أريد في ما قلت إحباط أحد. ولكن أريد أن أخرج الأحرار من خانة سقوط الرئيس يساوي ثورة, فالثورة لا تقوم لأجل شخص, وإنما لأجل نظام كامل متكامل .
وأما القائلين بلعنة الثورة لأنها فتنة, أو لأن فيها دماء, فهل نقبل حذاء الطاغية مخافة الفتنة, وإن كانت ثورة ستقوم بلا دماء فلا نريدها, وليست بثورة .
من يخرج ليثور على الطاغية, فعليه أن يودع أباه وأمه وبنيه, وعليه أن يفتح صدره لرشاش
الظالم, ويصرخ: أموت أنا ويحيا شعبي حرا .