إدارة حكومية مستقلة! لما لا؟
مازن الحمود
جو 24 :
في رد جلالة الملك على استفسار وكالة الانباء الأردنية هل تم تحقيق الإصلاح الإداري المطلوب، قال جلالته "بصراحة، ليس بعد. تم إنجاز خطوات عدة، لكن بقي الكثير"، مقدما رؤيته بان الإصلاح يأتي من باب "تنقية جهازنا الإداري مما علق به من شوائب، مثل الواسطة التي هي ظلم وفساد، ويجب اتخاذ كل التدابير الإدارية والقانونية والاجتماعية لمحاربتها، مثل الأتمتة وتوفير الخدمات الإلكترونية لتحقيق الفاعلية في الأداء"، وان لتحقيق ذلك "لا يحتاج إلا إلى إرادة وبرامج وخطط واضحة".
وفي مقال حديث لصاحب السمو الملكي الأمير الحسن بن طلال بعنوان "على عتبة المئوية الثانية للدولة"، وبعد وصفه للبعد التاريخي لتكوين الدولة الأردنية والإنجازات التي تمت خلال المئوية الأولى، يقول سموه "نحن دولة مؤسسات قامت مع بدايات التأسيس، لكنها أصيبت بنكسة الارتباط بالشخصيات وهو ما يجب معالجته، شريطة التشبيك بين المؤسسات بروح علمية، ودعم هذه المؤسسات بالقدرات الحيوية والفاعلة، واستبدال النمط الإداري التقليدي، وهذا بيت القصيد في سياسة تفعيل الإدارة في المئوية الجديدة".
عندما ننظر خارج نوافذنا ونرى المدارس والجامعات والمستشفيات والبنى التحتية في المحافظات والارياف والبوادي والمطارات والمرافق المتنوعة من كافة الاصناف، وعندما نتذكر السمعة الطيبة التي حظيت بها الخدمات التعليمية والصحية وحتى الإدارة الحكومية الاردنية في المنطقة وخارجها لعقود كثيرة، فانه ليس من المستطاع انجاز ذلك كله دون الاستناد على نظام اداري حكومي سبق عصره في ذلك الزمن واوفى بغرضه. فلا بد من الاعتراف بإنجازات هذه الإدارة في فترة معينة من تاريخ الأردن الحديث وضمن إمكانيات مالية محدودة للغاية.
مبادئ الإدارة الحكومية الاردنية اليوم هي ذات المبادئ التي تأسست عليها الدولة الأردنية مع تغييرات بسيطة حدثت عبر الحقب الممتدة من تاريخ الدولة الاردنية. ربما يشهد صانع القرار اليوم مؤشرات بألوان عديدة تظهر على شاشته كل صباح. فهنالك على سبيل المثال أضواء تظهر باللون الأخضر تبشر بالأمن والأمان والنجاح في السيطرة على انتشار وباء الكورونا المستجد، وأخرى تظهر باللون الأحمر تحذر من دقة الموقف، تشير الى ان شيئا ما لا يعمل بالشكل المفروض. أشياء تثير التساؤل. هل هي إشارة نسب البطالة بالرغم من اتفاقيات التجارة الحرة التي وُهبت للأردن لدعم اقتصادها بالرغم من إعادة هيكلة المؤسسات الاستثمارية؟ ام هي إشارة تأخرنا في انجاز مشروع الحكومة الالكترونية بالرغم من الدعم الذي جاء للأردن من كثير من الدول والشركات لإنجاز هذا المشروع الهام، في وقت تمكنت فيه دول أخرى من اكمال اتمتة اعمال حكوماتها بالرغم من اقدامهم على ولوج اتمتة مشاريعهم في مرحلة لاحقة بعدنا؟ ام هي مؤشر مستوى التعليم في المدارس بسبب قرارات ادارية سمحت للمعلم ان يعلم طلبتنا بمجرد حصوله شهادة جامعية بدون تدريب وتأهيل لازمين؟ ام هي إشارة اعداد الوفيات على الطريق الصحراوي الذي يصل بين مدن وقرى المملكة وثغر الأردن الباسم ومينائه الوحيد الذي ان دل على شيء فانه يدل على ان الإدارة لم تتمكن حتى من رصد مبلغ بسيط من المديونية الهائلة التي يتحملها الوطن لإصلاح الطريق حماية للمواطنين وبضائعهم؟ ام هي نسبة المديونية؟ هذه المؤشرات السالفة الذكر لا بد انها تظهر وتختفي على شاشة صانع القرار. ولكن من سمات القيادة الفطنة هي قراءة المشهد وتحديد المشكلة ووضع المسار للحلول، والعلم بان الإدارة هي عصب الإنجاز في الحكومة، لأنه في غياب الإدارة ستبقى الخطط والمشاريع عبارة عن امال واحلام، ولن يكون هنالك انجاز مذكور. فتحديد المشكلة والإصرار على إصلاحها هو بحد ذاته حل لنصف المشكلة، وهذا ما جاء في لقاء جلالة الملك انف الذكر.
ما نمر به اليوم ليس غريبا عما مرت به الدول المتقدمة التي أدركت أهمية استقلال الإدارة الحكومية وحمايتها من التدخلات. فعلى سبيل المثال، منذ استقلال الولايات المتحدة الامريكية عام 1776، كانت الواسطة والمحسوبية في التعيينات الحكومية هي النمط السائد. فكان هنالك استبعاد للعرق غير الأبيض والنساء أيضا، وكانت التعيينات في الحكومة مقتصرة على خريجي الجامعات النخبوية مثل هارفارد وبرينستون ويل، حتى تم سن قانون اصلاح الخدمة المدنية في نهاية القرن التاسع عشر الذي أوقف ذلك النمط وتم انتهاج أسلوب الامتحانات لاختيار الكفاءات، مما شكل بداية تفوق الولايات المتحدة الامريكية. وهذا ما رأيناه أيضا في سلوك المملكة المتحدة الإداري، ولكن لظروف مختلفة أُجبرت عليها بسبب الثورة الصناعية، فقبل ذلك كانت تحكم بريطانيا واداراتها الاقطاعيات والمحسوبيات والنخبة. وقد يكون أفضل مثل للإدارة الفذة الفاعلة تلك التي مارستها الإدارة الألمانية وهي ذات الإدارة التي ورثتها من زمن الإمبراطورية البروسية وتم المحافظة على استقلالها وسيادتها عبر تاريخ المانيا الحديث ولغاية اليوم، حيث مكنت هذه الادارة حكومات المانيا عبر العصور من إعادة اعمار المانيا بعد دمارها عدة مرات، اذ بقيت الإدارة كما هي، بل ان الرايخ الثالث بقيادة هتلر حافظ عليها مستندا بذلك على القاعدة الذهبية التي تقول انه بدون تلك الإدارة لن تتمكن المانيا من المحافظة وادارة ممتلكاتها الجديدة. ونعلم اليوم مكانة وقوة المانيا الاقتصادية التي لا يمكن ان تصل اليها بدون الإدارة القوية.
فمن الحجج الرئيسية لصالح خدمة مدنية مستقلة هي لحمايتها من انتهاك المهنية فيها وكفاءاتها من العبث من قبل النخب السياسية سواء كانت الحزبية منها او أصحاب النفوذ. فالفكرة هنا تكمن في ان الدولة تقدم للحكومة إدارة مهنية كفؤة تمكنها من انجاز سياساتها وبرامجها، وعندما تتغير الحكومة يكون هنالك استمرارية للنهج وهذا من شانه ان يكفل بتقديم ذات الخدمات المتفوقة للحكومة الجديدة. ففي المملكة المتحدة على سبيل المثال، تسمى الحكومة بحكومة جلالة الملكة، وتسمى البيروقراطية البريطانية بالخدمة المدنية الملكية، وهو جهاز تابع للتاج وليس للحكومة، رغم ان رئيسها هو رئيس الوزراء بحكم الوظيفة، ويقوم بتكليف أحد وزرائه بهذه المهام كعمل إضافي لحقيبته الوزارية. ويتم حوكمة الجهاز من قبل لجان ومجالس إدارة من بينهم مجلس مكون من كافة أمناء عامين الوزارات، واهمهم لجنة ملكية تعينها الملكة، مهمتها الأولى هي الحرص على شفافية ونزاهة التعيينات حسب الكفاءة، وترفع تقاريرها للملكة. ففي بلد مثل بريطانيا، إذا لم تكن الإدارة متينة ومستقلة عن الحكومة، فسيتم استبدال الموظفين العاملين بموظفين من الحزب الحاكم ذاته او الموالين له، وعند انتهاء الحكومة والمجيئ بحكومة اخرى جديدة من حزب اخر سيستمر ذات النهج، وسيحول ذلك لو حصل دون ان تكون دولة مثل بريطانيا من بين الدول المتقدمة. وهذا ما حصل مع اليونان في القرن الفائت عندما تعرضت لتعاقب حكومات يمينية ويسارية، ونعرف جميعا مكانة اليونان الاقتصادية السيئة اليوم التي هي دون زميلاتها في المجموعة الأوروبية بالرغم من ارثها السياحي العظيم. وإذا لم يكن الانتهاك في الجهاز الاداري حاصل من قبل الأحزاب، فنحن جميعا نعرف من اين يأتي. فالواسطة والمحسوبية كفيلان في تدمير أي ادارة، بل وامال وتطلعات اي دولة وشعبها، بسبب اجهاضهما لروح العطاء والانضباط والولاء وغيرها من الفساد الاداري. ومن الحجج الأخرى التي تساق في هذا المجال لصالح خدمة مدنية مستقلة انه، ولحسن الحظ، يبرئ المسؤول من الضغط المجتمعي للواسطة والمحسوبية.
لا أقول ان علينا في الأردن ان ننتهج ذات النموذج البريطاني. فبالرغم ان الوصف السابق يعطي الانطباع انه نظام مثالي، الا ان هذا الامر غير دقيق، ويعتريه بعض من شوائب، الا انه يمكن البناء على فكرة استقلالية الخدمة المدنية بحيث تكون مصانة من أي تدخلات او تأثيرات، وضمن ضوابط اقوى وفاعلية أكثر، ولكن في جميع الأحوال يجب ان تأتي تحت المظلة الملكية ليس فقط لضمان حمايتها وكفالة مهنيتها بعد ان يتم الانتهاء من اجراء الهيكلة اللازمة لها وتمكينها، ولكن أيضا لرفع معنويات العاملين فيها وتفويضهم ومنحهم السلطة اللازمة ليقوموا بأعمالهم بالثقة المطلوبة.
اعتقد ان الأردنيون يستحقون في المئوية الثانية إنجازات جديدة كما استحقها واستمتع بها اباؤهم واجدادهم في المئوية الأولى، ولكن هذا لن يحدث في ظل جهاز يعمل في الظروف الحالية.