قدر الإعلام الأردني
كتب تامر خرمه
في ظلّ تراجع الحراك الشعبي الأردني، وانكفاء القوى الحزبيّة المنشغلة بانتظار ما قد تجود به التطوّرات الإقليميّة على المشهد المحلّي، من استحقاقات تضمن لها بعض أشكال الشراكة السياسيّة في السلطة، نجد أن هذه السلطة هي الضامن الوحيد لتقويض ذاتها وقلب الأمور رأسا على عقب !!
بصراحة.. باتت السلطة هي الجهة الوحيدة على الساحة الاردنيّة التي تبذل قصارى جهدها لاستنهاض مختلف الشرائح الاجتماعيّة، ودفعها لخوض مواجهة حاسمة، قد لا يعوّل بعدها كثيرا على ضمانات واشنطن بدعم استقرار النظام الملكي.
ولا يقف الأمر عند حدود السياسات الاقتصاديّة أو اجترار ذات الممارسات الكلاسيكيّة التي شكّلت السبب الرئيس لاندلاع الثورات في المنطقة، بل وصل الأمر بحكومة الظلّ إلى درجة استعداء موظّفي الدولة في مختلف القطاعات، ابتداء بموظّفي المحاكم والجمارك وليس انتهاء بالعاملين في وزارة الداخليّة وأخواتها في رضاعة أجندة الدوّار الرابع، وفق ما يشتهي القصر.
الإضرابات التي شملت مختلف مؤسّسات الدولة وسلطاتها الثلاث، لم تكن كافية على ما يبدو لإشباع غريزة السلطة لتدمير الذات، فقرّرت استهداف السلطة الرابعة وحمل الإعلاميّين على التخلّي عن مبدأ الحياديّة والانخراط في مواجهة الطرف الرسمي المنحاز ضدّ كافّة مكوّنات المجتمع.
من الصعب على الصحافي في الأردن أن يقنع ذاته بالتخندق في خانة الحياد بعد أن بات مهدّداً في لقمة عيشه كغيره من المواطنين، إن لم يكن بشكل أكثر استفزازاً، نتيجة شعور كثير من العاملين في مهنة المتاعب بأنّهم باتوا ضمن دائرة الاستهداف.
حكومة رئيس الوزراء الأسبق، ورئيس الديوان الملكي الحالي، فايز الطراونة، لجأت إلى أكثر الأساليب البوليسيّة بدائيّة للتعامل مع نشطاء الحراك الأردني، وما أن زجّت بالمئات في سجون "أمن الدولة" حتّى تفرّغت لدكّ عروش صاحبة الجلالة، المعنيّة بمطاردة الحقيقة ومخاطبة الرأي العام.. فجاء قانون المطبوعات والنشر كإعلان لا يحتمل الكثير من التأويل، بل يمكن تلخيصه بكلمتين: عليكم بالصحافة !!
الذاكرة لا تحمل في جعبتها أيّ تشريع في تاريخ الأردن السياسي، كان محظيّا بتلك السرعة في "الطبخ" والإقرار، كقانون المطبوعات المعدّل، حيث اخترق المشرّعون جدار الوقت واعتصروا كل دقائق الزمن خلال ستّة أيام، لإقرار تعديلات "المطبوعات والنشر"، بما يصادر حريّة الإعلام ويضمن إرساء أسس حجب الحقيقة عن المواطنين.. ستّة أيام فقط، هي الوقت الذي استغرقه إصدار حكم الإعدام على الصحافة المستقلّة، بعد أن عُقدت دورة استثنائية لمجلس النواب، من أجل إقرار هذا القانون بالتحديد.
وفي سباق المشرّعين مع الزمن لإقرار 'المطبوعات'، عقد مجلس النواب لقاء مع العاملين في المواقع الالكترونيّة الإخباريّة، وفي ظهر ذلك اليوم كان نصّ القانون جاهزاً، دون أدنى اعتبار لما تمّ تداوله خلال لقاء الصباح. وبعد 48 ساعة فقط عقدت جلسة أخرى لمجلس النواب، التي اكتمل فيها النصاب بقدرة قادر، وتم إقرار القانون بتعديل طفيف لا يغيّر من واقع الأمر شيئاً.
ومرّت 48 ساعة أخرى، والسلطة التشريعيّة ماضية في سباقها مع الزمن، لتجتمع اللجنة القانونية لمجلس الأعيان في جلسة طارئة وتقرّ القانون كما جاء من النوّاب، إلا أنّ يوم الجمعة جاء ليشكّل تحدياً أمام المتسابقين الذين اصطدموا بحاجز العطلة الرسميّة، فما كان منهم أن ألغوا عطلتهم ليوم السبت، ليعقد الأعيان جلسة خاصّة أقروا فيها قانون إعدام الحقيقة.
وجاء يوم الأحد.. وكان المشرّعون قد اجتازوا السباق 'بنجاح'، فاستراح صنّاع القرار لما تم إنجازه في غضون أسبوع، وكأن المعركة مع الصحف الالكترونيّة كانت حجر الرحى في مشروع السلطة لخلق بيئة تشريعيّة مواتية لما يحمله المستقبل من قرارات يعدّها المطبخ السياسي، الذي يفضّل العمل في الظلّ بعيدا عن فضاء الانترنت.
ونال الرئيس الطراونة مكافأته على هذا الإنجاز، وبات رئيسا للديوان الملكي، وهنا توجّهت الأنظار إلى أحد المحسوبين على التيّار المعارض لخلافة الطراونة في ترجمة قرارات "دابوق" و"الجندويل" وتطبيقها بكامل حذافيرها، فتربّع د. عبدالله النسور في صدارة الدوّار الرابع، وما هي إلاّ بضعة أيّام، حتّى أثبت دولته أنّه على أهبّة الاستعداد للتنازل عن كلّ ما نظّر له في غابر الأيّام، بل والانسلاخ عن ذاته، من أجل تلبية استحقاقات المنصب الجديد.
وبعد تفانيه في تطبيق قرارات وتوجيهات المركز الأمني- السياسي، حصد النسور مكافأته عبر إعادة تكليفه بتشكيل حكومة جديدة، فأكمل مشوار تصفية وسائل الإعلام المستقلّ، واستند إلى قانون المطبوعات -الذي تفانى معدّوه في إخراجه بأفضل صيغة ممكنة للانقضاض على حريّة الرأي والتعبير وحريّة الصحافة- وقام بالمصادقة على قرار حجب أكثر من 200 موقعا إلكترونيّاً، بحجّة عدم الترخيص وفق قانون المطبوعات، الذي لا يعني الانصياع له سوى فرض صحافة الرأي الواحد.
وهكذا، وجد العاملون في الصحف الالكترونيّة أنفسهم في مواجهة مباشرة مع السلطة، ولا يقتصر الأمر هنا على مبدأ الحريّة وعشق الصحافة وما إلى ذلك من مفاهيم رومانسيّة، بل بات أغلب العاملين في صناعة الإعلام مهدّدين بأمنهم المعيشي، بعد حجب مؤسّساتهم التي أعرض عنها كافّة المعلنين نتيجة لهذا الإجراء.
وما لبثت سياسة تقويض خبز الصحافيّين أن شملت العاملين في الصحف الورقيّة، حيث نضجت "طبخة" تصفية صحيفة العرب اليوم بالتزامن مع حجب المواقع الإخباريّة الالكترونيّة.. فحكاية "العرب اليوم" تعود إلى صراع نشب منذ سنوات مضت بين مراكز القوى في هذا البلد المبتلى بنزق السلطة، ولكن "الطبخة" لم تجهز سوى اليوم.
الصراع، أو بالأحرى تنازع الصلاحيّات، بدأ عندما قرّر مدير المخابرات السابق -السجين الحالي على ذمّة قضايا فساد- الجنرال محمد الذهبي، ممارسة العزف المنفرد دون أخذ أهواء القصر بعين الاعتبار، فعمد إلى تسريب ملفّات: "خالد شاهين" (الاسم الذي ارتبط بأسماء تنتمي للعائلة المالكة)، و"الأقاليم"، و"الديسي".. وغيرها من الملفّات المتعلّقة بقضايا فساد، إلى إدارة تحرير "العرب اليوم" السابقة.. وما كان من الصحيفة إلاّ أن بدأت بالنشر، وعرضت هذه القضايا أمام الرأي العام الأردني.
وكان من الطبيعي أن تبدأ معركة تصفية الحسابات، فظهرت ملفّات تُثبت تورّط الجنرال بالفساد، فانتقل من مكتبه الفاخر في منطقة الجندويل إلى قفصه الصغير في سجن الجويدة.. وما لبثت أن توالت الأحداث، فقدّم رئيس تحرير "العرب اليوم"، الزميل فهد الخيطان، استقالته من الصحيفة، وتبعها استقالات العالمين ببواطن الأمور، وبدأت حكاية "البيع".. حيث قيل إن الصحيفة تؤول إلى الإفلاس، وانّه لا مناص من بيعها لمستثمر قادر على إدامة إصدارها.
الخيطان حظي باستقبال الملك، وما لبث أن انتقل إلى صحيفة "الغد" معزّزاً مكرّماً، وما لبثت مقالاته أن اتّخذت منحى مختلفاً كليّا عمّا كان يكتبه في "أيّام العزّ".. والمدهش أن هذا التطوّر اللافت عجز عن تحفيز أدنى درجات الاندهاش لدى مختلف العاملين في هذه المهنة المؤرّقة !!
أمّا المستثمر الجديد، "القادر" على إنقاذ الصحيفة من أزمتها الماليّة، إلياس جريسات، فقد ثبت عدم ملاءمته الإداريّة والماليّة لإدارة الصحيفة، فأعلن قراره بوقف إصدارها، بعد أن امتنع عن دفع رواتب العاملين فيها لنحو أربعة أشهر.
وهنا اكتملت حلقات اللّعبة، فعوضاً عن تصفية الصحيفة –ضمن معركة تصفية الحسابات- بقرار سياسي يثير الجدل، قام مالك الصحيفة السابق، رجائي المعشّر، بتسليم عنقها إلى من لا يعنيه تصفيتها بذريعة ماليّة.. فكان ما كان، ووجد أكثر من 200 صحافيا وعاملا في "العرب اليوم" أنفسهم على قارعة الطريق، في بلد تكاد تكون فيه فرصة إيجاد عمل كحلم "آدم" بترويض"ليليت".
تصفية 'العرب اليوم' وحجب المواقع الالكترونيّة، أسهما في خلق حالة غضب واسعة بين الصحافيين، الذين لا يمكنهم اتّخاذ موقف الحياد في مواجهة سلطة تهدّد أحلامهم ومستقبل أسرهم.
ومن هنا جاءت الهتافات التي صدحت بها حناجر المشاركين في مسيرة 'إنقاذ الإعلام' لتتجاوز كلّ السقوف، وتخاطب الملك بشكل مباشر، فالصحافي بات جزءً من الصراع ضد هذه السلطة، وليس مجرّد ناقل محايد للخبر، والسلطة وحدها هي من قرّر إقحامه في هذه المعركة.
ترى.. هل تدرك هذه السلطة معنى استنهاض حراك إعلاميّ مناهض لها ؟! فقد بدأت ملامح مثل هذا الحراك بتصدّر المشهد، وهذا ما عكسته مسيرة 'إنقاذ الإعلام' بشكل واضح.. فهل حقّا تعرف حكومة الظلّ أبعاد هذه المسألة ؟!
إذا كانت السلطة تتوقّع من القارئ الالتفات إلى إعلامها الرسمي وتصديق حملة المباخر، فهي بلا شكّ سلطة تعشق النوم في العسل ودفن الرأس في الرمال، فالإعلام البديل لا يتّسم بقدرته على الوصول لكلّ أطياف المجتمع فحسب، بل من شأن مثل هذا الإعلام، في حال تبلوره وتحديد بوصلته، استنهاض مختلف القطاعات المجتمعيّة في مواجهة مفتوحة على كافّة الاحتمالات.. وعلى السلطة إدراك هذه المسألة جيّداً قبل مواصلة مغامرتها العبثيّة.