بعد عام على حكم طالبان التحليلات والتكهنات
بحلول منتصف شهر اب الجاري احتفلت حركة طالبان رسميا بمرور عام على عودتها لحكم أفغانستان ففي 15 / 8 / 2021 استعادت الحركة السلطة في أفغانستان للمرة الثانية بعد انسحاب القوات الأجنبية من البلاد وفرار الرئيس أشرف غني الذي كان مدعوم من الولايات المتحدة وبعض مسؤولي حكومته إلى الخارج وما تزال البلاد التي مزقتها الحرب لسنوات طويلة غارقة في أزمات اقتصادية وإنسانية عديدة ولم تحظَ بعد باعتراف دولي علما بأن الانقسامات والصراعات العرقية والإقليمية والطائفية اختفى معظمها بشكل تلقائي وأصبح هنالك تحسن واستقرار نسبي على المستوى الأمني والسياسي
منذ اليوم الأول لسيطرة طالبان على السلطة بعد 20 عام من القتال لأجلها صرح مسؤولو الحركة أنهم ستحكمون هذه المرة بطريقة مختلفة ولن يسمحوا لأراضي أفغانستان بأن تشكل تهديدًا لأي دولة في العالم وأنهم يريدون تطوير علاقات دبلوماسية جيدة مع جميع الدول كما أعلنوا عفو عام عن جميع موظفي الإدارة السابقة وسمحوا لهم بمواصلة أعمالهم
أول إدارة لطالبان في كابل تمت الإطاحة بها بعد التدخل العسكري الأمريكي عام 2001 بذريعة تورطها في إيواء زعيم القاعدة أسامة بن لادن المتهم بالمسؤولية عن تنفيذ هجمات 11 سبتمبر من العام نفسه
حكومة طالبان المؤقتة التي تطلق على نفسها إمارة أفغانستان الإسلامية تواجه تحدياتٍ عدة في قضايا حماية حقوق الإنسان إلى جانب توفير خدمات الصحة والتعليم والاقتصاد والزراعة كما تعرضت طالبان لانتقادات كبيرة من قبل العديد من الدول والمؤسسات العالمية إثر فرضها قيود على توظيف النساء حيث تم تسريح آلاف منهن أو إجبارهن على ترك وظائفهن في المؤسسات الحكومية والقطاع الخاص
فيما سمح مؤخرا لأعداد قليلة جدًا من النساء بالعمل فقط في المجالات الضرورية مثل المستشفيات والمدارس وأقسام الشرطة والمطارات وكذلك منعت الفتيات من الالتحاق بالمدارس العامة في المرحلتين المتوسطة والثانوية في معظم أنحاء البلاد رغم إعلان المتحدث باسم طالبان بأن المدارس ستفتح أبوابها للفتيات اعتبارًا من 21 اذار الماضي إلا أن القرار تمّ تأجيله عدة مرات إضافة لذلك تم فصل الذكور عن الإناث في الفصول الدراسية في الجامعات ولم يسمح للطالبات بالذهاب في رحلات طويلة بدون أحد أقاربها
مع بداية شهر أيار 2022 ألزمت حكومة طالبان الأفغانيات بتغطية أجسادهن بالكامل بشرط ألا يكون اللباس ضيقًا جدًا أو رقيقًا وقد نص القرار على وجوب ارتداء النساء للنقاب حفاظًا على كرامتهن كما أرسلت الحركة مرسومًا إلى القنوات التلفزيونية يؤكد على وجوب ارتداء جميع المذيعات النقاب أثناء تقديمهن للأخبار كما استبدلت طالبان وزارة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بوزارة شؤون المرأة وحلّت أيضا اللجنة الأفغانية المستقلة لحقوق الإنسان التي كانت تعمل خلال فترة الحكومة السابقة في التحقيق بانتهاكات حقوق الإنسان المرتكبة في البلاد ومن ناحية أخرى قيدت إدارة طالبان حرية التعبير والصحافة من خلال فرض قيود صارمة على الإعلام حيث اضطرت مئات المؤسسات الإعلامية لإغلاق أبوابها ما ترك آلاف العاملين في مجال الإعلام بلا عمل
العديد من الدول وخاصة الغربية منها دعت طالبان الى تشكيل حكومة شاملة تضم جميع فئات المجتمع الأفغاني دون عرق محدد واحترام حقوق الإنسان من أجل الاعتراف رسميا بحكمها أو بناء علاقات جيدة معها وفي غضون ذلك اجرت حكومة طالبان المؤقتة اتصالات دبلوماسية مع العديد من الدول مثل النرويج وسويسرا وتركيا والصين وقطر وروسيا وباكستان وأوزبكستان وأرسلت إليها وفودًا تطالبها بالاعتراف الرسمي بإدارتها
رغم كل ذلك لم تعترف أي دولة حتى الآن بالحكومة المؤقتة للحركة كما غادرت دول كثيرة أفغانستان وأغلقت سفاراتها وقد رفض طلبها بالموافقة على تعيين المتحدث باسمها سهيل شاهين سفيراً لها لدى الأمم المتحدة ومع انسحاب الدول الغربية كان من المتوقع أن يكون للصين نفوذ قوي في أفغانستان من خلال ضخ استثماراتها في البنية التحتية ومجالات التعدين لكن بكين لم تقم بعد بأي استثمارات اقتصادية قوية بعد
شهدت أفغانستان خلال العام الأول من حكم طالبان مقتل زعيم القاعدة أيمن الظواهري إثر غارة أمريكية على منزله في العاصمة كابل أواخر يوليو الماضي أعلن عنها في 2 أغسطس الجاري ولم يكن متوقعا أن يكون الظواهري موجودًا في أفغانستان خصوصا وأن اتفاقية الدوحة الموقّعة بين طالبان والولايات المتحدة عام 2020 تنص على ألا تسمح طالبان للأفراد أو الجماعات التي قد تهدد الولايات المتحدة وحلفاءها بالبقاء في أفغانستان
حركة طالبان من جانبها نددت بالهجوم وأعلنت عدم علمها بوجود الظواهري في أفغانستان وقد اجرت تحقيقًا عاجلا بالحادثة فيما تبادلت واشنطن وطالبان الاتهامات بانتهاك اتفاق الدوحة وفي سياقٍ آخر أصيبت باكستان المعروفة بأنها أهم داعم للحركة بخيبة أمل من موقف طالبان التي لم تتقيد بوقف أنشطة الجماعة المسلحة ( حركة طالبان الباكستانية ) العاملة داخل باكستان
كما شهدت البلاد من وقت لآخر اشتباكات طفيفة بين عناصر طالبان والجنود الباكستانيين والإيرانيين بسبب عبور المهاجرين غير النظاميين الحدود وعلى غرار الحكومة الأفغانية السابقة لم تعترف حكومة طالبان بـ ( خط ديورند ) الحدودي الذي يفصل أفغانستان عن باكستان بأنه حدود دولية بين البلدين وقد سبق أن حذّرت الصين وطاجكستان وأوزبكستان طالبان مرارا من وجود هياكل مسلحة تتمركز في شمالي أفغانستان وتعتبر نقاط تهديد قريبة من حدودهم وهم يجرون تدريبات عسكرية متواصلة على الحدود الأفغانية من حين لآخر لاستعراض القوة
على الرغم من تحسن القانون والنظام بعد عودة طالبان للحكم فإن هجمات تنظيم داعش الإرهابي التي تستهدف المدنيين وخاصة الشيعة الأفغان لم تتوقف ففي العام الماضي وقع أكثر من 100 هجوم وتفجير أودى بحياة المئات في عموم البلاد أثناء صلاة الجمعة في بعض المساجد الشيعية في قندهار وكابل وقندوز ومزار شريف وولايات أخرى تبنى تنفيذ معظمها تنظيم الدولة الإسلامية
أكثر من ثلثي ميزانية الإدارة الأفغانية السابقة كان يأتي من الخارج وقد توقفت جميعها العام الماضي كما غادرت معظم المنظمات والمؤسسات الدولية البلاد وحرم البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والاحتياطي الفيدرالي الأمريكي وصول التمويلات الدولية الى أفغانستان كما جمدت واشنطن نحو 9 مليارات دولار من الاحتياطات الأجنبية الأفغانية بشكل فوري
هذه الإجراءات الدولية وغيرها عمقت الأزمة الاقتصادية في افغانستان وأدت الى انهيار النظام المصرفي واضطرار آلاف الشركات للإغلاق وارتفاع معدلات البطالة والفقر والجوع إلى مستويات مقلقة بل ومخيفة وبحسب دراسات وتقارير الأمم المتحدة فإن أكثر من نصف سكان أفغانستان أصبحوا بحاجة إلى مساعدات انسانية فضلا عن انتشار العديد من الأمراض بشكل متسارع مثل سوء التغذية والحصبة وشلل الأطفال وكورونا في ظل تردي وضعف المؤسسات الصحية المحلية التي تكافح لتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين ولهذا السبب لفتت الأمم المتحدة والمؤسسات التابعة لها الانتباه إلى الأزمة الإنسانية المتفاقمة وطالبت المجتمع الدوليّ بالعمل لمساعدة أفغانستان بصورة عاجلة
لا ننسى هنا انه مع بداية حكم حركة طالبان بدأ تمرد جبهة المقاومة الوطنية الأفغانية بقيادة أحمد مسعود الأبن زعيم التحالف الشمالي المدعوم من أعضاء سابقين في الجيش معظمهم من الطاجيك على الحركة في مدن مثل اقليم بنجشير وبرفان حيث غالبية السكان من الطاجيك وقد اشتد النزاع المسلح بين حكومة طالبان وجبهة المقاومة الوطنية من حين إلى آخر بعد وصول المفاوضات بين الطرفين إلى طريق مسدود فيما زعمت جبهة المقاومة أنها ألحقت خسائر فادحة في صفوف طالبان نفت الأخيرة ذلك وجهزت قواتها لاقتحام منطقتي بنجشير وبرفان رغم أن دخولهما ما زال ممنوعاً على الصحفيين
بسبب المخاوف على حياتهم من الاعتقال او التصفية او حتى نشوب صراع أو حدوث تغير في القوانين مع عودة طالبان إلى الحكم ازدادت موجات الهجرة من أفغانستان إلى إيران وتركيا حيث كان من بين المهاجرين عسكريون من الإدارة السابقة وصحفيون ونشطاء في المجتمع المدني وحقوق الإنسان ورغم تباطؤ موجة الهجرة نسبيًا بعد تقديم طالبان وعود بأنها ستحمي حياة وممتلكات المسؤولين الحكوميين والسابقين إلا أنها ما زالت مستمرة حتى الآن
في منتصف العام الحالي تقريبا 2022 حظرت طالبان استخدام المواد المُسكرة مثل الكحول والهيروين وحبوب المخدرات والقنب كما منعت زراعة النباتات المتعلقة بها والاتجار فيها وأغلقت بعض المصانع التي تنتج المخدرات وتوعدت بمحاكمة ومعاقبة كل من يخالف القرار الا انه لم يتم تنفيذ الأوامر على ارض الواقع حتى الآن نظرا لعدم توفير فرص دخل بديلة للمزارعين من أجل منع زراعة الخشخاش والقنب بشكل كامل يضاف الى ذلك مشكلات الجفاف ونقص الإمدادات الغذائية فيما دعت الحركة المجتمع الدولي لتقديم الدعم لها في مكافحتها للمخدرات
بعد تخلي العالم عن أفغانستان وتركها في مأزق عقب سيطرة طالبان على الحكم فيها قدمت تركيا مساهمة كبيرة للتخفيف من الأزمة الإنسانية حيث وصلت 5 قافلات من المساعدات من انقره في إطار ما أطلقت عليه ( قطار الخير ) حاملةً أكثر من 6 آلاف طن من المساعدات الإنسانية من المواد الغذائية والخيام والبطانيات والكراسي المتحركة وآلات الخياطة والقرطاسية استفاد منها مئات الآلاف من المحتاجين في محافظات البلاد الـ34
بمرور الذكرى السنوية الأولى لعودتها إلى السلطة وفي اطار بيان إنجازاتها الوطنية أعلنت طالبان أنها شكلت حكومة مركزية واستعادت أفغانستان السيادة الكاملة وفي هذا الصدد قال عبد القهار بلخي المتحدث باسم وزارة الخارجية الأفغانية إن حكومة طالبان جلبت الاستقرار السياسي ووضعت حدا لانعدام الأمن والفساد والتهجير وأصدرت عفو بحق 500 ألف موظف من الإدارة السابقة وأعيد دمجهم في القوى العاملة كتكتيك للتمكين والسيطرة
كما اصبح لدى أفغانستان الآن ميزانية مستقلة تمامًا وأن الصادرات الأفغانية تضاعفت وقد تم تسجيل 100 شركة استثمارية جديدة في العام الماضي وان الحكومة وفرت بحسب بلخي 330 ألف فرصة عمل جديدة في القطاع المدني إلى جانب مئات الآلاف من الوظائف في التعدين والبناء والقطاعات الخاصة الأخرى وإن هناك زيادة في فرص الحصول على التعليم والرعاية الصحية كما لفت الانتباه إلى وجود 1000 صحفي أجنبي و250 وسيلة إعلام محلية في البلاد وان هنالك العديد من المشاريع الكبيرة التي خططتها حكومة كابل أو بدأت بتنفيذها وأن الرحلات الجوية التجارية استؤنفت أيضا مِن وإلى أفغانستان وفي الداخل
هنالك خمسة شروط أساسية فرضها الاتحاد الأوروبي في إطار تعامله مع حركة طالبان من أجل توصيل المساعدات إلى أفغانستان تتمثل في عدم استخدام الأراضي الأفغانية لتصدير الإرهاب واحترام الحركة لحقوق الإنسان خصوصاً النساء وتشكل حكومة شاملة والسماح بوصول المساعدات الإنسانية بالإضافة إلى السماح للمواطنين الأجانب والفئات الضعيفة من الأفغان بمغادرة البلاد
أمريكا والغرب لا زالوا يشككون في مصداقية التعهدات التي قدمتها طالبان ويعتبرونها رمزية تهدف الى تغيير في موقف الدول الغربية وهي محاولة أيضا فك العزلة المفروضة على أفغانستان في النظام المالي العالمي كما بقيت الحركة في تعريفاتهم المختلفة منظمة إرهابية ترفض التخلي عن عقيدتها الرجعية وتمكين أيديولوجيتها المتطرفة في المجتمع وهي تستغل حالة التوتر بين المعسكر الشرقي والغربي جراء الأزمة الأوكرانية من أجل اقتناص الاعتراف بحكومتها أو على الأقل الاعتراف بوجودها كحكومة امر واقع
أفغانستان بحاجة إلى مساعدة واهتمام دولي عاجل لتحقيق الاستقرار السياسي الدائم والبعيد عن التشدد والتغييرات السطحية وعلى العالم وخاصة أوروبا أن يتفهموا خطورة التهديدات القادمة من أفغانستان إذا ما فشلت حركة طالبان في إدارة البلاد ومواجهة الازمات الاقتصادية والمعيشية واضطرت الى وضع يدها من جديد مع حلفاء الماضي خاصة بعد ظهور بوادر انقسامات داخل الحركة حول الهامش المتاح أمام قادتها لإدخال إصلاحات يطالب بها الامريكيون والغرب
mahdimubarak@gmail.com