jo24_banner
jo24_banner

إلى كل أهل عمّان الطيبين

حسن حيدر
جو 24 :

مضى على وجودي في الأردن 30 عاما، وصلت إليها عام 1992، قادما من الكويت، في رحلة شكلت تفاصيلها، متواليات الغزو العراقي للبلد الذي ولدت فيه وكان مهد طفولتي ومربع صباي.
كانوا يطلقون علينا "العائدون من الكويت"، في الحقيقة لم أكن عائدا، لأنني لم أعش في الأردن طوال حياتي. كنت في الحقيقة "قادما من الكويت"، والفرق بين أن يعاملك المجتمع كـ "عائد" أو "قادم جديد".. هو كل الحكاية.
بمفاهيم سياسية معينة، عدت إلى أرض الوطن، إلا أن الشعور بالغربة ظل يلازمني فترة طويلة.. لم تكن حينها الأشياء في وطني تشبهني، لا ثقافيا ولا اجتماعيا، أو حتى في أسلوب الحياة.
بدأت بالتعرف على تفاصيل عمّان وأسلوبها الفريد، في ذلك الوقت كانت البشرية تنتظر مرور ثمان سنوات للانتقال إلى الألفية الجديدة، لكن عمّان حينها بدت كمن يقاوم ذلك الانتقال.. سريعا بدأت أكتشف وطني وأتعرف عليه، كان لا بد لي من أن أندمج مع المجتمع بالسرعة الممكنة.
كان "الكاز" يباع على عربات تجرها الحمير، فيما كان العملاء يترصدون لتلك العربات على قارعة الطريق في أيام الشتاء الطويلة والباردة.. اكتشفت حينها أن الحصول على الدفيء تحدي يعيشه الأردنيون.. في الكويت لم نواجه أبدا تحدي الحصول على الهواء البارد في صيف البلاد القائظ.. لم أكن أعرف أن التكيّف مع الطقس يمكن أن يكون باهظ الثمن لهذا الحد.. خلق هذا التحدي أسلوب حياة خاص في عمّان.. كان العمانيون يتكورون نتيجة طبقات الملابس التي يرتدونها فوق بعضها للحصول على دفئ بأقل الكلف.
وفي ظلال الحديث عن الملابس، اكتشفت لأول مرة أنها تباع بعد استعمالها، ولها سوق خاص بها، والتسوق به في نهار العطلة الأسبوعية هواية يمارسها أغنياء المدينة قبل فقرائها - بمناسبة ذكر الهوايات، بدا لي أن ثقافة الهواية ضحلة في المجتمع الأردني، نتيجة لغياب الأدوات والوسائل والإمكانات التي تسمح للعمانيين أن يكون لهم هوايات - وجدوا في سوق البالة ضالتهم، وخلقوا لهم أسلوبا فريدا للترويح عن النفس.
تعرفت أيضا، على شيء جديد في خبراتي الحياتية.. إنه "جدول توزيع المياه"، كانت المياه في الأردن، ومازالت، تصل إلى السكان وفق جدول مبرمج بواقع 10 ساعات كل أسبوع تقريبا، كان الجدول هذا ينشر في الصحف اليومية بصورة دورية، وعلى كل مواطن أن يعرف موعد ضخ المياه إلى منطقته لأن ذلك مرتبط بخطط الغسيل والاستحمام ومجمل عمليات التنظيف، جدول المياه هذا كان يشكل الكثير من تفاصيل حياة الأردنيين وأسلوب معيشتهم، في الحقيقة إن هذا الجدول يمثل جزءا من الخطاب الإعلامي الرسمي القائم على تعزيز ثقافة شح الموارد وضعف الإمكانيات، هذا الخطاب ساهم إلى حد بعيد في تشكيل العقل الأردني الذي بات يتقبل كل شيء من أي شيء.
وبمناسبة الصحف التي كانت تنشر "جدول توزيع المياه"، فاجأتني المساحات الضخمة التي يتم تخصيصها للوفيات وتعازيهم، واكتشفت أن تبادل العزاء عبر الصحف هو أحد الأساليب المحلية في المجاملة الاجتماعية والعلاقات العامة، والبرامج الانتخابية في كثير من الأحيان، كما أن حجم التعازي في مرحوم ما، يدلل على مكانته في المجتمع.. أما على الأرض، كانت الجنائز تشيّع في مواكب تسير ببطء في الشوارع مسببة ازدحاما، تعبّر بدورها عن حجم المرحوم وثقله.. تعرفت حينها على وظيفة أخرى من وظائف الموت.
كنت لأول مرة أرى إعلانات "النوادي الليلة" في الصحف اليومية التي كانت شبه ناطقة باسم الحكومة، تعلن عن حفلات السهر والرقص، مع صورة كاملة للراقصة تبين إمكانياتها التنافسية مع زميلاتها في النوادي النظيرة.. كانت من طقوس رمضان أن تختفي تلك الإعلانات، في واحدة من مظاهر البراغماتية التي كانت تستخدمها الحكومة في إدارة البلاد، كان الكل راضيا، زبائن تلك النوادي الذين يأخذون استراحتهم في رمضان، والإسلاميون الذين كان يتسلل إلى نفوسهم أن إغلاق النوادي الليلية في رمضان ومنع إعلاناتها جاء استجابة لضغوطهم.
أما المخابز، حينما دخلت أحدها لأول مرة، وقفت شاخصا ببصري أراقب "بائع الخبز"، في مكان بارز في المخبز علقت يافطتين مكتوبتين بخط اليد، إحداها تحدد سعر كيلو الخبز، أما الثانية تحدد سعر الكيس الذي سيتم وضع الخبز فيه، كان بقيمة 5 فلسات (نصف قرش)، وعند عملية وزن الخبز كان البائع يقسم رغيف الخبز بالسكين لكي يضبط الميزان على الوزن الذي طلبه المشتري، فإن كان طلب الزبون كيلو من الخبز مثلا، وتم وضع عشر أرغفة وكان وزنهم يزيد عن ذلك بخمسين جرام، كان يعمد البائع إلى قص قطعة من الرغيف ليكون الوزن كيلوغراما كاملا، أما القطعة التي تم قصها، فيتم إضافتها إلى طلب زبون آخر ربما كان بحاجتها لضبط ميزانه .. ممكن أن تكون طلبيتك في النهاية 9 أرغفة وثلاثة أرباع الرغيف.. مشهد يروي كل شيء عن ثقافة المجتمع آنذاك وأسلوبه، إلا حكاية القسط في الميزان.
في ذلك الوقت، لم يكن العالم قد غدا "قرية صغيرة"، وكان الانتقال من مكان المولد والنشأة، للعيش في مكان آخر، يشكل تحديا نفسيا وثقافيا معقدا، لكنه بالتأكيد يضيف إلى الخبرة في الحياة مزيدا من المهارات.
المسافة بين الكويت والأردن لا تعتبر كبيرة في حساب المسافات بين الدول، لكن الفجوة الثقافية وأسلوب الحياة كانا كبيرين، معظم من انتقل في تلك المرحلة، خصوصا من كان في سن الشباب واجه صعوبة بالغة في التأقلم.
كان العمانيون يمنعون "العائدين من الكويت" من أي شكوى أو تعليق، أحاطوا أسلوب حياتهم، بسور حصين عنوانه "مش عاجبهم العجب"، لم يتمكنوا من استثمار التنوع الكبير الذي تم ضخه مرة واحدة في بلادهم.. قاوموه وحافظوا على أسلوبهم بقوة، ومارسوا على "القادمين الجدد" تنمرا اجتماعيا ناعما.
الرسائل السياسية والاجتماعية والثقافية، التي كانت تصل إلى الأردنيين عبر ممارسات مثل بيع نصف رغيف خبز، أو تحديد قيمة كيس بنصف قرش، أو "جدول توزيع المياه" شكلّت جزءا كبيرا من العقل الأردني وإدراكه، لكن الأجيال الجديدة التي لم تحتك بتلك الممارسات وعاشت حياة أكثر انفتاحا على العالم الخارجي، بدت أكثر مقدرة على الاشتباك مع الحياة.
بدت لي عمّان، حين وصولي لها، فوضوية معقدة ومتعكرة المزاج.. يصعب أن تحدد موقفك منها.. لكنها بالتأكيد لم تكن مستعدة للترحيب بكل أولئك القادمين من الجنوب دفعة واحدة، خلق ذلك حالة من الاضطراب في حياة من كانوا آنذاك "القادمون من الكويت".

تابعو الأردن 24 على google news