jo24_banner
jo24_banner

حفل توقيع كتاب "المثقف والثقافة" للكاتب د.زهير توفيق

حفل توقيع كتاب المثقف والثقافة للكاتب د.زهير توفيق
جو 24 :

أقام منتدى الرواد الكبار حفل توقيع كتاب "المثقف والثقافة"، للكاتب د.زهير توفيق الذي قدم شهادة في الأمسية التي أدارها المدير التنفيذي للمنتدى عبدالله رضوان مساء السبت 5 تشرين الأول الجاري، أستهلت بكلمة لرئيسة المنتدى، وأختتمت بحوار مفتوح مع الحضور.

كلمة رئيسة المنتدى هيفاء البشير

مساءً طيباً ، ومرحباً بكم جميعاً في منتدى الرواد الكبار حيث نلتقي هذه الليلة لتوقيع كتاب حول " المثقف والثقافة " للباحث الأديب الدكتور زهير توفيق ، وبمشاركة الدكتور ضرار بني ياسين ، راجين أن تسمحوا لي بالترحيب بالضيفين الكريمين ، وهما اكاديميان جادان معروفان ، والموضوع وان بدا تنظيرياً حول الثقافة ، فإن معالجة الدكتور زهير البسيطة والعميقة معاً ، وعبر وجهات نظر متعددة ، وزوايا نظر مختلفة فد أعطت تجربة جديدة في التنظير حول الثقافة والمثقفين ، كما أن مداخلة الدكتور ضرار بني ياسين ، وهو الباحث والدارس وصاحب الرؤية العميقة في تحليل الظاهرات الإجتماعية ، ستكون مداخلة متميزة تضفي على أمسيتنا المزيد من العمق والجمال معاً ، فمرحباً بضيفينا الكريمين الدكتور زهير توفيق والدكتور ضرار بني ياسين .
السيدات والسادة :
أيها الحضور الكريم :

نجتهد في المنتدى أن ننوّع في برنامجنا الثقافي ليشمل الأمسيات الأدبية وتوقيع الكتب وتكريم المبدعين والمعارض التشكيلية وغيرها ، وذلك بهدف توفير بنية ثقافية ابداعية جاذبة تليق بكم وبمؤسستنا وتوفر التنوع في المواد المقدمة حفاظاً على التجديد والتواصل وديمومة العطاء ، لذا فإننا نسعد بمشاركة الأعضاء والأصدقاء نشاطنا الثقافي وإغنائه بالمداخلات والأسئلة العميقة التي تؤكد أهمية ودور الحضور الكريم في إحداث نقلة نوعية بالأنشطة لتناول يومي بأبعاده الثقافية والإبداعية والفنية والفكرية ، وماكان لهذا أن يتحقق لولا دعمكم ومساندتكم أعضاء وأصدقاء .

وفي الختام ، وإذ أؤكد ترحيبي بكم وبضيفينا الكريمين ، فإنني أتمنى للجميع أمسية نشطة فاعلة تحقق التواصل البناء بين المحاضرين وبين الحضور .

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته


كلمة د.زهير توفيق المثقف والثقافة

تكمن مأساة المثقف العربي بشروطه التاريخية، فهو معرض للإقصاء والتهميش معرفياً وسياسياً، خاصة في عصر" العولمة"، و"ما بعد الحداثة"، التي بشرت منذ عقود بنهاية المثقف والإيديولوجيا، وحولته إلى خبير أو مختص أو مستشار لهذا المتنفذ أو ذاك، فتقلص دوره ورسالته إلى أقصى حد، وهوجمت هيبته ومكانته التي اكتسبها في الغرب قبل الشرق منذ عصر التنوير .

وتكمن خطورة هذا الموقف بتعميمه على الواقع العربي، دون أدنى اعتبار للخصوصيات البنيوية، بهدف تأبيد التبعية وترجمة المركزية الغربية إلى أشد حالاتها فجاجة، وأخيراً –وهو الأهم- تقويض دور المثقف والإجهاز على حداثة لم تتحقق بعد. وهذا سر الممانعة لمشروع المفكر اللبناني "علي حرب" داعية النقد ما بعد الحداثي في المشرق العربي .

أما على المستوى السياسي، فقد حطمت أنظمة الاستبداد والفساد، الطبقة الوسطى، مصدر النخب الفكرية. وأقصت المثقف وجففت مصادر تكوينه، واستدرجت ما هو موجود بشتى الإغراءات والتهديدات؛ بل وتحايلت على المثقفين بنزع استقلالهم الذاتي، وإلحاقهم تحت مسميات مختلفة بمؤسساتها لتحويلهم إلى" مثقفين مزيفين".

بعثت الحركات الشعبية التي أطاحت بالأنظمة الشمولية في الاتحاد السوفيتي وأوروبا الشرقية في العقدين الأخيرين من القرن العشرين برسائل بالغة الأهمية للشعوب، التي تتحفز للتحرك والمطالبة بالإصلاح، فقد استعادت تلك الحركات أساليب النضال الشعبي والسلمي إبّان مرحلة التحرر الوطني ضد الاستعمار في مصر العربية، وشبه القارة الهندية، وأثبتت نجاحها وفاعليتها القصوى، بشرط توفر الحد الأدنى من الضمير الحي، والمؤسسات السياسية الثابتة في النظام المستهدف.

وأبرز سمات تلك الحركات هو تجاوزها للأطر السياسية والحزبية والنخبوية، والتحرك ككتلة شعبية ليس لها رأس أو قاعدة.

لقد أحدثت العقود الثلاثة الماضية تغيرات جوهرية مست البنى السياسية والفكرية والاجتماعية في البلدان العربية، ووضعتنا أمام معضلة معرفية في غاية التعقيد، ملخصها ضرورة المثقف وموته في الوقت نفسه!

فما زالت الجماهير أو الحركات الجماهيرية الكبرى- كما يسميها" ألان تورين"- مادة الربيع العربي وعموده الفقري، وهي التي نزلت إلى الساحات العامة، وطافت الشوارع والميادين بمنتهى الجسارة والمسؤولية، مطالبة بالتغيير، واختزلت شعاراتها البسيطة والمكثفة مطالبها الجوهرية بعيداً عن تنظير المثقفين والإيديولوجيا، واكتفت تلك الجموع في مراحلها الأولى بذكائها الموضوعي، ومبادراتها العفوية، وهذا سر قوتها وضعفها في الوقت نفسه.

لم تكتشف الجماهير حاجتها للمثقف إلا في مرحلة تالية، أساسها توفير البدائل والخيارات، وهنا تطلب الوضع المتأزم ظهور المثقف، لنقل الحراك الشعبي من العفوية إلى الوعي الذاتي.

مثَّل المثقف العربي طوال المرحلة السابقة الحلقة الأضعف في المشهد السياسي العام، فقد انهارت مكانته بانهيار طبقته الأساس، التي نشأ منها، ودفعته ظروفه إلى الارتداد لمواقعه الخاصة بوصفه موظفاً في قطاع الخدمات غير المنتج، ليكون عالة على المنتجين الآخرين، إلا أن روح العصر فرضت نفسها على نحو أو آخر،وأثبتت خطل هذه المقولة. فالمعرفة والثقافة قوة إنتاجية فاعلة، وسلعة لا تقدر بثمن. دفعت المثقف المختص للانقلاب على ذاته، ليكون مثقفاً مطابقاً لصورته عن نفسه، منتجاً للقيم والمفاهيم والإبداعات، لكونه كاتباً أو مبدعاً أو مفكراً أو فناناً، يتطلب وضعه وتكوينه الأخلاقي الاهتمام بالشأن العام، والوقوف موقفاً نقدياً من الوضع الراهن والمطالبة بالإصلاح والتغيير. إنه خياره الوحيد، لأن يكون مثقفاً نقدياً لا موظفاً في اقتصاد المعرفة، قادراً على تجاوز ذاته بفضل مواهبه الفكرية والإبداعية، التي توفر له مصدر رزق إضافي أو وحيد لإقناع الجماهير بالالتفاف حوله، وتلقي أفكاره وإبداعاته، وتمثلها لاحقاً في مشروعها السياسي والثقافي. فمشروعه هو مشروعها، لكنه اكتسب ماديته بالجماهير التي ربحت رؤيتها فيه.

ليس المثقفون -كما يقول هشام شرابي-"مثقفين بسبب عملهم أو اختصاصهم فقط، بل في المكان الأول أنهم مثقفون بسبب موقعهم في الحياة العامة، وبسبب التزامهم الاجتماعي. بهذا المعنى فإن من اختار من المثقفين حياة خاصة لا دخل لها في السياسة، ولم يكن ملتزماً بحياة مجتمعة، لا ينطبق عليه تعبيرنا " .

لقد تعددت مستويات الخطاب السياسي –إبان الجمود العقائدي ووصول الحراك الشعبي العربي إلى أدنى مستوى بازدراء المثقفين، واعتبارهم " صناع أوهام" وثرثارين تضيق بهم الأحزاب، ولا تليق بهم إلا الأندية، وهو موقف تعود أصوله إلى" نابليون الأول" الذي انقلب على المثقفين الفلاسفة أو الإيديولوجيين صناع الأفكار- كما كانوا يسمون في عهد الثورة الفرنسية - وأضفى على الإيديولوجيا معناها الازدرائي القائم حتى اليوم. ومصدر هذا التوصيف القائم حالياً، هو طبيعة المرحلة الانتقالية التي يمر بها المجتمع العربي بين التبعية والاستقلال من الناحية السياسية، والحداثة والتقليد من الناحية الثقافية. وهي مرحلة تتصف بالتردد والغموض، والأدهى التناقض والازدواجية.

يعتقد البعض أن طبيعة المرحلة الانتقالية تتطلب ممارسة حية وجهداً فعلياً، للخروج من الأزمة العامة، وتأمين الوصول إلى الهدف، وهناك تصور مغاير، يعتقد أن المرحلة الانتقالية المستعصية طويلة المدى، تتطلب رؤية كلية، وجهداً نظرياً لتفسير الواقع. فتحليله أسبق منطقياً وشرط معرفي للتغيير، ودلالة ذلك أخطر مما نتصور بانفصال السياسة عن الثقافة، وتداخلهما التلفيقي بين المثقف حامل المعرفة والسياسي مالك السلطة، ناهيك عن الازدواجية والثنائيات الضدية وحتى الانتهازية،التي تتحكم بسلوك السياسي وخطاب المثقف .

إن حركة شعبية واعية لذاتها تطالب بالتغيير تتطلب بالضرورة إفساح المجال لدور حاسم للمثقف، لمنح التغيير هوية ورؤية واقعية، لتقدير ذاتها وإمكانياتها في الإصلاح والثورة. ولن يتم له ذلك( للمثقف ) إلا بمقاربة الحراك الشعبي من داخله؛ أي بالانخراط فيه، وتبني مطالبه. أما النظر من فوق فلن ينتج إلا نظرة أبوية مجردة، تدعي الوصاية وتندب ذاتها من الخارج، ولا يحتوي قاموسها السياسي والمعرفي إلا الأسف والإشفاق على الحراك الشعبي، أو التنديد به والتحذير من انحرافاته وإخفاقاته ما دامت تفاعلات الجماهير الكلية لا تطابق نموذجه القياسي، أو مواصفات المثقف الخارجي، التي استنسخها من قراءاته المجردة، بعيداً عن واقعه المعاش.

هكذا سقط ليبراليون وحداثيّون وقوميّون يساريون في شراكهم الإبستمولوجية، وأدانوا أنفسهم بأنفسهم بإدانة الحراك الشعبي والتغيير، الذي شكل قطيعة معرفية وسياسية مع أساليبهم ووسائلهم في مراحل سابقة، فنحن الآن في مرحلة الحشود الشعبية والمجتمع الجماهيري المتبنين والممتد أفقياً وطوعياً، والمفارق لنموذجهم التفسيري في مقاربة التغيير والثورة .

وتكمن أهمية المثقف الشعبي – وأنا أستعمل هذا المفهوم كناية عن المثقف الملتزم بالإجماع الشعبي، عكس المثقف الذي اختار العزلة والتجريد - في مشاركته الفعلية بوصفه مواطناً ومثقفاً في الوقت نفسه، وهو ما يرفع مستوى الفعل والتغيير ويكسبه معنى، ويرفع سويته الحضارية لدرء الاستهانة به والاستخفاف بمطالبه. أما مشاركته الفكرية لطرح أفكاره أو تحويلها إلى شعارات، فغالباً ما يتم ذلك بمعزل عنه، بل والتنكر لأصولها، فلا يوجد من حيث المبدأ حصانة لأفكاره التداولية، أو وكالة حصرية لقيمتها الاستعمالية في النضال الشعبي. ونادراً ما تدرك الجموع الثائرة والمطالبة بالتغيير مصدر أفكارها وشعاراتها إلا لاحقاً، عن طريق مثقف آخر يلعب دور الوسيط، بتذكيرها بنبوءة مثقف أو مفكر كبير طواه الاستبداد، وأقصاه بعيداً عن الجماهير.

لقد أنتج كل جزء من العالم مثقفيه، كما يقول إدوارد سعيد :" لم تقم ثورة كبرى في التاريخ الحديث دون أن تضم بين صفوفها مثقفين، وفي المقابل لم تقم أية حركة مضادة للثورة دون أن تضم بين صفوفها مثقفين " .

أليس هذا ما حصل ويحصل في الواقع، حيث استذكرت الحشود الغفيرة مثقفين وشعراء، واستلهمت نبوءاتهم بالثورة والتغيير؟

أما لماذا يحدث ذلك، فالسبب في رأيي هو تعامل المثقف بنموذج أخلاقي ومعياري خاص به، يتجاوز ذاته باستمرار، فيتم تعويم أفكاره وتذويتها بين الجماهير التي تفصلها عنه سنوات الإقصاء والتهميش، بعكس السياسي الذي يصارع من أجل السلطة الكلية، والمحكوم بمعادلة صفرية، إما الكل أو لا شيء.

وأصعب المواقف على المثقف، إصلاح بلا ضمانات، أو ثورة غير مكتملة تراوح مكانها، نظراً للاتزان والتوازن في قدرات قواها الفاعلة، والمتعاكسة على الأرض،لأنها الحالة المثالية التي تجيز التشكيك بضرورته ومواهبه، لأنها ثورة لن تمتثل إلا لقدرها الداخلي، وفي اللحظة التي تتطلب من المثقف الخروج عليها للتحرر من ركودها، يجد نفسه خارجاً منها. فالركود والاتزان بوصفه عمليات سياسية وثقافية، ترفع مستوى الحذر والتطلب من المثقف إلى درجة اليأس، وهو تطلب يفترض بالمثقف القداسة والمسحة الرسولية التي أضفاها" جوليان باندا" على المثقف الملتزم، المستعد للموت والتضحية في سبيل قضية شعبه. وهي مسألة خلافية وإشكالية أخلاقية مفرطة المثالية والتطلب بما يتعلق بالواجب والضمير، فلا يوجد في الواقع إلا قلة قليلة من المثقفين الذين نذروا حياتهم للمحرقة، وساروا قدماً في طريق الجلجلة . فالمثقف مشروط بأصوله الطبقية وتنشئته الاجتماعية ومصالحه الراهنة، وضعفه الإنساني الذي يفرض عليه نوع التغيير واتجاهاته، ومستوى التطلب فيه. وما النماذج الكبرى الخارقة للعادة من المثقفين القديسين الذين عبروا الموت للتعبير عن حريتهم المطلقة بالتحكم بمصيرهم سلباً أو إيجاباً، فقد ذهبوا بالضرورة ضحية رؤيتهم السقراطية لالتزامهم المطلق بالواجب.

لم يتغير دور المثقف إلا بتغير ماهيته الطبيعية بالتعليم والتحديث ونمو المجتمع المدني، فقد أدى ارتفاع مستوى التحضر والتمدن والتعليم إلى ارتفاع نسبة المشتغلين بالمعرفة . ووفرت الثورة العلمية التكنولوجية التي عمَّقت التخصص القاعدة المادية والمعرفية لتحويل أكبر عدد ممكن من المشتغلين إلى مثقفين بالمعنى الذي تصوره" أنطونيوغرامشي"ما دامت متطلبات الفاعلية تتضمن كفايات استثنائية تؤهلهم للتأثير في المجتمع وتوجيهه.

أما مصدر الخلل والعجز في وظيفتهم بوصفهم مثقفين، فناتج عن التحول الاجتماعي والاقتصادي الجديد؛ أي الليبرالية والخصخصة - التي اجتاحت معظم البلدان العربية- وحولتهم إلى "كمبرادور" ثقافي أو حزام ناقل لترويج الابتذال والثقافة الاستهلاكية، وإنتاج ما هو عام (الثقافة) لأجل ما هو خاص (طبقة ) . وما دام الأمر كذلك فهو ( المثقف ) غير قادر على الاندماج إلى ما لا نهاية، أو التحول مع اقرانه إلى طبقة مستقلة قائمة بذاتها. فليس له إلا التغلب على وعيه الشقي، والالتزام بأصوله الطبقية والانخراط في التغيير، وهنا يتحول لا إرادياً إلى مثقف عضوي بطريقة استثنائية، سرعان ما يتحول مع أقرانه إلى نخبة مرجعيتها ذاتها، وباستقلالها تتضاعف قوة تأثيرها بتحرير نفسها من الإكراهات الحزبية والهويات الفرعية، ليصبح حلقة الوصل والفصل بين الطبقات والفئات، أو رجال الحل والعقد بلغة الفقه السياسي. وهي فكرة خلافية طرحها السوسيولوجي الألماني"فيبر" والمفكر الماركسي "أنطونيو غرامشي" في" دفاتر السجن"، وطورها "كارل مانهايم" مؤسس علم اجتماع المعرفة. ومصدر الإشكال فيها هو صعوبة الفصل بين المثقف وأصوله الطبقية ؛ أي عجز النخبة المثقفة على التبنين بكونها طبقة لذاتها.

أما في المجتمعات العربية، فقد أدى تداخل الطبقات تاريخياً واجتماعياً، وعدم تمايزها الواضح إلى فتح المجال، لتحويل الجماهير الشعبية إلى كتلة تاريخية شرطها الالتزام بتغيير الوضع القائم شكلاً ومضموناً،لإنشاء مشروع نهضوي أو حضاري كبير، وهو ما يتجاوز طاقة السياسي ليجد نفسه تلقائياً في ملاك الثقافة والمثقفين،لأنهم الأقدر على حمل وعي مطابق لواقع معياري يتداخل بالواقع القائم، ويتبلور في الممارسة والتفكير من خلال أطر ديناميكية أفقية، بعيداً عن التراتب الهرمي الذي لا يجد فيه المثقف إلا قيداً يحد من فاعليته، وينتقص من قيمته الجوهرية، وهو السبب المعلن لانشقاق المثقفين عن الأحزاب السياسية.

لا تستطيع الدولة الحديثة تحقيق الشرعية بأدوات السيطرة، التي لا تحقق لها إلا الإذعان . أما الشرعية فتتطلب توظيف المثقف لفرض الاستقرار والاستمرار، وتوسيع أطرها بالمثقفين المنتجين لقيم النظام العام، العاملين في مؤسسات الهيمنة والسيطرة، أو بطريق غير مباشر عن طريق الإشارة والإيحاء كضغط خفي مقبول، من خلال وجود المثقف في البنى والحركات التطوعية الأفقية، التي تعني منح الحراك الشعبي قيادة روحية، بعيداً عن التعليمات والأوامر الحزبية .

لقد وفرت الثورة العلمية التكنولوجية واقتصاد المعرفة الفرصة للجميع ليكونوا مثقفين قادرين على استلهام فكرة التغيير والمساهمة فيه . ويكتسب هذا الوضع أهميته، إذا علمنا أن انهيار الطبقة الوسطى يعني انهيار التسويات التاريخية والسياسية بين الطبقات، ولم يبق إلا المثقف الشعبي حائط صد لوقف التداعي والاستنزاف، والوقوف إلى جانب الطبقات المنتجة، ما دامت البرجوازية الكمبرادورية "الليبرالية الجديدة "غير معنية بالثقافة والمثقفين، لخضوعها لقانون التبعية، الذي يتحكم بها وبغيرها، لتحقيق الربح الفاحش والسريع، وانتمائها الأصلي إلى" المترو بول العالمي" انتماء يفوق انتماءها لوطنها . وليس هناك من بديل عن تشكيل كتلة تاريخية شعبية عمادها جبهة المثقفين المتحدين من أجل التغيير، وشرط وجودها وتبلورها في ذاتها، تحول الموظفين المختصين في البنى الفكرية إلى مثقفين مستقلين للانخراط في الشأن العام بلا توسط، وتجاوز الأطر الاجتماعية والسياسية القديمة، وتشكيل اتجاهات وائتلافات وطنية خارقة للهويات الفرعية والطبقية، التي تتجاوز في مبناها ومعناها الجبهات الوطنية، التي أتقنت فبركتها الأنظمة الشمولية المتسلطة، وحزبها القائد لتأميم العمل السياسي والسيطرة على الجماهير .

لقد أثبتت التجربة السياسية العربية إبان المد القومي في النصف الثاني من القرن العشرين، أن المثقف" نبي أعزل" بدون عصبية، بعد تصفية فاعليته في الانقلابات العسكرية ومصادرة أفكاره، ومطاردة الأحزاب السياسية له، لضيقها ذرعاً بالفكر والمفكرين، بالرغم من تشدقها الدائم بأهمية الثقافة والمثقفين .

لن يتحول المثقف إلى نبي مسلح في عصر العولمة والمعلوماتية والمجتمع الجماهيري، إلا بتحرره من التزاماته الضيقة وهوياته الفرعية، والانتماء لذاته بوصفه مثقفاً فوق الشبهات، ملتزماً بالمجموع الوطني الذي يمحّضه الثقة الكاملة للمساهمة في التغيير والإصلاح الشامل، الذي يعادل الثورة من دون ثورة، فقضيته قضية عامة، والتزامه بقضيته التزام إنساني، وسياسي.

وفي اللحظة التي يمثل فيها ذاته بكونه مثقفاً، تتجاوزه أفكاره، كما تتجاوزه الجماهير التي تتمثل تلك الأفكار، وتعمل على تذويتها؛ أي إعادة إنتاجها بطريقتها الخاصة، وتتطلب فاعليته الحد الأدنى من الضمانات الديمقراطية والنزعة الإنسانية، وهذا ما ورثته أوروبا المعاصرة سليلة عصر التنوير والثقافة البرجوازية الأصيلة، التي لا يمكن لليبرالية الجديدة تجاوز مكتسباتها الثقافية، التي أصبحت جزءاً من هويتها الحضارية ورأسمالها الرمزي، وسبب اعتدادها بمركزيتها الغربية، التي أنتجت خصوصيتها وريادتها في العلوم الإنسانية، وخاصة في الفلسفة والإنتاج المعرفي وصناعة الأفكار.

أما في البلدان العربية، فتبدو الصورة مغايرة تماماً، فلا يوجد إجماع على احترام القيم الثقافية ورأس المال الرمزي بالطريقة نفسها، والأسباب ذاتها، ويتم التشكيك بأهمية المثقف المستقل وضرورة أفكاره الشمولية في عصر الخصخصة والتخصص المهني والتسليع. فلا مجال من حيث المبدأ لإفساح المجال لثلة من المتذمرين؛ أي المثقفين الأخلاقيين لهدم صروح الليبرالية الجديدة، والعودة إلى المذهب الإنساني والحرية في براءتها الأولى، وإيلاء الفكر والثقافة الاهتمام اللازم، وقلب سلَّم القيم والأولويات لصالح الثقافة والمثقف.

لكن ما يتطلبه الوضع الراهن هو إزالة أضرحة الثقافة، والنعي الكاذب للمثقف،وتهديم الأسوار الطينية التي شيدتها الليبرالية الجديدة، وضرورة اختراقها بمشروع إصلاحي شامل، يتداخل فيه السياسي بالثقافي، مشروع ملتزم بالحرية والكرامة الإنسانية والانخراط الفعلي فيه.

لقد سجل الحراك الشعبي على امتداد الوطن العربي حضور المثقف وغيابه. وأوجد حضوره فرقّاً نوعياّ في ساحات الاحتجاج، وجرد الأنظمة الاستبدادية من أدواتها اللازمة لفرض الهيمنة والإذعان، فزاد عريها وعقمها، لكونها أنظمة مضادة للتقدم والإنسانية.

إن ابتذال الثقافة في عصر الاستبداد جعل هبوطها ومجانيتها أمراً مريعاً وحتمياً، ويحظى بالرعاية، ولا يمكن إنقاذها إلا بالتخلص من أصول ابتذالها، لإفساح المجال لثقافة جادة ملتزمة ومثقفين جادين؛ أي إرساء قاعدة مادية ومعرفية لإنتاج ثقافة جديدة تقطع مع الماضي وتتجاوزه .

ولكن ؛ هل تشعر كل الحركات الشعبية بالامتنان للمثقف وضرورته، ومتى يكون ذلك ما دامت الأفكار المهيمنة أفكار الطبقة المهيمنة؟

تبدو الأمور ملتبسة، وغاية في التعقيد، فهناك أولاً الثقافة المضادة التي تسوغ نفسها ببحثها عن الحقيقة، وتجاهد لإثبات وجودها بالرغم من الحصار والانحسار. وهناك إحساس عارم بأن الحراك الشعبي خاضع لديناميكياته الداخلية، وفي غنى عن أي تدخل خارجي من المثقف وغير المثقف، فقد أصبح غيابه أو تغييبه فرصة لإدانته وتجاوزه.

فالمطالب واضحة وتمتلك شعاراتها القدرة على الاستقطاب،لأنها من وحي حركة شعبية عفوية مطالبها نتاج حاجاتها ومعاناتها، ولم ولن تنتظر توجيهاً أو تأطيراً من أحد لكسر حصارها، والانتفاض من جديد، إلا أن مأزقها في ذاتها. فحتى تتكامل في معناها ومبناها عليها أن تحقق قطعاً مع أولياتها، وترفع سويّتها التنظيمية والفكرية، وتعقلن دافعيتها لتنتقل من العفوية إلى الوعي الذاتي، ولن يمنحها هذا الوعي إلا المثقف، ليختصر عليها مرحلة التجربة والخطأ، بمنحها مبادئ تجريبية يستنبطها المثقف من ذاتها، التي تحولت في المشاركة العاطفية والفعلية إلى ذات جمعية تمثل الروح الكلي، ويعبر عنها برؤيته الشاملة محصلة ثقافته التجريبية ومعاناته اليقظة للواقع. وهنا لا يبقى أدنى مسوِّغ لازدواجية السياسي_ ممثل البرجوازية الصغيرة الذي لا يقرّ له قرار، والذي ينظر للشعب بوصفه مصدراً للحكمة والسذاجة في الوقت نفسه. فالمثقف يحتاج لحكمة الشعب لتحويل أفكاره إلى قوة مادية محركة، والشعب يحتاج للحقيقة الموضوعية التي يمتلكها المثقف لإنارة أهدافه. ويتجلى عقم التحليل الميكانيكي في عجزه عن إنتاج تركيب نوعي تكاملي يتجاوز أطرافه، فلا يعود هناك مجال للنقص الموضوعي، ما دامت تتبادل أطراف المعادلة ممثلة بالمثقف والجمهور، المحكومة بجدلية أساسها خضوع الحركة الشعبية الواعية لذاتها للتقنين، لتخليصها من حمولتها الزائدة مادياً ومعرفياً، وتمكين" مقص اوكام" من تشذيب النظرية بالممارسة والممارسة بالنظرية . ولهذا لا تكمن هوية المثقف في ذاته، بل تكمن ذاته في فاعليته ؛ أي "بدس أنفه بما لا يعنيه" كما يقول" سارتر"متجاوزاً ذاته من الانخراط بإنتاج المفاهيم (تفسير العالم) إلى تغييره، ولا يكون ذلك إلا بالانخراط الهادف بقاعدة الهرم الاجتماعي، وبصراعاته الطبقية ونضالاته المطلبية والسياسية.

لم يتبلور مفهوم المثقف والمثقفين في الغرب إلا في هذا السياق، عندما وقف كتّاب فرنسا انتصاراً للضابط اليهودي دريفوس، الذي أدين ظلماً وبهتاناً لأنه يهودي. عند ذلك تجاوز المثقفون وظيفتهم الخاصة إلى ما هو عام وشامل. ودسوا أنوفهم في قضية لا تعنيهم، وليست من اختصاصهم المباشر. ولم يجدوا أنفسهم مهتمين متورطين بالقضية إلا بتجاوزهم لذاتهم. وتجاوز الذات يبدأ بالتعاطف وينتهي بالتضحية.

فإذا انتقلنا من العام إلى الخاص، فيمكن القول إن المثقف الأردني ما زال يناضل لتوحيد كلمته، ورص صفوفه لصد الهجمة الليبرالية والعولمة الثقافية، التي تعمل على تنميط ثقافات العالم، وتصفية الثقافات واللغات المناهضة، ويناضل لتحويل مؤسساته التمثيلية وخاصة رابطة الكتاب الأردنيين إلى أداة ضغط، للتأثير في سياسات واستراتجيات الدولة والمجتمع . والانتقال من التأثير في الرأي العام إلى تغيير اتجاهاته بتغيير اهتمامات الناس الثقافية . ولا تتوقف مهامه ومتاعبه عند هذا الحد، بل علية مواصلة نضاله لحماية مكتسباته المادية والثقافية، وتحويلها إلى حقوق لا يجوز التراجع عنها، ورفع مستوى الثقافة، وجعل وزارتها وزارة سيادية .

لقد تحولت الثقافة في الأردن إلى خدمات ثقافية يتحمل المثقف مسؤولية إنتاجها، برعاية ودعم الجهات الرسمية والمؤسسات المدنية والقطاع الخاص، الذي تجاوز ذاته أحياناً بإنشاء دوائر ومرافق ثقافية، وتسخير بعض موارده وخبراته لإنتاج الثقافة، والتوسط بين المثقف والجمهور.

وتكمن مأساة المثقف الأردني في تناقضه مع نظامين للثقافة، هما: الثقافة الزائفة والثقافة الاستهلاكية؛ ثقافة التسلية . أما الأولى، فثقافة نفعية تؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى تخفيض قيمة الأشياء المنتجة، ما دامت معايير العمل الثقافي والفني وقيمته الحقيقية تكمن بتجاوزه زمنيته، لتحقيق خلوده، وتتمسك بمعايير خارجية تتمثل بالإيديولوجية والزبائنية . أما الثانية وأقصد بها ثقافة التسلية، فتعمل على تزييف الوعي الاجتماعي من خلال أدلجة الواقع وتجميله، وشحنه بالسعادة والإفراط بالتفاؤل، شرطاً مسبقاً لإنتاج إبداعات خالية من السياسة، هدفها تمويه الصراع الاجتماعي، لتجاوز ما لا يمكن تجاوزه، بتخدير ملكة النقد وإلغاء خيارات التغيير، وكلاهما أنماط ثقافية تخاطب الغرائز و"العقل المستقيل"، ويمكن وصفها في أفضل حالاتها بالثقافة السياحية .

ويتحمل المثقف الأردني -في ظروف التغيير - مسؤولية حماية مجتمعه من الارتداد إلى البنى الأولية، والهويات الفرعية، وضرورة تجاوز المرحلة الانتقالية بنجاح.

وتقف في وجهه معوقات إبستمولوجية ومادية، تتعلق أولاً ببنيته المعرفية واتجاهاته السياسية، وثانياً بطبيعته. فما زال موظفاً ملتزماً بمؤسسة بيروقراطية تحول بينه وبين الاستقلال الذاتي، الذي يتيح له التعبير والتفكير بحرية . وبالتالي فالسكوت والمسكوت عنه والرقابة الذاتية والمواربة عنوان شخصيته، ومحددات فاعليته وخطابه المعلن.

وبسبب تداخل أنماط المعيشة والإنتاج، وغلبة النزعة الاستهلاكية معرفياً ومادياً نجد المثقف الأردني بالأساس مثقفاً إبداعياً يشغله الأدب والفن ؛ إنه الكاتب والأديب والقاص والروائي والشاعر والناقد الأدبي، تعبيراً عن مرحلة الانتقال ؛ أي مرحلة الانفعال بالشيء وليس الفعل فيه، وآية ذلك قلة عدد المشتغلين بالفكر النقدي والنقد الحضاري الشامل، الذي يتطلب رؤية كلية للواقع في مجتمع إنتاجي، انتقل من التحضر إلى التمدن، وامتلك الحد الأدنى من الإرادة والفاعلية لبناء مشروع نهضوي يتطلب من المثقف حدّه (تعريفه )، ومحايثته بالتحليل والتوجيه، أو ما سماه الفيلسوف " كانت" "بالعقلية المتوسعة"، التي تعني القدرة على الحكم قائمة على موافقة كامنة بين الإنسان وسائر الناس، أو التفكير مكانهم وبلسانهم.

ومن ملامح المرحلة الانتقالية التي تتطلب من المثقف الأردني تجاوزها بالإصلاح والتغيير، تحوّل المشكلات السياسية إلى مشكلات ثقافية والعكس بالعكس، ومهمة المثقف فيها إعادة نصاب الثقافة للثقافة، وطرح سياساته الثقافية لتحديد الاتجاه وآفاق التحول، وإلا سيبقى مثقفاً يطفو فوق الأحداث التي لا تؤثر فيه ولا يؤثر فيها.

 

 

 

 

تابعو الأردن 24 على google news
 
ميثاق الشرف المهني     سياستنا التحريرية    Privacy Policy     سياسة الخصوصية

صحيفة الكترونية مستقلة يرأس تحريرها
باسل العكور
Email : info@jo24.net
Phone : +962795505016
تصميم و تطوير