اجتماع العقبة ... الحسابات والنتائج
محمد أبو رمان
جو 24 :
صدر بيان اجتماع العقبة، الأمني الفلسطيني الإسرائيلي الأميركي المصري الأردني، أول من أمس، ليؤكد على ضرورة الالتزام بخفض التصعيد (في الأراضي الفلسطينية) والحفاظ على الوضع القائم في الأماكن المقدّسة في القدس، قولاً وعملاً، من دون تغيير. وشدّد على الوصاية الهاشمية، وحدّد فترة انتقالية بين ثلاثة وستة أشهر لخفض التوتر وإجراءات بناء الثقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع وقف مناقشة إقامة وحدات استيطانية جديدة أربعة أشهر، واتفق المشاركون على اللقاء في الشهر المقبل (مارس/ آذار) في شرم الشيخ.
وكانت عملية جنوب نابلس التي قتل فيها فلسطيني مستوطنين إسرائيليين وقعت خلال انعقاد اجتماع العقبة الأمني، بين وفد فلسطيني وآخر إسرائيلي، بمشاركة أردنية مصرية أميركية، في الوقت الذي كانت فيه "فصائل مقاومة" في جنين تعلن رفضها هذا الاجتماع وتدين مشاركة السلطة الفلسطينية فيه.
في ظل المعلومات الشحيحة والمحدودة عن اللقاء (نظراً إلى طبيعته الأمنية)، فلنحاول أن نتمثّل الموقف الأردني، ونفكّر في الأسباب وراء الدعوة إلى عقده، ولعلّ الجملة المفتاحية تتمثل في القناعة الأردنية بأن المصلحة الاستراتيجية الأردنية اليوم تكمن في تعزيز السلطة الفلسطينية وإعادة تأهيلها وخفض التوتر والعودة إلى التهدئة في الأراضي المحتلة، لقطع الطريق على مشروع نتنياهو في تعزيز التوتر وتمرير أجندة خطيرة خلال ذلك، في القدس والمستوطنات والسياسات المرتبطة بمحاولات تغيير الأمر الواقع نحو مزيدٍ من المكاسب الإسرائيلية، في ظل انهيار العمق الاستراتيجي العربي للفلسطينيين، وانشغال العالم بالحرب الروسية - الأوكرانية.
الدبلوماسية الأردنية كانت تتحفّظ في الاندماج في موضوع المحادثات المتعلقة بالملف الفلسطيني، على قاعدة أنّه ملفٌّ مصري
ويكمن الهدف الاستراتيجي الثاني في استعادة دور الأردن في المعادلة الفلسطينية، بعدما تراجع في الأعوام الأخيرة، خاصة منذ مرحلة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، والاتفاقيات العربية - الإسرائيلية في التطبيع، وتصاعد الأجندة الإسرائيلية التي تعمل على تحييد الأردن وتحجيم دوره السياسي والدبلوماسي. في مقابل ذلك، يفتح اجتماع العقبة أمام إعادة تشكيل مفهوم الدور الأردني وترسيمه، من خلال قوة الدعم الخلفي الأميركي، مما "يردّ الاعتبار" للأردن مرّة أخرى في أحد الملفات الاستراتيجية في سياسته الخارجية.
معروفٌ أنّ الدبلوماسية الأردنية كانت تتحفّظ في الاندماج في موضوع المحادثات المتعلقة بالملف الفلسطيني، على قاعدة أنّه ملفٌّ مصري، لكن الواضح اليوم أنّ القناعة الأردنية تحوّلت نحو إدراك ضرورة انخراط أردني أكبر وأعمق فيه على المستويات كافّة، لكن بأيّ اتجاه وبأي خطة ورؤية استراتيجية، هذا هو السؤال.
إذا تجاوزنا ما "خمّناه" من حساباتٍ أردنية وراء انعقاد اجتماع العقبة، دعونا ننتقل إلى استنطاق النتائج والتداعيات المتوقّعة منه، ويمكن القول إنّ الأردن حصد مجموعة من النتائج الواضحة من وقف الاستيطان (ولو مؤقتاً) ومنع أي إجراء إسرائيلي في الأماكن المقدّسة، وضمانات أميركية بالالتزامات الإسرائيلية في هذا الجانب، وإعادة بناء طاولة جديدة لضبط السلوك الإسرائيلي المنفلت، أحسب أنّ أي المسؤولين الأردنيين سيؤكّدون على ما سبق بوصفها الأسباب والدوافع وراء انعقاد الاجتماع.
لا يحمل الموقف الأميركي اليوم أي مشروع للتسوية يمكن اختصاره في كلمتين فقط "خفض التوتر"
ومع الإقرار بأنّ هذه النتائج الجزئية إيجابية وجيّدة، لكن ليس من الخطأ محاولة اختبار بعض الفرضيات وبناء نقاشات عقلانية - واقعية حولها، ولعل السؤال الأول المطروح، والذي يعود بنا إلى مقالات سابقة ناقش فيها الكاتب المصالح الاستراتيجية والأمنية الأردنية فيما يحدُث في الضفة الغربية، هو فيما إذا كانت المصالح الأردنية متعلقة حقاً بالتأكيد على التهدئة وتخفيض التوتر والعنف، في ظل توقف العملية السلمية بصورة كاملة ومطلقة أولاً، ووجود حكومة إسرائيلية متطرّفة لا تحمل أي احتمال أو مشروع للتسوية ثانيا.
وربما يقول قائل إنّ الموقف الأردني والفلسطيني الداعي إلى نزع التوتر والمتمسّك بالتسوية والسلام سيُحرج الإسرائيليين ويعزلهم أمام العالم، والجواب أنّ ذلك لم يحدُث سابقاً، ولن يحدُث لاحقاً، والرهان عليه لن يؤدّي إلا إلى مزيد من الخسائر في الوقت نفسه، ويمنح إسرائيل المساحة الكافية لتقوم بما تريد، لأنّ قادة إسرائيل المتطرّفين لا يحفلون بالمجتمع الدولي، ويراوغون حتى مع الإدارة الجديدة. ولم يجرؤ المجتمع الدولي أن ينتقد الموقف الإسرائيلي من مجزرة نابلس صراحةً، وبالتالي تجريب المجرّب وتوقع نتائج مختلفة ليس تكتيكاً (فضلاً عن أن يكون استراتيجية) ناجحاً بأي حالٍ.
لا يحمل الموقف الأميركي اليوم أي مشروع للتسوية يمكن اختصاره في كلمتين فقط "خفض التوتر"، والأجندة الدولية خالية من القصة الفلسطينية، والأجندة العربية ملتبسة وباطنية. وبالتالي، من الضروري أن نتجاوز الحرص على "خفض التوتر" إلى السؤال عن المصالح الاستراتيجية والرهانات الحقيقية للفلسطينيين والأردنيين على السواء!
لا يجوز أن يبقى اهتمام المسؤولين الأردنيين بكسب الرأي العام الأردني والفلسطيني والعربي محدوداً أو شبه غائب
لماذا لا نجد قراءة أردنية معمّقة ودقيقة مشتركة مع نخب فلسطينية معتبرة متعدّدة الاتجاهات بشأن السيناريوهات والخيارات، وتعريف المصالح الأردنية والفلسطينية في ضوء ذلك، وبعدها نقرّر فيما إذا كان فعلاً خفض التوتر هو الحل الأمثل، أم أنّ تصعيد أعمال مقاومة مدروسة ضمن أجندة سياسية استراتيجية مثلاً هو الحل الأفضل، أو حتى أي خيار استراتيجي وسيناريو آخر، لكن ملاحقة فكرة التهدئة وخفض التوتر من دون رؤية استراتيجية واضحة للمصالح الوطنية أو حتى بناء تصوّرات لمسارات بديلة وصناعتها.
على الصعيد العملي، نكون مخطئين أو واهمين إذا لم نقل إنّ اجتماع العقبة أضرّ بسمعة الأردن سياسياً وإعلامياً في الشارع الفلسطيني أولاً، والشارع الأردني بالدرجة نفسها، والشارع العربي - الإسلامي ثانياً، والسبب صمت الإعلام الأردني عن تقديم الرواية الأردنية: لماذا اجتماع العقبة؟ ولم يقدّم أي تفسير أو تسريبات، وترك الأمر للإعلام والمسؤولين الإسرائيليين ليرسموا الصورة التي يريدون، وهي الصورة التي أساءت للأردن، و"شكّكت" الشارع في وجود أجندات خفية أو مصالح أردنية متعلقة بإنهاء المقاومة الفلسطينية الجديدة، ودور غير مفهوم وغير مقبول لدى الأردنيين بإعادة تأهيل خمسة آلاف فرد من الأمن الفلسطيني وتدريبهم لإنهاء المقاومة، وفق ادعاء الإعلام الإسرائيلي!
ماذا يخبرنا المسؤولون الأردنيون عن هذه الرواية؟ لماذا تضيع كل الجهود الأردنية الدبلوماسية الصادقة والوفية خلال الأعوام الماضية في الدفاع عن القدس ومواجهة إسرائيل سياسياً، ورفض صفقة القرن وغيرها من مواقف معتبرة!
لا يجوز أن يبقى اهتمام المسؤولين الأردنيين بكسب الرأي العام الأردني والفلسطيني والعربي محدوداً أو شبه غائب، لأنّ خسارة الشارع والرأي العام تعني خسارة المعادلة الداخلية وحجما كبيرا من فجوة الثقة. في وقتٍ يؤكّد فيه أغلب السياسيين والمحللين على أهمية تصليب الجبهة الداخلية، وهو الأمر الذي يمثل أحد مبرّرات انخراط الأردن في الشأن الفلسطيني، فالرأي العام أصبح مع انفجار مواقع التواصل الاجتماعي اللاعب الرئيسي في المشهد السياسي، وخسارته تأتي ضمن الحسابات الثقيلة في تعريف المصالح الاستراتيجية والأمنية.
العربي الجديد