الحرية الفردية: في الدستور الأردني
د. نوفان العجارمة
جو 24 :
طالعت بعض وجهات النظر حول مفهوم الحرية الفردية التي تضمنتها المبادئ الأساسية للحزب المدني الديمقراطي- تحت التأسيس- وقد وجدت من المناسب إيضاح او تأصيل المفهوم الدستوري لمفهوم الحرية الفردية، لأن كل من وجهتي النظر استندت الى الدستور ذاته في الدفاع عن وجهة نظره. وقد وجدت ان فلسفة هذا الحق كانت غائبة الى حد ما، في هذا النقاش.
فالحريات الفردية، هي الحريات التي يكفلها الدستور للفرد باعتباره انساناً، بخلاف الحريات الجماعية، والتي يكتسبها الإنسان كفرد في جماعة أو كجزء من مجموعة أفراد يتشاركون معا في دولة واحده، بصفتهم مواطنين لتلك الدول كحرية تأسيس الأحزاب والجمعيات والنقابات وغيرها.
فالحرية الفردية، هي مبدأ أساسي في المجتمع البشري المتحضر، لذلك تبنى مشرعنا الدستوري مفهوم الحريات الأساسية والتي منها الحرية الفردية، وبالرجوع الى الدستور نجده نص على الحرية الفردية أو الشخصية وعززها في أكثر من مادة، فالمادة (7) من الدستور تنص على ( الحرية الشخصية) بالقول: (الحرية الشخصية مصونة، كل اعتداء على الحقوق والحريات العامة أو حرمة الحياة الخاصة للأردنيين جريمة يعاقب عليها القانون) والمادة (9/2) تنص على (حرية التنقل) بالقول : (لا يجوز ان يحظر على اردني الاقامة في جهة ما أو يمنع من التنقل ولا ان يلزم بالإقامة في مكان معين الا في الأحوال المبينة في القانون) والمادة (10) تنص على حرية (المسكن) بالقول: ( للمساكن حرمة فلا يجوز دخولها الا في الاحوال المبينة في القانون ، وبالكيفية المنصوص عليها فيه ) و المادة (11) تنص على (حرية العقيدة ) بالقول : ( تحمي الدولة حرية القيام بشعائر الأديان والعقائد طبقاً للعادات المرعية في المملكة ما لم تكن مخلة بالنظام العام او منافية للآداب) و المادة (15/1) تنص على (حرية الفكر او حرية التعبير) بالقول : ( تكفل الدولة حرية الراي، ولكل أردني ان يعرب بحرية عن رأيه بالقول والكتابة والتصوير وسائر وسائل التعبير بشرط ان لا يتجاوز حدود القانون) .
أن موجة الحريات الفردية التي أثارتها عدد من الحركات التي تتمحور حول حرية الشخص في جسده واختياراته وسلوكه وذوقه ولباسه وعلاقاته الجنسية، قد خلقت بؤرة التوتر، وحاولت حلحلة النقاش من موقعه التقليدي، الذي كان في العادة ما يستدل بمعادلة النظام العام والقيود التي تفرض على الحرية من هذا المدخل، فتحسم مختلف المعارك مع حركات الحريات الفردية بهذه المقاربة، التي تتذرع بالجماعة ونظامها العام، والتقييد الذي تقبله مختلف المنظومات القانونية الغربية للحرية من هذا المدخل، والتي تختلف بدورها عن النظام القانوني العربي بشكل عام .
إن النصوص الدستورية السابقة لا تتعارض أو تتهادم أو تتنافر فيما بينها، ولكنها تتكامل في إطار الوحدة العضوية التي تنتظمها، من خلال التوفيق بين مجموع أحكامها وربطها بالقيم العليا التي تؤمن بها الجماعة، في مراحل تطورها المختلفـــــــــــة. ويتعين دومًا أن يُعتد بهذه النصــــــــــــــــــوص، بوصفها متآلفة فيما بينها، لا تتماحى أو تتآكل، بل تتجانس معانيها، وتتضافر توجهاتها، و أن إنفاذ الوثيقة الدستورية، وفرض أحكامها على المخاطبين بها، يفترض العمل بها في مجموعها، بالنظر إليها باعتبار أن لكل نص منها مضمونًا ذاتيًّا، لا ينعزل به عن غيره من النصوص، أو ينافيها، أو يسقطها، بل يقوم إلى جوارها متساندًا معها، مقيدًا بالأغراض النهائية، والمقاصد الكلية التي تجمعها.
والدستور يمثل أصلا هادفا لحماية الحرية الفردية ودعم انطلاقها إلى آفاق مفتوحة تكون بذاتها عاصماً من جموح السلطة أو انحرافها ضمانة رئيسية لإنفاذ الإرادة الشعبية في توجهها نحو مثلها الأعلى وبوجه خاص في مجال ارسائها نظاماً للحكم لا يقوم على هيمنة السلطة وانفرادها ، و يولي الدستور فوق هذا كل الاعتبار لمصالح الجماعة بما يصون مقوماتها ، ويكفل قيمها الاجتماعية محققاً للتكافل بين أفرادها ، نابذاً انغلاقها ، والدستور، بالحقوق التي يقررها ، والقيود التي يفرضها ، وأيا كان مداها أو نطاقها لا يعمل في فراغ ، إذ هو وثيقة تقدمية نابضة بالحياة .
وتُعد الحرية الفردية من الحريات الأساسية، التي تحتمها طبيعة النظام الديمقراطي في الدولة، وتعد ركيزة لكل حكم ديمقراطي سليم، وتعتبر الحرية الأصل، الذي يتفرع عنه الكثير من الحريات والحقوق العامة الفكرية والثقافية وغيرها، وتعد المدخل الحقيقي لممارستها، كحق النقد، وحرية الصحافة والطباعة والنشر، وحرية البحث العلمي، والإبداع الأدبي والفني والثقافي. وتعد من الدعامات الأساسية، التي تقوم عليها النظم الديمقراطية، وغدت من الأصول الدستورية الثابتة، في كل بلد ديمقراطي متحضر، وحرصت على توكيدها الدساتير الأردنية المتعاقبة منذ عام 1928.
وحتى في ظل الشريعة الإسلامية الغراء فأن الانسان حر على خلاف بقية المخلوقات، وقد تمثل أول مظهر من مظاهر حريته الفردية في اختيار الهداية من الضلال، فضمن القرآن الكريم للناس حرية المعتقد، إذ يتأسس التصور الإسلامي – كما يقول الفقهاء- على ثلاثية مفاهيمية مترابطة: بيان الحق، وحرية الاختيار، والمسؤولية الأخروية عن هذا الاختيار.
وحتى في جريمة الردة يرى بعض الفقهاء المعاصرين (محمود شلتوت، والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي والدكتور طه جابر العلواني والدكتور الحسين الموس) ان علة القتل الواردة في النص غير مرتبطة بتغيير المعتقد، وإنما مناطها مفارقة الجماعة وخيانة الدولة والاشتغال مع خصومها ضد مصالحها، والقرآن الكريم لم يتضمن عقوبة دنيوية للمرتد، وأن العدد القليل الذي أقيم عليه قتل المرتد يحيل إلى أن علة القتل غير مرتبطة البتة بقضية التحول في المعتقد، بقدر ما تبرز ملابساتها أنها مرتبطة بجريمة سياسية.
وليس القصد من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التدخل في الحريات الفردية وانتهاكها، وإنما القصد منه بناء فاعلية الفرد اتجاه المنكرات والظلم والاعتداء على الحق العام، وهو شكل من أشكال الممانعة الاجتماعية، التي تقي الاستبداد من جهة، ومفاسد الحرية غير المنضبطة من جهة أخرى، أي تبني في المحصلة، الضمير او الوازع الاجتماعي الذي يحول دون هتك مبادئ المجتمع وقواعده وآدابه العامة.
وتأصيل العلماء لقواعد تغيير المنكر، تؤشر على الضمانات التي أحاط بها الإسلام ممارسة الحريات الفردية، ومنع التدخل فيها وانتهاكها وليس منعها او تقييدها .
نخلص الى القول – ومن باب الحرية الفردية وحرية التعيير تحديدا- بان كافة الآراء على اختلافهــــــــــــــــــا، لا يجوز إجهاضها ولا مصادرة أدواتها، أو فصلهــــــــــــــــــا عن غاياتها، ولو كان الآخرون لا يرضون بها، أو يناهضونها أو يحيطون ذيوعها بمخاطر يدعونها، ولا يكون التعبير عن الآراء حائلاً دون مقابلتهــــــــــــا ببعض، وتقييمها، ولا مناهضتها لآراء قبلها آخرون، مؤديًا إلى تهميشها؛ ولا تلقيها عن غيرهم مانعًا من ترويجها أو مستوجبا إعاقتها أو تقييدها، فالحقيقة وليدة اختلاف الرأي .