لجوء أبناء الحرّاثين
جو 24 : تامر خرمه -
قدر الأردن، الذي فرضه الظرف الجيوسياسي، أن يستقبل اللاجئين من مختلف بقاع الأرض العربيّة، ليلوذ إليه الأشقّاء هربا من لعنة الموت ولعبة الأمم، التي اتّخذت من الشرق الأوسط ساحة مفتوحة للصراع.
ما الذي تغيّر على الواقع الأردني ؟
مازال هو الملاذ "الآمن" حتى اليوم، ومازال يشكّل بوصلة اللجوء ويجسّد على أرضه وحدة الدم بكامل تفاصيلها.. ولكن..
ثمّة تغيّر يقود هذا البلد الصغير إلى تحوّل دراماتيكي، ليصبح المضيف نفسه باحثا عن ملاذ "آمن".. لماذا ؟
لأن "أمن" الأرواح لا يتحقّق فقط بالاحتفاظ بها داخل الجسد، ولأن "العيش المحض" ليس شكلا متمايزا عن الموت، فليس الرصاص وحده ما يقتل الأمل.. نعم.. للقمع عدّة لغات، ولكن الموت واحد، وعندما تضيق البلاد على أهلها، وإن تمكّنوا من الاحتفاظ بأرواحهم، فلا مناص من تجرّع مرارة اللجوء.
في ذات الوقت الذي يستقبل فيه الأردنيّون أشقّائهم اللاجئين، بات المواطن ينتظر فرصته للجوء إلى أيّة بقعة على هذا الكوكب، تمكّنه من الاحتفاظ بكرامته التي لا معنى للحياة بمعزل عنها، فالتنفّس وسائر عمليّات الأيض لا تكفي للنجاة، أو تجنّب الارتماء في العدم.
ترى، هل يمكن لأحد أن يجزم بأن المواطن الأردني لا يحلم باللجوء، وأنّنا لن نشهد تدافعاً هستيريّا على أبواب السفارات الغربيّة، في حال فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين ؟
هل بات الأردني لاجئا في وطنه، يستقبل أشقّاءه اللاجئين بيد، وينجز معاملة لجوئه الخاص باليد الأخرى ؟
حقيقة غريبة باتت تفرض نفسها على أرض الواقع.. كيف؟
في البدء كان القمع، ثمّ مصادرة سبل العيش.. استعار لا يهدأ لأسعار مختلف السلع الأساسيّة، لا تنافسه في تضييق سبل العيش سوى تلك القبضة الأمنيّة التي لا تملّ رقاب الناس، إدارة "فريدة" لشؤون الدولة تميّز بها ساسة هذا البلد، سوق "حرّ" ومواطن مضطهد.. "ليبرالية بيروقراطيّة".. تركيبة أعجز بها ساستنا منطق الأمور !!
عندما قرّر الناشط عديّ أبو عيسى أن يلوذ إلى تركيا طلبا للجوء السياسي، تعرّض لموجة انتقادات واسعة، لا يعلم أحد كيف ولماذا بدأت، فهناك من يصفه بـ "المراهق السياسي" وآخر ينعته بـ "الأناني" بل و"المتآمر"...
ولكن ألا يراود كثيرا من المواطنين من مختلف الفئات العمريّة والجندريّة والدمويّة (نسبة لزمرة الدم) حلم التواجد في مكان أبو عيسى، هربا من ضنك العيش تحت وطأة الغلاء ومرارة الاستعباد ؟!
وبعيدا عن قصّة عديّ.. ما الذي دفع شابّا لا يملك أحد المزايدة على وطنيّته، ولا التشكيك في مقدار وعيه السياسي، كالزميل علاء الفزّاع، ابن الحرّاثين، إلى طلب اللجوء السياسي في السويد ؟!
عندما خاض علاء الفزّاع معركة الانتخابات "الديمقراطيّة"، على رأس قائمة "أبناء الحرّاثين" كان يحلم بـ "التغيير من الداخل".. رفض أن يعترف بأن الدولة لم تعد لأبنائها، وأن "الدولار" لم يترك مكاناً لـ "الحرّاثين".. وهذا ما حصل..
أوّلا قرّر المركز الأمني السياسي مصادرة حريّة الإعلام، فأقرّ قانون المطبوعات العرفي وحجب المواقع الإخباريّة التي رفضت الانصياع، ومنها موقع "خبر جو" الذي خاض خلاله الفزّاع معركة الحريّة بكلّ جرأة.
ونتيجة للحجب، ضاقت بعلاء سبل العيش، فما عاد قادرا على الاحتفاظ بجريدته الالكترونيّة، التي استهدفتها -كغيرها من الصحف الوطنيّة المستقلّة- سياسة تجفيف منابع الإعلان وحرمانها من الوصول إلى القرّاء.
قرّر الفزّاع بيع موقعه، بحث عن عمل يقتات منه، طرق أبواب التعليم، ولكن هل يمكن لمن عارض وتظاهر بكلّ ما أوتي من صدق أن يحظى بفرصة عمل في وقت يطارد به الاحرار ويزجون بالمعتقلات؟
وهل هناك من يجزم بأن علاء لن يكون محتجزا لدى "أمن الدولة" في حال تأخّر عن موعد الطائرة ؟
معالي الرفيق خالد كلالده، أمين حركة اليسار الاجتماعي السابق، والوزير الحالي، أخبرني حرفيّا قبيل العيد: "ستسمعون أخبارا جيّدة.. لنرى من سيضحك بالآخر".. وجاء العيد.. ولكن مازال المعتقلون السياسيّون قابعين في سجونهم، وعوضا عن إخلاء سبيل أحد منهم، استمرّت السلطة في مطاردة النشطاء والتضييق على الصحافيين، فهل تضحك الآن يا معالي الرفيق؟
لم يقف الأمر عن تخييب ظنون الوزير وعدم إخلاء سبيل المعتقلين قبل العيد كما كان متوقّعا، بل استمرّت السلطة بذات النهج لمصادرة الحريّة وتكسير الإرادة الوطنيّة.. حتى الصحافة لم تنجح بالاحتفاظ بموقعها المحايد الذي تفرضه مهنة نقل الحقيقة، فالزميل أحمد الحراسيس تعرّض للاعتداء من قبل قوّات الدرك، ولكن طبعا بعد أن تأكدوا من "اقترافه" لـ "جريمة" الصحافة !!
وطن بات فيه البطش هو سيّد الموقف.. يحترف ساسته خنق الكلمة.. فماذا تتوقّعون؟
وعودة إلى قصّة علاء.. هناك من أعرب عن حزنه من هذا اللجوء المباغت، وهناك من غضب، وهناك من بدأ بالتحدّث عن "مؤامرة" لا يعجز الخيال عن حياكة فصولها.. ولكن الحكاية باختصار، هي قصّة مواطن أردني تجرّع مرارة اللجوء في وطنه، قبل أن يكون لاجئا على حدود القطب الشمالي.
قدر الأردن، الذي فرضه الظرف الجيوسياسي، أن يستقبل اللاجئين من مختلف بقاع الأرض العربيّة، ليلوذ إليه الأشقّاء هربا من لعنة الموت ولعبة الأمم، التي اتّخذت من الشرق الأوسط ساحة مفتوحة للصراع.
ما الذي تغيّر على الواقع الأردني ؟
مازال هو الملاذ "الآمن" حتى اليوم، ومازال يشكّل بوصلة اللجوء ويجسّد على أرضه وحدة الدم بكامل تفاصيلها.. ولكن..
ثمّة تغيّر يقود هذا البلد الصغير إلى تحوّل دراماتيكي، ليصبح المضيف نفسه باحثا عن ملاذ "آمن".. لماذا ؟
لأن "أمن" الأرواح لا يتحقّق فقط بالاحتفاظ بها داخل الجسد، ولأن "العيش المحض" ليس شكلا متمايزا عن الموت، فليس الرصاص وحده ما يقتل الأمل.. نعم.. للقمع عدّة لغات، ولكن الموت واحد، وعندما تضيق البلاد على أهلها، وإن تمكّنوا من الاحتفاظ بأرواحهم، فلا مناص من تجرّع مرارة اللجوء.
في ذات الوقت الذي يستقبل فيه الأردنيّون أشقّائهم اللاجئين، بات المواطن ينتظر فرصته للجوء إلى أيّة بقعة على هذا الكوكب، تمكّنه من الاحتفاظ بكرامته التي لا معنى للحياة بمعزل عنها، فالتنفّس وسائر عمليّات الأيض لا تكفي للنجاة، أو تجنّب الارتماء في العدم.
ترى، هل يمكن لأحد أن يجزم بأن المواطن الأردني لا يحلم باللجوء، وأنّنا لن نشهد تدافعاً هستيريّا على أبواب السفارات الغربيّة، في حال فتحت أبوابها لاستقبال اللاجئين ؟
هل بات الأردني لاجئا في وطنه، يستقبل أشقّاءه اللاجئين بيد، وينجز معاملة لجوئه الخاص باليد الأخرى ؟
حقيقة غريبة باتت تفرض نفسها على أرض الواقع.. كيف؟
في البدء كان القمع، ثمّ مصادرة سبل العيش.. استعار لا يهدأ لأسعار مختلف السلع الأساسيّة، لا تنافسه في تضييق سبل العيش سوى تلك القبضة الأمنيّة التي لا تملّ رقاب الناس، إدارة "فريدة" لشؤون الدولة تميّز بها ساسة هذا البلد، سوق "حرّ" ومواطن مضطهد.. "ليبرالية بيروقراطيّة".. تركيبة أعجز بها ساستنا منطق الأمور !!
عندما قرّر الناشط عديّ أبو عيسى أن يلوذ إلى تركيا طلبا للجوء السياسي، تعرّض لموجة انتقادات واسعة، لا يعلم أحد كيف ولماذا بدأت، فهناك من يصفه بـ "المراهق السياسي" وآخر ينعته بـ "الأناني" بل و"المتآمر"...
ولكن ألا يراود كثيرا من المواطنين من مختلف الفئات العمريّة والجندريّة والدمويّة (نسبة لزمرة الدم) حلم التواجد في مكان أبو عيسى، هربا من ضنك العيش تحت وطأة الغلاء ومرارة الاستعباد ؟!
وبعيدا عن قصّة عديّ.. ما الذي دفع شابّا لا يملك أحد المزايدة على وطنيّته، ولا التشكيك في مقدار وعيه السياسي، كالزميل علاء الفزّاع، ابن الحرّاثين، إلى طلب اللجوء السياسي في السويد ؟!
عندما خاض علاء الفزّاع معركة الانتخابات "الديمقراطيّة"، على رأس قائمة "أبناء الحرّاثين" كان يحلم بـ "التغيير من الداخل".. رفض أن يعترف بأن الدولة لم تعد لأبنائها، وأن "الدولار" لم يترك مكاناً لـ "الحرّاثين".. وهذا ما حصل..
أوّلا قرّر المركز الأمني السياسي مصادرة حريّة الإعلام، فأقرّ قانون المطبوعات العرفي وحجب المواقع الإخباريّة التي رفضت الانصياع، ومنها موقع "خبر جو" الذي خاض خلاله الفزّاع معركة الحريّة بكلّ جرأة.
ونتيجة للحجب، ضاقت بعلاء سبل العيش، فما عاد قادرا على الاحتفاظ بجريدته الالكترونيّة، التي استهدفتها -كغيرها من الصحف الوطنيّة المستقلّة- سياسة تجفيف منابع الإعلان وحرمانها من الوصول إلى القرّاء.
قرّر الفزّاع بيع موقعه، بحث عن عمل يقتات منه، طرق أبواب التعليم، ولكن هل يمكن لمن عارض وتظاهر بكلّ ما أوتي من صدق أن يحظى بفرصة عمل في وقت يطارد به الاحرار ويزجون بالمعتقلات؟
وهل هناك من يجزم بأن علاء لن يكون محتجزا لدى "أمن الدولة" في حال تأخّر عن موعد الطائرة ؟
معالي الرفيق خالد كلالده، أمين حركة اليسار الاجتماعي السابق، والوزير الحالي، أخبرني حرفيّا قبيل العيد: "ستسمعون أخبارا جيّدة.. لنرى من سيضحك بالآخر".. وجاء العيد.. ولكن مازال المعتقلون السياسيّون قابعين في سجونهم، وعوضا عن إخلاء سبيل أحد منهم، استمرّت السلطة في مطاردة النشطاء والتضييق على الصحافيين، فهل تضحك الآن يا معالي الرفيق؟
لم يقف الأمر عن تخييب ظنون الوزير وعدم إخلاء سبيل المعتقلين قبل العيد كما كان متوقّعا، بل استمرّت السلطة بذات النهج لمصادرة الحريّة وتكسير الإرادة الوطنيّة.. حتى الصحافة لم تنجح بالاحتفاظ بموقعها المحايد الذي تفرضه مهنة نقل الحقيقة، فالزميل أحمد الحراسيس تعرّض للاعتداء من قبل قوّات الدرك، ولكن طبعا بعد أن تأكدوا من "اقترافه" لـ "جريمة" الصحافة !!
وطن بات فيه البطش هو سيّد الموقف.. يحترف ساسته خنق الكلمة.. فماذا تتوقّعون؟
وعودة إلى قصّة علاء.. هناك من أعرب عن حزنه من هذا اللجوء المباغت، وهناك من غضب، وهناك من بدأ بالتحدّث عن "مؤامرة" لا يعجز الخيال عن حياكة فصولها.. ولكن الحكاية باختصار، هي قصّة مواطن أردني تجرّع مرارة اللجوء في وطنه، قبل أن يكون لاجئا على حدود القطب الشمالي.