jo24_banner
jo24_banner

اعادة احياء التاريخ

فريق ركن متقاعد موسى العدوان
جو 24 :




بعد أن أنهيت المشاركة بدورة كلية الأركان الأردنية عام 1968 ومارست عمل الأركان والقيادة لأربع سنوات، ابتعُثت في إلى دورة الأركان البريطانية الشهيرة / كامبرلي عام 1972، لاكتساب المزيد من المعرفة في الثقافة والفنون العسكرية. وكان منهاج الدورة يتضمن زيارة دراسية إلى ميدان المعركة (Battle Field Tour) في فصل الصيف، بعد أن مر عليها ما يزيد عن ربع قرن. كانت الزيارة الدراسية عام في ذلك العام إلى ميدان المعركة في فرنسا، وبالتحديد في القاطع البريطاني، خلال عملية الإنزال الجوي والبحري في نورماندي.

حُددت للزائرين عدة مواقع للتوقف عندها، وتلقي إيجازا مفصلا عن مجريات المعركة، من قبل الذين خاضوها إن كانوا أحياءا، أما إن كانوا متوفين فيستعاض عنهم بتسجيلات لأصواتهم قبل وفاتهم، والاستماع إليها من خلال المسجلات واستخدام مكبرات الصوت. فيقوم أحد ضباط الأركان البريطانيين بالتأشير والتوضيح للحديث الصوتي على الأرض، كما يرد في ذلك التسجيل، وتاليا مثالين على ذلك :

كان من بين الأحياء الذين شاهدناهم في أحد مواقع الزيارة، قائد كتيبة (Green Howards)، والذي كان يبدو بمنتهى لياقته البدنية. إذ نزل إلى أحد الخنادق، وأخذ الموضع الذي كان يحتله خلال المعركة، وراح يشرح كيف هاجم الألمان كتيبته في ذلك الموقع بتفاصيله، وكيف جرى صدّهم، فعشنا تلك اللحظات وكأننا في أجواء المعركة الحقيقية. وفي موقع آخر كان الإيجاز عن اصطدام لواء مدرع بريطاني بمقاومة ألمانية. وبما أن قائد اللواء البريطاني كان متوفيا، فقد استُخدمت تسجيلا بصوته، ليشرح لنا مجريات ما حدث للوائه قائلا :

"كنت أتقدم بلوائي المدرع في هذا السهل الفسيح (وكان ضابط الركن البريطاني يؤشر بعصاه إلى الجهة التي تقدم منها اللواء)، وعندما وصلت طليعة اللواء إلى ذلك المكان، واجهته نيران مقاومة دروع عنيفة من قبل العدو الألماني، أوقعت بها خسائر كبيرة. حاولنا القضاء على هذه المقاومة إلا أن العدو كان شرسا ولم تضعف مقاومته، الأمر الذي جعلنا نطلب إسنادا جويا لإسكات تلك المقاومة، بعد أن أخر تقدم اللواء لمدة 48 ساعة، كانت ثمينة في إعطاء القوات الألمانية فرصة للاستعداد في مواجهتنا.

وما أن انتهى التسجيل الصوتي لقائد اللواء، إلاّ وأحد الأشخاص مرتديا اللباس المدني قد قفز أمامنا من بين الحضور وقال : أنا (المقدم فون لوك) قائد قوة المدافعين، التي اعترضت تقدم القوات البريطانية كما تحدث عنها قائد اللواء في تسجيله الصوتي.

كنت متمركزا في ذلك الموقع (مشيرا له بيده)، أقود كتيبة من القوات الخاصة (SS) بموجود يقل عن 60 % من قوتها، ولكني كنت مصمما على أن ندافع عن هذا المحور بقوة، ونمنع تقدم القوات البريطانية لأطول وقت ممكن، لكي نفسح المجال لباقي قواتنا بالاستعداد لصد الهجوم . فتمكنت فعلا من تأخير تقدم اللواء المدرع البريطاني 48 ساعة، كانت ثمينة لقواتنا.

كان ذلك المشهد وما دار به من حديث أشبه بحلم يقظة جعلنا نعيش أجواء المعركة. إذ تعرّفنا خلاله على عدوين كان قد التقيا في ميدان المعركة، وهام يلتقيان مجددا بعد انتهاء الحرب، ليرويان لنا اليوم موقفيهما في ذلك الحين، وكيف أن كتيبة مشاة بثلثي قوتها، قامت بعمل خارق في العلم العسكري، إذ تمكنت من وقف تقدم لواء مدرع يومين كاملين في سهل فسيح، كان له قيمة كبيرة في الحرب. ذلك الموقف جعلنا نعيش أجواء الحرب العالمية الثانية، ونشاهد أو نسمع أصوات بعض من شاركوا فيها.

* * *

وقياسا على ذلك.. أتمنى على القوات المسلحة الأردنية، أن تشمل في مناهجها للدورات العليا بشكل خاص، برامج زيارات دراسية إلى (ميدان المعركة)، التي خاض فوقها جيشنا الأردني العديد من معارك البطولة والتضحية، سواء كانت على مستوى الوحدات أو على المستويات الفردية، فوق أراضي فلسطين والأردن في أواسط القرن الماضي، حتى وإن كان ذلك بتنسيق مع العدو، مستهدفين الفائدة المهنية.

هذه الزيارات الدراسية لميدان المعركة، وعلى رأسها معارك : ف اللطرون، باب الواد، مدينة القدس، وفي الكرامة وغيرها، كي تعيد إحياء تاريخ الآباء والأجداد، الذين ضحوا بأرواحهم دفاعا عن فلسطين والأردن، وتعرّف الدارسين بطبيعة الأرض، التي دارت عليها المعارك الماضية وقد تدور عليها مستقبلا. ومن ثم يجري استنباط الدروس المستفادة منها، بما يزيدهم انتماء وارتباطا بوطنهم كما هو نهج الذين سبقوهم. ولكنهم في حل من ذلك، إلاّ إذا اعتبروا أن الخطر على الوطن قد زال، وأن عصر الحروب قد ولّى إلى غير رجعة، بعد أن جرى استبداله بعصر الازدهار والسلام الموهوم . . !

* * *

** الصورة للفريق المتقاعد العدوان مع المقدم الألماني ( فون لوك ) في زيارة ميدان المعركة عام 1972.

 
تابعو الأردن 24 على google news