الاردن الرسمي.. الى اين؟
اللواء المتقاعد محمود ذوقان المطر
جو 24 :
لم يواجه الاردن الرسمي منذ تأسيسه حتى اليوم ظروفاً اصعب واعقد من ظروفه في الوقت الراهن، فحرب غزة خلقت نقطة تحول مفصلية ستؤثر في المحيط الاقليمي عامة وفي كيان الدولة الاردنية خاصة نظراً لارتباط تداعيات القضية الفلسطينبة دوماً بالامن الوطني الاردني بصورة مباشرة.
السؤال الأهم، ماذا لو تم تدمير المقاومة الفلسطينية في غزة والضفة الغربية ؟ لا شك ان النتيجة الحتمية واضحة ولا تحتاج مزيداً من التحليل والاستقصاء، فحل الدولتين سيكون في خبر كان، فما لم يتحقق في زمن المقاومة والدعم الدولي والعربي والاقليمي، كيف له أن يتحقق في زمان تلاشي المقاومة وهذا الاصطفاف الدولي والسكون العربي والاقليمي المميت عن ما تفعله اسرائيل؟ ستشعر اسرائيل بالصلف والغرور بسبب عدم وجود عوائق لما تريد أن تفعل، وستضرب بعرض الحائط جميع الحلول المطروحة، وستقوم بفصل الضفة الغربية عن قطاع غزة، يرافق ذلك شن عمليات اكثر فتكاً وخطورة على مدن الضفة الغربية تمهيداً لترحيلهم الى الاردن لتحقيق حلمها بجعل الاردن وطنا بديلا للفلسطينيين، وهذا في النهاية سيضع الاردن في مأزق خطير قد يجبر فيه على احتمالية استخدام الاستراتيجية المباشرة (استخدام القوات المسلحة في الحرب) لمنع حدوث ذلك وللدفاع عن امنه ومصالحه الوطنية.
الصراع المرتقب مع الاردن هو صراع وجود وليس صراع حدود، وهذا لا يعني اننا دعاة حرب او نروج لها ، لكنه تهديد قادم بدون استئذان مهما كانت الادوات السياسية قوية، فالسياسية الاردنية الحكيمة على طول حياة الدولة الاردنية لم تستطيع منع نشوب الصراعات او الحروب السابقة، ولهذا فإن الحالة الاردنية في الوقت الراهن ، بحاجة الى مراجعة شاملة في السياسة والاقتصاد والاجتماع والامن.
هنا وقبل كل شيء يجب أن نقف طويلاً ونفكر عميقاً للاجابة على السؤال الاهم وهو( هل يخوض الاردن صراعه منفرداً ويقلع اشواكه بيديه ، ام ان هناك امال تعلق على الاخرين بالدعم والمساندة ؟ ) ، الجواب المقنع ظهر جلياً وواضحاً بعد حرب غزة وحتى نكون اكثر دقة وواقعية فإن هذا السؤال يجب الاجابة عليه من خلال تفحص شواهد البيئة الاستراتيجية السائدة، فالموقف الدولي مساير ومنسجم مع كل ما تقوله وتفعله اسرائيل صادقه كانت ام كاذبة، اما الموقف الاقليمي وخاصة العربي لا يبدو قادرا على الوقوف مع الاردن، لأن هذه الدول تقهقرت كثيراً وانقلبت على عاقبيها عن مساندة القضية الفلسطينية واكتفى البعض بارسال الدعم المالي والاغاثي الخجول للقضية وبهدف رفع العتب، بل وأعطت معظم الدول العربية مصالحها الاقتصادية والتجارية مع الكيان الصهيوني اولوية على موقفها من القضية الفلسطينية، اما الموقف المحلي فهو اقوى المواقف الداعم لخوض اي صراع محتمل ولكنه يحتاج الى اعادة النظر في جميع جوانب الترهل المنتشر فيه، وقد نستطيع القول في مواطن سوء الادارة فيه والتي قد تعرضنا لا قدر الله للضعف والخسارة أو القبول بحلول لا تتناسب مع امالنا وطموحاتنا.
الاردن وشعبه ظلّ على طول الزمن صاحب همة وعزيمة، نصيراً للحق مسانداً لقضايا الامة ، لم يتأخر يوماً عن نداء الواجب، ولكن السؤال المهم، هل ادارة الدولة الاردنية قادرة على تعبئة موارد الدولة في الحرب وهل لديها الخبرات اللازمة لذلك؟ خاصة اننا دولة لم نخض صراعاً مسلحاً على مدى خمسين عاماً، ونحن هنا لا نشكك ابداً في قدرات القيادات الاردنية ، لكن من يدرس تاريخ الصراعات والحروب والتحولات الجوهرية في سياسات الدول يتوصل الى حقيقة هامة وهي ان لكل مرحلة رجالها وقادتها الحقيقيون القادرون على دعم النظام السياسي وخلق حالة من الثقة في ادارة الصراع، عارفين لمفردات الامن الوطني ، ينظرون الى ما بين ايديهم من امكانيات وقدرات، مستفيدين من تجارب الامم في النضال وأهمها ما جرى في غزة ، فهذا البلد المحاصر عديم الموارد والامكانيات ليس لديهم لا ماء ولا كهرباء ولا دواء ، استطاعوا الصمود امام اقوى الة عسكرية في العصر الحديث ، فكيف بنا نحن اذا كنا قادرين أن نستغل موارنا الذاتية والمتواضعة في اعداد الدولة للحرب .
لقد تحدث معالي وزير خارجيتنا الموقر ايمن الصفدي بحديث مهم يقدر ويحسب له حول عدم امكانية الاردن التوقيع على اتفاقية المياه والطاقة مع الكيان الصهيوني، ان هذا الاجراء هو اولى الخطوات التي يجب البناء عليها، وهي تعتبر خطوة مهمة من خطوات الاستقلال الذاتي للقطاعات الاقتصادية المهمة في الدولة الاردنية، والتي هي عصب حياة الاردنيين وبنفس الوقت تشكل جزءاً اساسياً وهاماُ من اعداد موارد الدولة الاقتصادية في اي صراع محتمل قد يقع، وهذا لا يعني اننا سنتوقف عند هذا الحد، فيجب الاستمرار في تحقيق مزيد من سيطرة الادارة الحكومية على مواردها في كل المجالات خاصة الاقتصادية، لانها هي عصب الحرب واهم الركائز الاساسية في ادارتها ونجاحها.
حروب اليوم لم تعد معزولة عن الحاضنة الشعبية للدول، بل اصبحت هذه الحاضنة العامل الابرز في الصمود والتحدي والركيزة الاساسية والقوية في تحقيق النصر، خاصة للدول ذات الامكانيات المحدودة، لقد تعرضت الحاضنة الشعبية الاردنية للكثير من التغيير خلال العقود الماضية خاصة مع الانتشار الهائل لاستخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي اثرت على طبيعة المجتمع الاردني وابعدت شريحة كبيرة منه عن القيم الاردنية الاصيلة في العادات والتقاليد وتعاليم الدين الحنيف، فظهرت به الكثير من الآفات والتشوهات الاجتماعية القاتلة والتي من شأنها اضعاف المجتمع وقدرته على الصمود، وعليه فإن هناك حاجة ماسة لنا في هذا الوطن لاعادة النظر في توليف اساسيات مجتمعنا من جديد لتتلاءم ومتطلبات الموقف الراهن.
لم يعد مقبولا الدور الذي تلعبه وسائل الاعلام الحالية من حوارات احياناً قد تكون بائسة وينتدب اليها الاقارب والاصدقاء والمعارف بهدف الشهرة والظهور الاعلامي على حساب المحتوى الجيد الذي تنعكس اثاره الطيبة على المجتمع، يجب ان تستدعي وسائل الاعلام من جديد اصحاب الخبرات الحقيقية في السياسة والاقتصاد والاجتماع والامن والتي بدورها تكون داعمه للقوات المسلحة والاجهزة الامنية المختلفة لاداء دورها الفاعل في الازمات الكبرى، وهنا يجب ان لا ننسى دور رجال الدين والعلماء في اعادة بث روح الجهاد والصمود وقيم الولاء والانتماء للوطن والدين.
لا اريد ان اتحدث كثيراً في الجانب السياسي، والحق أقول ان لدينا نظاما سياسيا له قدرات فاعلة على المستوى الدولي والاقليمي والمحلي، ويستطيع المناورة بذكاء خاصة خلال الازمات الكبرى، ويعتبر احد اهم نقاط القوة في الدولة الاردنية، ولكن لا ضير ومع وجود هذا العامل الناجح ان نعيد النظر في تعزيز القوة في الاحزاب ومؤسسات المجتمع المدني والنقابات وتقوية دور مجلسي الاعيان والنواب باختيار نخب قادرة على دعم النظام السياسي ليتحرك بقوة في جميع الاتجاهات. يجب الابتعاد في الظرف الراهن عن اصحاب المصالح والاجندات الخاصة والانتهازيين وتعزيز دور العشائر الاردنية من كافة الاصول والمنابت والابتعاد عن المتنطحين للصدارة وكما يسميهم الاردنيون (شيوخ الصيني).
لقد لعبت القوات المسلحة الاردنية والاجهزة الامنية دوراً مميزاً في تاريخها وما زالت قادرة على تنفيذ مهامها بكفاءة واقتدار، وأصبحت جوهرة الاردن الحقيقية وميزانه الاستراتيجي، ونحن جميعاً نفخر بجنودها وضباطها البواسل، هذا الجيش الذي لم يدخل قتالا حقيقياً منذ خمسين عاماً، انسجاما مع ظروف الدولة في الاستقرار والسلام، جاء الوقت الذي يجب ان نعيد فيه النظر بطريقة تفكيرها والاستعداد لما هو قادم، والتي قد تكون الحرب هي احدى خياراتها، هناك اسئلة كبيرة وهامة تستطيع القيادات العسكرية الاجابة عليها ولا يتسع المجال للاجابة عليها في هذه السطور؛ هل نحن بحاجة الى اعادة والتأهيل والتدرب لتتناسب مع الصراع المحتمل؟ هل مازالت الدبابة والمدرعة سلاحا يعتمد عليه في معارك ضد عدو يمتلك كل انواع التكنولوجيا العسكرية؟ هل نحن بحاجة لإعادة النظر في الجندي المتمترس بالارض والمسلح جيداً ليجعل مهمة اعدائه صعبة ومستحيلة؟ هل نحن بحاجة لإعادة النظر بكيفية اجراء عمليات الامداد اللوجستي لقواتنا المسلحة وبطريقة تختلف عن المعهود؟ كيف تستطيع استخباراتنا الاستراتيجية الولوج الى نقاط ضعف اعدائنا لنتمكن من تحسين الاداء؟ جميعها اسئلة تحتاج الى تحليل دقيق للخروج باستنتاجات وتوصيات منطقية وواقعية تتلائم مع التحديات والتهديدات الاستراتيجية القادمة.
وأخيراً فإن الواجب علينا ان نكتب عن قضية فلسطين ليس من اجل الشهرة بل من اجل النصرة، ولا نكتب لها من وجهة نظر بعض ابواق المعارضة التي تتصيد مواقف الدولة، بل نكتب ايماناً بقضيتنا العادلة وحباً في هذا الوطن الغالي وانسجاماً مع نظامنا السياسي العريق وعلى رأسه جلالة الملك الذي يسعى وبكل طاقتة للخروج من هذا المأزق الخطير. وعليه فإن اُخذ بالرأي فبه ونعم، وإن لم يؤخذ به نكون قد ارضينا ضمائرنا وانكرنا المنكر وذلك اضعف الايمان، فلا مجال اليوم للمجاملات وترديد الشعارات السخيفة لان الوطن مُهدد، ولا يحتاج الموقف وبعد اشارات وتصريحات العديد من رجال الدولة الاردنية حول خطورة الموقف واحتمالية الانزلاق لما هو ابعد اي تعليق، ومن هنا يجب الهرولة للعمل واجراء التغييرات التي تلزم للخروج بمقاربات تتناسب مع امكانياتنا وقدراتنا الذاتية وعدم الارتهان للكذب والدجل الغربي بوعود حل الدولتين المتكرر بعد حرب غزة والذي عرفه الاردنييون وجميع ابناء الامة على مدى اكثر من سبعة عقود وكانت نتائجه أننا عدنا من حيث اتينا، كل الاردنيون يجب ان لا يغيب عن بالهم أيضاً بأن جميع اعمالنا وجهودنا ليست مرتبطة فقط بصراع محتمل مع اسرائيل ، فاتجاهاتنا الشمالية والشرقية مهددة ايضاً ولا احد يستخف بما جرى على حدودنا الشرقية واعتبارها اعمال غوغائية لنصرة اهل فلسطين، بل هي عمل مدبر ومحكم لنشر الفوضى في الاردن ويؤكد على النوايا والمؤشرات السابقة لاختراق هذا البلد والعبث بأمنه ويصح القول في هذا الامر بأنه حق يراد به باطل.