الأردن والجبهة الشمالية
جو 24 :
تقبّل الله جميع شهداء الواجب من نشامى قواتنا المسلحة وأجهزتنا الأمنية الذين قضوا نحبهم وهم يذودون عن حِمى الوطن ضد آفة المخدرات المدمّرة.
الجهاد ضد المخدرات، سواء في وجه عصابات التهريب الخارجية، أو أعوانهم ووكلائهم الداخلين، أو شبكات الترويج والبيع والتعاطي، هو واجب مقدّس لا يقل قدسيّة وشرفا عن القتال ضد أيّ عدوّ محتلّ غاشم.
تجارة المخدرات هي أقذر جريمة في العالم، بكونها تعمل على تدمير أجيال ومجتمعات وأوطان بأكملها، وبكونها تنفتح على جميع أنواع الجرائم والموبقات الأخرى من قتل، ودعارة، وإتّجار بالبشر، وفساد، وتبييض أموال، وتهريب أسلحة، وإرهاب .. إلى آخر القائمة الشيطانية.
ولطالما كان الأردن بحكم موقعه المتوسط محطة عبور رئيسية لتجّار المخدرات وشحناتهم المسمومة، خاصة تلك القادمة من الشمال باتجاه دول الخليج جنوبا، حيث مستوى الدخل المرتفع والقدرة الشرائية الأقوى نسبيا قياسا ببقية دول المنطقة.
ومع توالي سنوات الأزمة السورية، وما صاحبها من انفلات أمني وعسكري ما تزال آثاره وتبعاته ماثلة ومستمرة للآن، ازداد حجم المخاطر التي تمثلها الحدود الأردنية الشمالية مع الشقيقة سوريا.
تصاعد وتيرة عمليات التهريب القادمة من الشمال في الآونة الأخيرة، ولجوء المهرّبين إلى طرق غير تقليدية للتهريب مثل الطائرات المسيّرة، واستهدافهم الآثم لنشامى قواتنا المسلحة والأجهزة الأمنية.. جميع هذه العوامل دفعت السلطات الأردنية لدقّ ناقوس الخطر، وتكثيف جهودها كمّا ونوعا من أجل تأمين وحماية الحدود الشمالية.
غيرة الأردنيين على أمن وطنهم وأمانه، وفجيعتهم بإخوانهم نشامى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية، جعلت بعض الأصوات تعلو مطالبةً السلطات الأردنية بمطاردة المهربين داخل الأراضي السورية، وتنفيذ عمليات لاستهدافهم وتصفيتهم وتدمير أوكارهم ونقاط انطلاقهم في الداخل السوري.
هذه المطالبات التي قد تبدو للبعض وجيهة ومبررة للوهلة الأولى، لا تخلو من مخاطر ومحاذير تدركها السلطات الأردنية تماما، ولا تستطيع تجاهلها أو التغاضي عنها، ومن جملة ذلك:
- تنفيذ الأردن عمليات مكافحة في الداخل السوري قد تكون مدخلا لتوريط الأردن وجرّ قدمه للعب أدوار أمنية وعسكرية أكبر في جنوب سوريا.
- تنفيذ الأردن عمليات مكافحة في الداخل السوري قد تسهّل على السلطات السورية التنصّل من مسؤولياتها بهذا الخصوص، وإلقاء المشكلة على عاتق الأردن، وجعلها مشكلة أردنية بحتة.
- دخول قوات أردنية إلى الداخل السوري قد يزيد من تعقيد المشهد الداخلي السوري المعقّد أصلا، وإمكانية تفسير هذه الحركة من قبل بعض الدول والقوى الإقليمية بأنّها موجهة ضدها، خاصة في هذه المرحلة الحساسة.
- دخول قوات أردنية إلى الداخل السوري الآن قد يفتح الباب لاتهام الأردن بمحاولة إرباك طرق الإمداد والتزويد المتّجهة للمقاومة اللبنانية في الجنوب اللبناني، والتي تعمل حاليا على إسناد المقاومة الفلسطينية في غزّة وتخفيف وطأة الجبهة المفتوحة التي تشنّها عليها ماكينة الحرب الصهيونية.
- دخول قوات أردنية إلى الداخل السوري يتعارض مع الموقف المبدئي الذي تبناه الأردن وحافظ عليه رغم الضغوطات الهائلة طوال سنوات الأزمة السورية، وهو احترام سيادة الدولة السورية ووحدة أراضيها.
خلاصة الكلام، قيام الأردن بتنفيذ عمليات مكافحة أحادية الجانب في الداخل السوري هي مسألة قد لا تُحمد عقباها، وربما تؤدي إلى نتائج وآثار جانبية عكسية.
وفي المقابل، لطالما أثبت نشامى القوات المسلحة والأجهزة الأمنية الأردنية قدرتهم على صون وحماية الأردن انطلاقا من ترابهم الوطني وفي حدود هذا التراب الطاهر. وإذا لم يكن هناك بدّ من القيام بعمليات في الداخل السوري فليكن ذلك بالتنسيق مع السلطات السورية وبالتعاون معها.
أمّا الحل الجذري طويل الأمد الذي يمكن التعويل عليه فهو مساعدة الدولة السورية في استعادة عافيتها، وقدرتها على بسط سلطتها وسيادتها على كامل الجغرافيا السورية والتراب السوري، وبما يمكنّها من الاضطلاع بالدور الأمني المتوقّع منها على الجانب المقابل من الحدود.
أمّا أغرب المواقف التي تخللت النقاشات الدائرة عبر الفضاء العام، محاولة البعض تصوير الاهتمام الرسمي والشعبي الأردني بالجبهة الشمالية وآفة المخدرات والتهريب كمحاولة إعلامية دعائية للفت الأنظار عن "الجبهة الغربية" وما يجري في فلسطين. ومحاولة البعض الآخر تصوير ما يحدث في الجبهة الشمالية كأولويّة وطنية مسبّقة على ما يحدث في فلسطين.
وحقيقة الأمر أنّ كلتي الجبهتين الشمالية والغربية أولوية وطنية ملحّة، باعتبار أنّ منظومة الأمن والأمان هي كلٌّ واحد لا يتجزّأ، وباعتبار أنّ مكافحة "طاعون المخدرات" لا تقل أهمية عن مكافحة "طاعون الصهيونية" والعكس صحيح من منظور الأمن القومي الأردني والمصلحة الوطنية الأردنية العليا.