jo24_banner
jo24_banner

يا.. فتى

ماهر أبو طير
جو 24 : كنا مجموعة من النواب والصحفيين، واليوم سبت، والعام عام تسعة وتسعين، ولم نكن نعرف ماذا يعني السبت،والمسؤول الامني الذي يرافق الوفد يأخذنا الى الحرم الابراهيمي في الخليل، لزيارته والصلاة فيه، في يوم لا يدخل فيه المسلمون المسجد الابراهيمي؟!.

عبرنا شارع الشهداء في الخليل، ومن هناك الى بوابات المسجد الابراهيمي، وعشرات المستوطنين، يبدأون برمي سياراتنا بالحجارة والاحذية، احتجاجاً على الزيارة في يوم سبت، والرشاشات تبدأ باطلاق نيرانها من فوقنا ومن تحتنا، حتى كأننا وسط معركة.

حرمونا يومها من زيارة المسجد الابراهيمي، ونجونا من الموت، وبالكاد خرجنا من الازقة الضيقة، وسط هتافات المستوطنين، واطلاق النار في الهواء، ورمي الحجارة علينا، كانت ساعة صعبة جداً، تصّعدت فيها ارواحنا.

في الزقاق الضيق عجوز من الخليل، تسعيني هو، وقف وقد لبس اللباس العربي، وامامه ثلاثة كليو غرامات من البهارات، يعرضها للبيع، لم يرف له جفن امام المشهد، وقد رأى حالة الهلع التي انتابتنا، امام هول المشهد.

يقف هناك منذ دهر، لا يربح سوى الوقفة في الزقاق، واذ تسأله يقول وهو في هذا العمر ان الوقفة، مجرد الوقفة، وعدم ترك الزقاق للمستوطنين فرادى خير من الدنيا وما فيها.

تذكرت العجوز الخليلي، وانا ارى اقتحامات الاقصى كل يوم، والنية الواضحة لتطويع المسلمين في القدس لقبول التقسيم لاحقا، وتهيئتهم نفسياً، والاجيال الجديدة لا تستثارأعصابها الباردة كما الاجيال التي مضت، كأن الامر لا يعنيها،وكأن القدس لا تخص احداً.

وجهه ابيض، لحيته خفيفة ،منتصب القامة، لباسه باللون البني، شاربه لا يهتز. لا انساه ابداً. صوت الرصاص فوق رؤوسنا. وهو يبتسم ويقول هذا هو حالنا كل يوم، بل يمازحني يومها بمرارة قائلا.. ذق يافتى قليلا من هذا الكأس!.

ثلاثة اكياس من البهارات المختلفة، كل كيس لا يحوي اكثر من كيلو غرام واحد. يبيع البهارات فرطاً. ويقف كل يوم في السوق، وكأنه ينتظر شهادة يستمطرها، يستسقيها في الخليل.

كأن وجهه امامي، يناديني. اراه هنا في مغارة الارواح تحت مسجد قبة الصخرة، والمغارة صليت فيها ركعتين ذات يوم، ونزلت لها عبر احد عشر درجة. يومها اشتريت خنجراً من البلدة القديمة في القدس، وحملته معي الى داخل مسجد القبة. بقي معي الى يومي هذا.

مغارة الارواح تحت مسجد القبة الذهبية،والعجوز من الخليل،مازالت روحه فيها.تصلي هنا.هل يعرف احد ماهي اخبار هذا الشيخ من الخليل،بعد هذه السنين.اشتاق اليه.واراه في المغارة ُيصلي صلاة التسابيح.هل يعرفه احد غيري،ليحكي لي عن اخباره؟!.

هنا اثر قدم الرسول في مسجد قبة الصخرة،وهو أثر انغرس في الصخر،عند بدء رحلة المعراج،وامتطاء البراق،وعلماء هنا وهناك ينكرون هذا الاثر،ونسبته الى قدم النبي صلى الله عليه سلم.

ذات مرة- وهذه حدثت فعلا - وضعت صورتي الصغيرة داخل الصخرة واحكمت وضعها في شق في الصخرة التي بها اثر الرسول،حتى تبقى هناك الى ابد الآبدين،حنيناً وتعلقاً.

بعد شهر جاء احد اقاربي من القدس،واحضر لي صورتي،ولما سألته مذهولا كيف اكتشفها،فقال انه وضع يده داخل الاثر الصخري للقدم،ذات زيارة للمسجد،ولامس طرف الصورة،بالصدفة،فلما اخرجها واذ به وجهاً لوجه معي،ولما كان يعتزم العودة الى عمان،حملها معه مستغرباً وجودها هنا؟!.

يا الهي،لماذا لم يكتشفها احد غيره،ولماذا وقعت في يده فقط،وهل هذه علامة عدم قبول للفعلة البدعة،ام ان الرسالة غامضة وغامضة جداً،وكأن اعادة الصورة لازمة،واعادتها لن تتم الا عبر شخص يعرف صاحب الصورة حصراً؟!.

هنا بئر الزيت تحت المسجد الاقصى،وهذه بئر كانت تجمع الزيت من تبرعات المسلمين لايقاد سراجات المسجد الاقصى،وعددها في زمان العزعشرين الف سراج تضيئ كلها من شجرة «لا شرقية ولا غربية».

هاهو الشيخ الجليل من الخليل،يسكب الزيت المبارك في البئر،لاتقولوا لي انه رحل،فقد رأيته ثلاث مرات حتى الان.

مرة بعيني في الزقاق الضيق،وهذه حدثت فعلا،مرة ببصيرتي في مغارة الارواح،ومرة بقلبي عند بئر الزيت الذي لا يعرف عنه كثيرون،ولا عن حكايته في التاريخ.

سألت العجوز من الخليل وقد كان روحاً في مغارة الارواح،لماذا تم رد صورتي الي،من عند أثر الرسول،ولماذا وقعت حصراً في يد ابن عم لي،بدلا من ايدي عشرات الاف الزائرين،حتى يحملها ويعيدها الي في عمان،كنت اخشى ان اكون مذموماً مردوداً؟!.

تبسّم العجوز وقال...نريد منك وقفة في وجوههم،مثل وقفتي في الزقاق،لا نريد منك مجرد حنين،ولا مجرد كلمة،نريد منك دمك،ولاشيء غير دمك،و..»الصورة شقيقة الكلمة».. ولا الصورة ولا الكلمة تعيدان اليك الاقصى يافتى!.

سكت وزاد..قل للفتيان يافتى نريد دمهم،ولا شيء سوى الدم!.


mtair@addustour.com.jo


(الدستور)
تابعو الأردن 24 على google news