من يده في الماء ليس كمن يده في النار . . !
فريق ركن متقاعد موسى العدوان
جو 24 :
يُقال في الأمثال الشعبية : "من يده في الماء ليس كمن يده في النار، ومن لم يجرب الابتلاء ليس كمن جربه وعانى من مرارته، وأسوأ الناس خلقا ومروءة وعقلا، من ينتقص من محن الناس، ويمثل أدوار البطولة عليهم وهو متكئ على أريكته، لم يجربها ولم يخضها، لأن الكلام شيء والفعل والامتحان شيء آخر، وشتان بين المقامين . . ! ".
فعندما أكتب أحيانا عن معاناة المدنيين في الحرب وخاصة في حرب غزة، وأبين بعض سلبياتها وضرورة حماية المدنيين، فإنما أعبّر عن مشاعري تجاه أولئك الناس، لأنني شيئا من المعاناة في مواقف صعبة خلال حربين سابقتين في خدمتي العسكرية.
ولكن قبل أن يجف حبر ما كتبت، ينطلق جنرالات الحرب المدنيين، ليعلّموني درسا وكأني أجهله، بأن حرب المقاومة والتحرير واجبة، وأن سقوط آلاف الضحايا من المدنيين العزّل، حتى وإن كان بلا مقابل ليس له قيمة، لأنه جهاد في سبيل تحرير الوطن المغتصب، متناسين قوله تعالى : ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ).
جنرالات الكلام أولئك، لا يعرفون أنني كنت قائدا للقوات الخاصة الأردنية في بداية عقد الثمانينات، والتي كان من اهم اختصاصاتها، القيام بحرب العصابات والمقاومة، أو ما يطلق عليه الحرب غير النظامية ضد العدو المحتل.
كما أنني أعرف أسبابها ومقوماتها وضرورة تقدير الموقف لكيفية تنفيذها. وحول هذا الموضوع فقد كتبت العديد من المقالات، التي نُشرت على المواقع الإخبارية المحلية، وعلى موقع رأي اليوم اللندني.
وفي هذا المجال سأورد القصة الحقيقية التالية : الفريق علي الحياري عليه رحمة الله، كان في عقد الخمسينات قائدا للفرقة الأولى في الجيش الأردني برتبة عميد، ومقرها في منطقة ( خو ) شرقي مدينة الزرقاء. وكان الحياري معروفا بعسكريته الصارمة، إذ كان عندما يتحرك من مقر قيادته، قاصدا زيارة القوات في الضفة الغربية، كانت الكتائب تتخذ حالة الطوارئ استعدادا لاستقباله.
في إحدى الليالي، قام العدو الإسرائيلي بالاعتداء على قرية في الضفة الغربية، فتم تحريك قوة لنجدتها من الوحدات الاحتياطية في المنطقة. حدثت أخطاء قيادية في قوة النجدة خلال تنفيذ العملية. فطلب قائد الفرقة عقد اجتماع لضباط اللواء بمختلف رتبهم في تلك المنطقة، كي يتحدث إليهم عن الأخطاء التي ارتكبت في المعركة، وتوجيههم لكيفية التعامل مع مثل هذه الحوادث مستقبلا.
وبعد نهاية المحاضرة للحضور ختم الحياري قائلا : " فلسفات ضباط صغار . . لماذا لم يعملوا كذا . . ولماذا لم يتصرفوا كذا . . لا أريد أن أسمع . . القتال مع العدو مستمر . . وقد خصصنا قطعة أرض قريبة من موقعكم هذا، لتكون مقبرة عسكرية . . فمن يحالفه الحظ منكم في المعارك القادمة سيدفن فيها ". فران الصمت على الجميع ولم ينبس أحدهم بكلمة . فقائد الفرقة يعلم أن الجالس في المحاضرة ويتحدث بشجاعة الغائب، ليس كمن يقاتل في المعركة ويعاني من ظروفها القاسية وويلاتها.
وعلى هذا المنوال نقرأ أحاديث وتعليقات الجنرالات المدنيين، الذين لا يتجاهلون ما يجري من قتل للمدنيين، وتدمير للمنازل فوق رؤوس ساكنيها، وهم جالسون بعيدا عن أتون الحرب، لم يفقدوا قريبا أو صديقا، ولم يُهدم لهم بيتا لا سمح الله.
ولو تحدثوا وهم قريبا من الحدث على الأقل، لبصمت لهم على أقوالهم بعشرة أصابع، ولكنهم يتحدثون من مدن بعيدة عن الحدث، وأيديهم في الماء البارد، وعلى الأرائك متكئون . . !
التاريخ : 15 / 5 / 2024