ما بين "جعفر الخصاونة" و "بشر حسان"!
كمال ميرزا
جو 24 :
وطنيّاً أ و قُطريّاً، فإنّ أكبر خطر يتهدّد الأردن حاليّاً هو "الوطن البديل" أيّاً كانت الصيغة التي تحاول بعض القوى تمرير هذا المشروع من خلالها: الكونفدراليّة، المملكة الهاشميّة، إعادة الارتباط، التهجير، الترانسفير، دور أمنيّ للأردن في الضفّة الغربيّة، حماية المقدّسات، المواجهة العسكريّة طوعاً أو كرهاً، كوكتيل من هذا وذاك.
وعربيّاً أو قوميّاً، فإنّ أكبر خطر يتهدّد الأردن حاليّاً هو تصفية القضيّة الفلسطينيّة نهائيّاً على يد العدو الصهيو - أمريكيّ، وإجهاض مشروع الدولة الفلسطينيّة المُحرّرة والحُرّة، وإلغاء حقّ العودة والاستعاضة عنه بتعويضات (ستقبضها غالباً بالإنابة أو ستسمسر عليها أنظمة مستضيفة للاجئين).
ودينيّاً أو إسلاميّاً، فإنّ أكبر خطر يتهدّد الأردن حاليّاً هو نجاح الجماعات الصهيونيّة المتطرّفة بتنفيذ مخططاتها تجاه المسجد الأقصى والقدس، أو إلغاء وتحييد وتفريغ الوصاية الأردنيّة، أو حتى مجرد نجاح العدو الصهيونيّ في انتزاع اعتراف عربيّ أو إسلاميّ أو دوليّ بحقوق ما ولو صُغرت داخل الحرم القُدسي أو في المدينة القديمة.
ودوليّاً أو أمميّاً، فإنّ أكبر خطر يتهدّد الأردن حاليّاً هو ازدواجيّة معايير العدالة الدوليّة، وتهافت مؤسساتها، وتفريغها من معناها وجدواها، وذلك في ضوء هيمنة القوى الاستعماريّة الكبرى عليها، وعدم القدرة على التعويل عليها، وعجزها المزري وتسويفها المخزي في الاتيان بتحرّك حقيقيّ جادّ إزاء الإبادة الجماعيّة والتطهير العرقيّ والجرائم ضد الإنسانيّة التي يقترفها العدو الصهيو - أمريكيّ بشكل ممنهج ضدّ الشعب الفلسطينيّ.
وتتراكب وتتداخل وتتكالب هذه التحدّيات مجتمعةً لتشكّل ما يمكن اعتباره "الخطر الوجوديّ" الأكبر الذي يتهدّد الدولة الأردنيّة منذ نشأتها، وذلك بحكم موقع الأردن الجيو - سياسيّ، وبكونه "خطّ المواجهة" الأطول مع العدو الصهيونيّ ومخططاته وأطماعه التوسّعيّة، وبكونه الشقيق التوأم لفلسطين، أو "شِق التوم" باللهجة العاميّة الدارجة.. في حين أنّ هناك قوى إقليميّة ودوليّة تريد للأردن أن يكون شِق التوم لـ "إسرائيل" وليس فلسطين، و/أو غرفة العمليات المتقدّمة الجديدة في المنطقة لـ "حلف الناتو" بقوّاته ومخططاته وعقيدته العسكريّة!
في ظلّ مثل هذه الظروف، والتي ألقتْ بظلالها حتى على الانتخابات النيابيّة الأخيرة، كان متوقّعاً في الأردن تكليف شخصيّة وطنيّة قياديّة "كارزماتيّة" وازنة ذات ثقل سياسيّ نوعيّ، وقبول شعبيّ واسع وهيبة شعبيّة واسعة، وتاريخ معروف ومشهود من العمل العام وبيروقراطيّة الدولة "الصلبة" التي لم تطالها "سيولة" التطوير والتحديث والتعاون المشترك.. وذلك لتولّي منصب رئيس الوزراء، وقيادة الفريق الحكوميّ في هذه المرحلة الحسّاسة، والاضطلاع بشكل حقيقيّ وعمليّ وملموس بأعباء "الولاية العامّة" التي يُفترض أنّ الدستور الأردنيّ قد أناطها بالسلطة التنفيذيّة.
بل إنّ بعض التحليلات والمطالبات قد ذهبت باتجاه وجود حاجة موضوعيّة مُلحّة لتشكيل حكومة "إنقاذ وطنيّ" تقود دفّة الوطن والدولة في مثل هذه الظروف الحرجة.
لذا، ومع احترامنا لشخص الدكتور "جعفر حسّان" وسيرته الذاتيّة ومسيرته الوظيفيّة، إلا أنّ قرار تكليفه بتولّي رئاسة الوزراء قد جاء بخلاف المأمول وأقرب إلى "المُخيّب للآمال" إذا جاز التعبير؛ فالدكتور "حسّان" هو شخصيّة تكنوقراطيّة تكاد تنحصر خبرتها وسيرتها في الشِقّ الاقتصادي بصيغته "النيوليبراليّة"، والمرتبطة بدورها بسياسات وبرامج وتوجّهات تُمليها مؤسسات دوليّة مثل "البنك الدوليّ" و"صندوق النقد الدوليّ"، أو دول وصناديق سياديّة دائنة ومانحة، أو رأس مال مغامر عابر للحدود وشركات كبرى متعدّدة القوميّات.. وهو يفتقر (أي الدكتور حسّان) إلى جوانب سياسيّة وعسكريّة وقياديّة أساسيّة قد تكون ذات أولويّة في السياق الحالي!
بكلمات أخرى، كان متوقّعاً في مثل هذا الظرف "تغيير النهج" لا تغيير الأسماء والوجوه، فمع احترامنا البالغ للأفراد وشخوصهم الطبيعيّة، ما كان سيضير الأردنيّين من وجهة نظر اعتباريّة لو تمّت إعادة تكليف نفس رئيس الوزراء ونفس الفريق الحكوميّ، فمن "بشر خصاونة" إلى "جعفر حسّان"، أو من "جعفر خصاونة" إلى "بشر حسّان".. لا فرق طالما النهج واحد!
الإصرار في مثل هذا الظرف الحسّاس على المضيّ قُدُماً في سياسة "النيوليبراليّة الاقتصاديّة"، وبرغم نتائجها الكارثيّة خلال العقدين الماضيين على سواد المواطنين الأردنيّين لصالح القلّة القليلة من أرباب المال والأعمال، أو وكلاء وممثلي "الشركاء الإستراتيجيّين" ورأس المال الأجنبيّ والشركات الإجنبيّة.. هذا الإصرار فيه إغفال ضمنيّ لمسألتين في غاية الأهميّة:
أولاً: أنّ السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة تأتي في إطار تحوّلات هيكليّة يشهدها النظام الرأسماليّ العالميّ تنحو نحو تقويض كيان ما تُسمّى "الدولة الحديثة"، أي دولة العقد والرفاه الإجتماعيّين، وما يرتبط بها من مفاهيم مثل السيادة والهويّة والانتماء، أو ما يُطلَق عليها "الدولة الويستفاليّة".. وذلك لصالح حكم الشركات المتحلّلة من عبء الأخلاق والتاريخ والجغرافيا، والتي تحتكم فقط إلى "السوق" وشروطه كـ "مرجعيّة نهائيّة" مُسبّقة على أي مرجعيّة وطنيّة وقوميّة ودينيّة وإنسانيّة أخرى.
ثانيّاً: أنّ السياسات الاقتصاديّة النيوليبراليّة الموجّهة على مستوى المنطقة، والمقرونة بالخصخصة، والتوسّع في الاقتراضين الداخلي والخارجي، وزيادة حجم الدين العام وعبّ خدمة هذا الدين، وإعادة هيكلة ملاك الدولة، والاعتماد الاتكاليّ على المشاريع المموّلة خارجيّاً كموجّه للتطوير والتحديث وعلى الـ (NGOs) كمشغّل رئيسيّ.. جميعها مرتبطة بتصوّرات وتسويات وترتيبات مضمرة للمنطقة ترمي إلى تصفية القضيّة الفلسطينيّة، وتصفية أي جيوب للمقاومة أو الممانعة، ودمج الكيان الصهيونيّ في محيطه العربي والإسلاميّ، وفرض "التطبيع" و"التعايش السلميّ" و"الأخوّة الإبراهيميّة".. وذلك عبر بوابة ما يُسمّى "السلام الاقتصاديّ"، وبسيف البطالة والفقر و"العَوَز الاقتصاديّ"!
قد يجادل البعض أنّ تركة عقود وعقود من الاستعمار، وما بعد الاستعمار، والهيمنة، والصراع، والاستقطابات الدوليّة، والاستنزاف المُمنهج لثروات المنطقة ومقدّراتها ومواردها الماديّة والبشريّة، وصولاً إلى الأمر الواقع الحاليّ، والظرف الموضوعيّ الحاليّ.. كلّ هذا لم يترك أمام الدول والأنظمة العربيّة هامشاً للمناورة والتحرّك والإتيان بتغييرات جذريّة وراديكاليّة!
مثل هذا الكلام كان من الممكن أن يكون منطقيّاً ومُفحماً ومُنتجاً لآثاره قبل (7) أكتوبر، لكن بعد هذا التاريخ فقد كان أمام جميع الدول والأنظمة العربيّة (والإسلاميّة) فرصةً لالتقاط اللحظة، واستغلال معركة "طوفان الأقصى" من أجل عكْس المسار، والتحرّر من أغلال الهيمنة والتبعيّة، وإحداث تغيير جذريّ في بُنية موازين القوى ومنظومة العلاقات غير المتكافئة القائمة.. وللأسف، لم يفلح العرب (وما يزالون) في استغلال هذه الفرصة التاريخيّة.
"تغيير النهج"، هذا ببساطة هو المطلوب، فأين "جعفر حسّان" و"بِشر خصاونة" وسائر الحكومات المتعاقبة خلال الثلاثين سنة الماضيّة من هذا المطلب الوطنيّ والأولويّة الوطنيّة؟